شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
محمد بن عبدالكريم الخطابي (ستون سنة عن وفاته)
 نظر إلى جموع الثوار الذين اجتمعوا حوله لقتال المستعمر الغاصب وخاطبهم قائلا : «أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما وإنّما أريد أن أكون حرّا في بلد حرّ، ولا أطيق من سلب حريتي أو كرامتي». وعندما انتصر في المعركة توافد عليه رجال الرّيف بأعداد غفيرة ليعلنوه سلطانا عليهم فخاطبهم قائلا: «لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهوريّة ولا محميّة، وإنّما أريدها عدالة اجتماعيّة، ونظامًا عادلاً يستمدّ روحه من تراثنا». ولمّا  سقط أسيرا في أيدي أعدائه نظر إليهم بتحدّ وقال: «افعلوا بي ما تشاؤون، من اليوم، فأنتم ظالمون على كلّ حال، ولا تنتظروا منّي شيئًا، غير هذا... أنا مسؤول عن هذا الشّعب الذي يجب أن يبقى حيّا. فقد أهزم أنا ولكن الأجيال القادمة يجب ألاّ تنهزم، لقد إستسلمت ليبقى هذا الشّعب حيّا، وبذلك أعطيه فرصة الإنتصار مستقبلا فأذهب أنا و... يبقى الشّعب». ويُذكر أنّ « تشي غيفارا»، الذي كان رفيق الزّعيم الكوبي فيدل كاسترو في كفاحه، حرص عند زيارته القاهرة على لقائه وتحيّته كأحد أوّل الملهمين لحركات التّحرر في العالم وقال له : «أيها الأمير … لقد جئت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلّم منك». إنّه الزعيم المغربي «محمد بن عبدالكريم الخطابي» الذي قضّى جزءا كبيرا من حياته مناضلا ضدّ الاستعمار الاسباني، وأنهى حياته مهاجرا بعيدا عن وطنه وعن الريف الذي عشقه وضحّى من أجله بالغالي والنّفيس. 
ولد «الخطابي» في بلدة «أغادير» في منطقة جبال الرّيف المغربي بين «مليلية» و«تطوان» سنة 1301هـ/ 1883م في وسط عائلي متديّن من قبيلة بني ورياغل إحدى قبائل الأمازيغ البربر، تربّى تربية صالحة على يد أبيه منذ نعومة أظافره، حيث قام بتعليمه اللّغة العربيّة وتحفيظه القرآن، ثمّ أرسله إلى جامعة «القرويّين» في مدينة «فاس» ليتعلّم هناك الحديث والفقه الإسلامي. نال قدرا وافرا من التّعليم، واطلع على الأدب والعلوم الغربيّة، وعمل في بداية حياته معلّما وصحفيّا في صحف ناطقة بالإسبانيّة، كما عمل مترجما من الإسبانيّة إلى العربيّة والعكس، وكان ذلك منفذا جيّدا له لتوسيع علاقاته بالإسبان، ووصل به الأمر إلى ترجمة وثائق الجيش والمخابرات، الأمر الذي أعطاه أفضليّة تكتيكيّة في حربه المستقبليّة ضدّ المحتل. وماهي إلاّ سنوات حتّى أصبح قاضي القضاة في مدينة «مليلة» في عام 1332هـ/ 1914م وعمره آنذاك لم يتجاوز الثّالثة والثلاثين.
بعد ظهور نزعته الاحتجاجيّة واعتراضه على عدد من تصرّفات السّلطات الإسبانيّة، ونتيجة لمواقفه الجريئة التي لم ترق المستعمر الإسباني، والتي تسبّبت له في اصطدامات مباشرة معه، تمّ فصله من العمل وأودع السّجن بتهمة التّخابر مع الألمان. وبعد إطلاق سراحه عاد إلى مسقط رأسه ليقاتل مع أبيه وسافر عبر قرى الرّيف من أجل استنهاض السّكان وتعبئتهم ضدّ المحتل، وتزعّم قبيلته بعد وفاة والده مسموما سنة 1338هـ/1920م وحمل راية الجهاد، وهو ابن  التّاسعة والثّلاثين، وقد حَنَّكَتْهُ التّجارِب وصقلته الأيام، ووَحَّد هدفه، فاستكمل ما كان أبوه قد عزم عليه من مواصلة الجهاد، وإخراج الإسبان من البلاد.
الخطابي محمد - مولاي موحنّد كما يسميه الأمازيغ- ليس أوّل من بدأ مقاومة المستعمر، ولكن مقاومته كانت أذكى وأقوى مرحلة في تاريخ طرد المستعمر من المغرب من 1339هـ/1921م إلى 1345هـ/1926م، فلم يكن الخطابي مؤمنا بقضيّة شعبه فقط بل في غاية الوعي بها و بحدودها، وهذا ما كسا نضاله منطقًا وعقلًا وطريقًا واضحا. لم تكن مقاومته ثأريّة فقط، بل كانت حركة بناء تستخدم العنف حين لا يوجد حلّ آخر، كان لديه تصوّر واضح لما ينبغي فعله وحدود واقعه وقدرته، والأهم من ذلك أنّه كانت لديه رؤية لحالة ما بعد الصّراع (الدّولة/الوطن)، فكان لا يحدّث أنصاره فقط عن مقاومة العدو حتّى رحيله، بل كان يجمع بين فكرة التّحرير وإقامة الدولة. 
فبعد أن كبّد الإسبان خسارة فادحة وفرض عليهم التّراجع، أعلن محمد عبد الكريم الخطابي في 18 سبتمبر 1921 تأسيس الجمهورية الاتحاديّة لقبائل الرّيف (الشّمال المغربي حاليا) وترأسها إلى حدود 27 ماي 1926 تاريخ حلّها وإجهاض تجربتها عبر تحالف السلطان المخزني مولاي يوسف وجيوش التّحالف الدّولي. وكان لهذه الجمهوريّة بنك ووزارات وعُملة خاصّة، وأُجريت فيها تحديثات مدنيّة هائلة من شقّ الطّرق وربط القرى بالشّبكة الهاتفيّة، وإصدار دستور مبدؤه سلطة الشّعب إلاّ أنّه لم يفصل بين السّلطتين التّشريعيّة والتنفيذية، ويعتبر الدّستور الرّيفي رجال الحكومة مسؤولين أمام رئيس الحكومة و هو وحده المسؤول أمام الجمعيّة الوطنيّة العامّة. 
شكّلت انتصارات الخطابي في الرّيف سواء على المستوى العسكري أو المستوى الدّاخلي في صنع خطاب وطني وبناء هيكلي للدّولة، خطرًا على كلّ الدّول المستعمرة للعالم العربي، فتحالفت فرنسا مع إسبانيا بدعم أمريكي وألماني للقضاء على مشروع الخطابي، واستعملت في المعارك كلّ أنواع الأسلحة والغازات السّامة إلى أن استسلم الخطابي وتمّ نفيه إلى جزيرة (لاريونيون) إحدى جزر المحيط الهندي، حيث قضى فيها إحدى وعشرين سنة. ورغم استسلام الخطابي، فإن كتّابا غربيين كثرا أجمعوا في مناسبات عديدة على أنّ الخطابي خسر عسكريّا لكنّه بلا شكّ انتصر أخلاقيّا، وجسّد خلال رحلته أنّ قوة الحضارة أسمى وأبقى من حضارة القوّة. 
وفي عام (1367هـ/1947م) هرب إلى القاهرة وظل مقيمًا فيها، يتابع نشاط المجاهدين وأخبارهم، وداعيا إلى استقلال موطنه عن الحماية الإسبانيّة والفرنسيّة، ومساندا لحركات التحرّر في كلّ من الجزائر، وتونس، وليبيا، وباقي الدول العربية والإسلامية، حتّى لقي ربّه في (1 رمضان 1382هـ الموافق لـ 6 فيفري 1963م).