دراسات

بقلم
أيمن الديماسي
ورقة سياسات عامّة حول إشكاليّات الصفقات العموميّة بالمنشآت العمومية (1-2)
 1 - المشكل في سياسة الدّولة المتعلّقة
بالصفقات العموميّة بالمنشات العموميّة:
 يتمثّل المشكل في عدم التّلاؤم بين نظام الصّفقات العموميّة وخصوصيّات المنشآت العموميّة. حيث أنّها مطالبة بتطبيق القانون التّجاري وبتحقيق أرباح ماليّة أو على الأقلّ المحافظة على توازناتها الماليّة خلافا لبقيّة المشترين العموميّين.
1.1. أسباب موضوعيّة متسببة في وجود المشكل:
* غياب نظام خاصّ وارد بنصّ منظّم لصفقات المنشآت العموميّة.
* غياب تقييم دقيق لمنظومة الصفقات بالمنشآت العموميّة، حيث اكتفت رئاسة الحكومة خلال سنتي 2012 و2022 بتقييم منظومة الصّفقات عموما باعتماد منظومة  Maps  دون الخوض في الإشكاليّات المطروحة والحارقة بالمنشآت العموميّة(1).كما أنّ هذه المنهجيّة تكتفي بتقييم منظومات إبرام الصّفقات حسب مؤشّرات ومؤشّرات فرعيّة دون تقديم حلول عمليّة مفصّلة .
* غياب إرادة سياسيّة لإصلاح المنشآت العموميّة، ذلك أنّ إصلاح المنشآت العموميّة يفترض منطقيّا ووجوبا مراجعة نظام صفقاتها العموميّة. 
* عدم إمكانيّة تطبيق نظام موحّد للصّفقات العموميّة نظرا لاختلاف تصنيف المنشآت العموميّة التي يبلغ عددها 218 حاليّا، حيث أنّها تقدّم حسب الحالات:
- مرفقا عموميّا دون احتكاره من طرف الدّولة (على غرار شركة نقل تونس والمؤسّسات العموميّة للصحّة والبالغ عددها 24 )
- مرفقا عموميّا محتكرا من طرف الدّولة (على غرار الصّيدليّة المركزيّة والشّركة التّونسيّة للكهرباء والغاز) 
-  خدمات عموميّة وتنشط في قطاع تنافسي (على غرار الشّركة التّونسيّة للصّناعات الصّيدليّة والشّركة الوطنيّة العقاريّة للبلاد التّونسيّة)
* تعدّد القطاعات التي تنشط فيها المنشآت العموميّة واختلاف وزارة الإشراف لم يمكّن الدّولة إلى غاية اليوم من إيجاد نظام صفقات موحّد.
* عدم الفصل بين نظام الصّفقات العموميّة التي تدخل مباشرة في المهام الأساسيّة للمنشأة (مثال: المعدّات الطّبيّة بالمؤسّسات العموميّة للصّحّة) ونظام بقية الصّفقات التي نجد لها مثيلا بأغلب المنشآت العموميّة وحتّى ببقيّة المشترين العموميّين، ممّا جعل المشكل يتجلّى على عدّة مستويات.
2.1. مظاهر مشكل عدم التّلاؤم تتجلّى على عدّة مستويات:
* على مستوى الإطار القانوني: تشتّت النّصوص المتعلّقة بالمنشأة العموميّة وبنظام صفقاتها.
* على مستوى المنظومة الرّقابيّة: غياب مرونة في الرّقابة المسبقة على الصّفقات العموميّة وطول الإجراءات وتعقيدها.
* على مستوى التّأطير والإحاطة: غياب هيكل مكلّف بإحاطة وإرشاد المنشآت العموميّة وغياب دليل للممارسات الحسنة.
* على مستوى الموارد البشريّة: نقص الإطار البشري المختصّ في الصّفقات العموميّة بالمنشآت العموميّة وبوحدة الشّراء العمومي على الخطّ برئاسة الحكومة زاد من صعوبة فضّ الإشكاليّات المطروحة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تجسّد المشكل على مستوى التّأطير والإحاطة وعلى مستوى الموارد البشريّة يشمل جميع المشترين العموميّين. كما تبرز نتائج المشكل على عدّة مستويات.
3.1. نتائج المشكل:
* على مستوى التّنافسيّة: ضعف تنافسيّة المنشآت العموميّة مقارنة مع القطاع الخاص بسبب طول إجراءات الصّفقات العموميّة. 
* على المستوى المالي: مؤشّرات مالية سيّئة بسبب طول الإجراءات وسوء تلبية الحاجيات. حيث أنّ إعلان عدّة طلبات عروض غير مثمرة أثّر سلبا على توازناتها الماليّة وعطّل المرفق العمومي الذي تحتكره في بعض الحالات وأثّر بالتّالي على المداخيل.
* على مستوى نوعيّة الخدمات وتوفير المواد: تردّي الخدمات التي تقدّمها المنشآت العموميّة وخاصّة منها التي تحتكر مرفقا عموميّا بسبب عدم ملاءمة نظام الصّفقات العموميّة لخصوصيّاتها الفنيّة. ويلاحظ عدم قدرة عدّة منشآت عموميّة على توفير مواد أساسيّة وحياتيّة كالحبوب والزّيت النباتي المدعّم والسكّر والقهوة والدّواء والبترول (أمثلة للمنشآت العموميّة: الصيدليّة المركزيّة – وكالة الكحول - ديوان الحبوب – الديوان التونسي للتجارة – الشركة التونسية للتكرير- الوكالة الوطنيّة للتبغ والوقيد – الديوان الوطني للزيت  ...).
* على مستوى المنافسة: ضعف مشاركة المزوّدين نظرا لطول الإجراءات وعدم وضوحها. 
وتجدر الإشارة إلى أنّ نتائج المشكل على المستوى المالي وعلى مستوى المنافسة يشمل جميع المشترين العموميين.
2.ضرورة التدخّل العاجل قبل انهيار المنشآت العموميّة 
 1.2. أهمّية القضيّة وأهمّية التّعامل معها: 
تتمثل أهميّة القضيّة في تبنّى المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 24 نوفمبر 2015 المبادئ العامّة لحوكمة المؤسّسات والمنشآت العموميّة، حيث تمّ في الغرض إعداد إستراتيجيّة إصلاح عامّة وقع تضمينها بوثيقة آخر مخطّط تنمية تمّ إعداده لسنوات 2016-2020 وذلك على مستوى الحوكمة العامّة، الحوكمة الدّاخليّة، الموارد البشريّة والحوار الاجتماعي والوضع المالي(2). وبهدف تطوير هذه الإستراتيجيّة ووضع خطّة عمل ناجعة تمّ عقد العديد من الفعاليّات والاجتماعات في الغرض من أهمّها النّدوة الوطنيّة المنعقدة يومي 21 و22 نوفمبر 2016  بحضور كل الأطراف المعنيّة، واجتماعات 16 و17 جانفي 2017 مع البنك العالمي؟، واجتماعات 22 و 23 مارس 2017 مع بعثة الوكالة الفرنسيّة للتّنمية(3). 
وقد أسفرت جميع هذه الاجتماعات والفعاليّات إلى إعداد مشروع لإصلاح وحوكمة المنشآت والمؤسّسات العموميّة تضمن 19 هدفا و58 إجراء تمّ عرضها خلال المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 19 جوان 2018 والذي أوصى بعديد الإصلاحات على المستويين المؤسّساتي والتّشريعي(4). كما تمّ إعداد مشروع قانون يتعلّق بحوكمة المساهمات والمنشآت والمؤسّسات العموميّة تمّ إيداعه بمجلس النوّاب بتاريخ 27 ديسمبر 2019 في مرحلة أولى (5) ثمّ وقع سحبه من طرف حكومة الفخفاخ للقيام باستشارة للعموم خلال الفترة المتراوحة بين 2 و21 سبتمبر 2020 وذلك لإدخال بعض التّعديلات (6). على أن يتمّ تنقيح الأمر 1039 لسنة 2014 فيما بعد ليضمن مرونة الإجراءات بالمنشآت العموميّة. والى حدود ديسمبر 2022 لم يتمّ إصدار هذا النصّ. 
وبتاريخ 27 جويلية 2022 أشرفت السيّدة رئيسة الحكومة على مجلس وزاري خصّص لمنظومة الصّفقات العموميّة، وتمّ استعراض حوالي 120 توصية بهدف تعزيز الشّفافيّة والنّزاهة والرّفع من نجاعة الشّراءات وترشيدها (7) ولم يتمّ التعرّض إلى الإشكاليّات الخصوصيّة للمنشآت العموميّة بالرّغم من أنّ إصلاح منظومة الصّفقات بالمنشآت العموميّة حاليّا يتنزّل في إطار فضّ مشكل افتقار السّوق إلى عدّة مواد أساسيّة وحياتيّة كالحبوب والسكّر والدّواء وغيرها.
2.2. مخاطر وكلفة إهمال التّعامل مع هذا المشكل ومنافع عدم تأجيل معالجته:
 لا يمكن تأجيل إيجاد حلّ لهذا المشكل نظرا للمبرّرات التّالية:
* مبرّرات ماليّة: يمكن التّقليص من الخسائر الماليّة للمنشآت العموميّة بتسريع منظومة صفقاتها، حيث أنّها تعتبر متصرّفا سيّئا، ولا يمكنها حاليّا استغلال العروض التّجاريّة على غرار عروض التّخفيض عند الخلاص أو العروض الاستثنائيّة بالمعارض الوطنيّة أو العالميّة. كما أنّ تأجيل البحث عن بدائل وعدم إيفاء الدّولة بتعهّداتها خاصّة مع صندوق النّقد الدّولي لإصلاح المنشآت العموميّة بما في ذلك منظومة صفقاتها سيعمّق الإشكاليّات المطروحة، وقد نواجه إفلاس بعض المنشآت وعدم قدرتها على الإيفاء بتعهّداتها.
* مبرّرات اجتماعيّة: التطرّق إلي المشكل المطروح سيسهّل مسار إصلاح المنشآت العموميّة الذي كان أحد نقاط برقيّة الإضراب العام بالمنشآت العموميّة في مناسبتين آخرها نفّذ يوم 16 جوان 2022 (8). حيث أنّ التطرّق إلى حوكمة المنشآت العموميّة يمرّ وجوبا عبر إصلاح منظومة صفقاتها.
* مبرّرات تتعلّق بالمنافسة:ارتفاع الدّيون خاصّة مع أصحاب الصّفقات قد يؤدّي إمّا إلى عدم مشاركتهم أو الاضطرار إلى عقد صفقات بأثمان قد تكون مرتفعة ممّا سيتسبب في تعميق المشكل. 
* مبرّرات تتعلّق بالمؤسّسات العموميّة للصحّة: يتعين الإسراع بإصلاح هذه المؤسّسات التي تعتبر منشآت عموميّة حتى تتمكّن من سرعة إعداد وتنفيذ صفقاتها مع ضمان شفافيّة الإجراءات ونزاهتها، خاصّة في هذا الظّرف الصحّي الصّعب الذي تعيشه البلاد.
* مبرّرات تتعلّق بالقطاعات التي تحتكرها المنشآت العموميّة: تأجيل البحث عن بدائل سيعمّق تعطيل القطاعات التي تحتكرها الدّولة.
 فكيف لنصّ تصدره الدّولة أن يساهم في تعطيل مرفق تحتكره ويتسبّب في افتقار السّوق لمواد حياتيّة. وعليه فإنّ الإصلاح قد لا يكون سهلا ولكن كلفة عدم الإصلاح يمكن أن تكون عدم قدرة عدّة منشآت عموميّة على الإيفاء بتعهّداتها في ظرف قد لا يتجاوز السنتين.
3.2. تجارب محليّة مُلهِمَة ومُهْمَلَة: 
تتمثّل الحلول الوطنيّة السّابقة في مواجهة المشكل خاصّة في:
1. إصدار الأمر الحكومي عدد 1061 لسنة2020 المتعلّق بتطبيق أحكام الفصل 22 ثالثا، من القانون عدد 9 لسنة 1989 الذي يعطي إمكانيّة استثناء المنشآت العموميّة التي تعمل في محيط تنافسي من تطبيق الأحكام المنظّمة للصّفقات العموميّة. وتضبط المنشآت العموميّة المعنيّة بأمر. وقد تمّ مؤخّرا بمقتضى الأمر المذكور استثناء 11 منشأة على أن يتمّ إعداد دليل إجراءات خاصّة بصفقاتها وشراءاتها تتمّ المصادقة عليه مسبقا من قبل مجلس إدارتها. إلا أنّه لم تتمكّن أغلب هذه المنشآت من إعداد هذا الدّليل إلى حدود شهر أكتوبر 2022. 
2. منذ سنة 2005 والى حدود سنة 2012 تمّ إبرام صفقات عامّة بالنّسبة للسّيارات الإداريّة والتّجهيزات الإعلاميّة. وتجدر الملاحظة أنّ تجميع الشّراءات المعتمد سابقا كان يشكو عديد النّقائص أهمّها سوء البرمجة وعدم تحديد الحاجيّات بدقّة، وعدم توفير الموارد البشريّة والماليّة الضّروريّة وتأخير تلبية الحاجيّات. وهو ما أدّى إلى إلغاء تجربة تجميع الشّراءات منذ سنة 2012. وعليه يمكن استخلاص بدائل تنبع من التّجارب السّابقة وتستخلص العبر من الإشكاليّات التي طرحت وتتجاوزها بآليّات جديدة منها ما يمكن نقله من التّجارب المقارنة.
4.2.تجارب أجنبيّة مقارنة جُرِّبَتْ فَنجحت:
وتجدر الإشارة إلى أنّه لا يمكن اعتماد حلول جاهزة من دول أجنبيّة مشابهة نظرا لخصوصيّة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي التّونسي. وعليه يتعيّن البحث عن حلّ ناجع وغير مكلّف يأخذ بعين الاعتبار حلول بعض التّجارب الدّوليّة الأخرى في مجال الصّفقات العموميّة. وللغرض يمكن الاستئناس بعدّة دول أوروبيّة (على غرار فرنسا، ألمانيا، اسبانيا، وايطاليا) وبكوريا الجنوبيّة والشّيلي(9) حيث أبرمت عقود إطاريّة في إطار مركزيّات الشّراء العموميّة مكّنتها من اختصار الآجال وتخفيض الكلفة وحسن التّصرّف في الموارد البشريّة. كما أنّ المزاد الالكتروني والحوار التّنافسي والعروض التّلقائيّة المعتمدة بعدّة دول على غرار فرنسا أثبتت نجاعتها ومكّنت من تحفيز المنافسة وتخفيض الأثمان في إطار شفافيّة الإجراءات ونزاهتها (10) 
الهوامش
(1) الموقع الرسمي لرئاسة الحكومة
 http://www.pm.gov.tn/pm/actualites/actualite.php?id=13707&lang=ar
(2) رئاسة الحكومة - الكتاب الابيض – التقرير التأليفي حول اصلاح وحوكمة المؤسسات والمنشات العموميّة – الصفحة 6-8
 http://www.pm.gov.tn/pm/upload/fck/File/strategie-plan-action.pdf
(3) المرجع السابق 
(4) المرجع السابق
(5)موقع مرصد مجلس .81/اhttps://majles.marsad.tn/ar/legislation/2019
(6) بوابة المشاركة العموميّة.20/http://www.e-participation.tn/consultation/129
(7) الموقع الرسمي لرئاسة الحكومة، مرجع سابق
(8) موقع الاتحاد العام التونسي للشغل /06/https://www.ugtt.org.tn/2022
(9) Banque mondiale - Conférence régionale MENA sur la passation des marchés
 https://www.worldbank.org/content/dam/Worldbank/document/MNA/Conference_regionale_passation_marches_MENA.pdf
(10).https://www.economie.gouv.fr/cedef/droit-des-marches-publics