بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 11 : قصّة الفيل في ضوء التّفكير 3/3 المنهج اللّ
 يقوم المنهج اللّفظي التّرتيلي على الإمكانات الدّلالية الكامنة في الألفاظ. وإذا كان التّرتيل لغة يعني الجمع ومنه الرّتل، فإنّ صاحب هذا المنهج يعمد إلى الرّبط بين كلّ الأوجه الّتي ورد عليها اللّفظ الواحد ثنيَ النّصّ القرآني، بالإضافة إلى توليد المعاني من كلّ استعمال ورد فيه هذا اللّفظ بعيْنه. ويرتكز هذا المنهج على إثارة المعنى انطلاقا من التّشكيل الصّوتي، ومن خصائص الصّوت من حيث المخرج والصّفات بغضّ النّظر عن اللّسان الجاري به الكلام. ففعل «رتلَ» على سبيل المثال يفيد صوت الرّاء فيه معنى التّكرار ويفيد حرف «التّاء» معنى الضّعف والاستقرار. وأمّا حرف «اللاّم» فيعني التّواصل وإعادة الانتشار. فلفظ «رَتل» حينئذ يحيل على كتلة مكوّنة من عناصر مركّبة ضمن محدّدات معيّنة لتكوين بيان له أثر أكبر من أثر كلّ عنصر وحده في الواقع. والرّتل مفردة تستعمل لإفادة مجموعة من كلّ صنف كالعربات أو الأشخاص. وهي مجموعات تنتظم في نسق خاصّ يربطها رابط معيّن كرتل الدّبابات المصطفّة في انسجام لتحقيق هدف محدّد. وعلى هذا النّسق فإنّ ترتيل القرآن يعني محاولة فهم مواضيعه بربط عناصر الموضوع الواحد المبثوثة في السّور ضمن مجموعات مؤقّتة فتكون مرتبطة بعضها ببعض برابط منطقي ينظمها وفق موضوع موحّد. فموضوع الحجّ مثلا يتطلب جمع كلّ المشتقّات المستعملة في الآيات المختلفة لرسم مساحة المعنى الوارد في هذا اللّفظ. ثمّ يتمّ جمع متعلّقات الموضوع من الألفاظ الحافّة، ثمّ الاستعانة بالمعاجم المختلفة مثل ابن منظور الّذي يقول في معجمه «لسان العرب»: «الرَّتَلُ: حُسْن تَناسُق الشيء. وثَغْرٌ رَتَلٌ ورَتِلٌ: حَسَن التّنضيد مُستوي النباتِ. ورَتَّلَ الكلامَ: أَحسن تأْليفه وأَبانَه وتمَهَّلَ فيه. وفي التّنزيل العزيز: ورَتِّل القرآن ترتيلاً، قال أَبو العباس: ما أَعلم التّرتيل إِلاَّ التّحقيق والتّبيين والتّمكين، أَراد في قراءة القرآن. وقال ابن عبّاس في قوله: ورتل القرآن ترتيلاً. قال: بَيِّنْه تبييناً»(1) . ويلاحظ هذا الباحث التّطابق بين المعنى الّذي استفاده من التّشكيل الصّوتي والمعنى المعجمي، ويعمد إلى إبراز أنّ  المعاني إذا رتّبت في أنساق، فإنّها تؤدّي إلى الهدف المناط بها وهو تثبيت فؤاد النّبي ما يستوجب القيام والتّدبّر انسجاما مع ثقل المعاني القرآنية. ويستبعد من خلال هذا التّفكير أن يتعلّق التّرتيل بتحسين الصّوت وتجويده(2). 
وبالاعتماد على هذا المنهج، تناول قصي هاشم فاخر سورة الفيل فأنجز بحثا عنونه «قوم لوط بين الفيل والهلاك». وهو بحث يتكون من قسميْن: القسم الأوّل يعرض فيه ما تطرحه هذه السّورة من إشكالات وفيه يحاور التّفسير الموروث. والقسم الثّاني تطبيقي، ينطلق فيه من الألفاظ الّتي يعتبرها مفاتيح تساعد على الولوج إلى عالم المعنى المستفاد من قبيل فيل، وطير، وأبابيل. فاعتبر أنّ هذه السّورة قد مثّلت تحدّيا كبيرا للمؤرّخين والمفسّرين على حدّ سواء، معتبرا أنّ آليات المنهج المشار إليه هي الدّليل الهادي إلى الوقوف على معانيها المتخفّية وراء عموم اللّفظ القرآني، واختزال أساليبه، مقدّرا أنّ البسملة جزء من الآية الأولى لغياب التّرقيم بعدها. ومعنى ذلك أنّ «الباء» حرف دالّ على الوسيلة ومحيل على أنّ اسم اللّه هو القانون الّذي جرى وفقه مضمون السّورة بأكملها. ويفترض هذا الباحث أنّ السّورة من النوع الآفاقي الدّاعي إلى التّأمل في أحوال الأنفس والخلق. وهذه المواضيع كانت ذات قيمة عالية في بداية تكوّن الجماعة المؤمنة الأولى إذ تحتاج إلى مزيد التّآلف الدّاخلي فيما بين أفرادها ومزيد الانسجام مع محيطها الاجتماعي المتنوّع يهودا ونصارى. ذلك هو شأن القرآن المكّي الدّاعي إلى تقويّة الإيمان باللّه ورصّ صفوف المؤمنين.
لقد تنبّه قصي هاشم فاخر إلى البناء الغرائبي الّذي تنهض عليه القصّة الإسلاميّة. وهو ما يثير الإشكالات العديدة أكثر ممّا يقدّم الأجوبة. ومن هذه الإشكالات نذكر أنّ مكّة ليست مجرّد مكان للعبادة مثل الكنيسة والهيكل وإنّما هي سوق تجاريّة وملتقى للأدب والثّقافة. ومن الإشكالات أيضا أنّ الحيّ الشّرقي من مدينة صنعاء القديمة بالقرب من السّوق العثمانيّة المعروفة بسوق الملح خالية من كلّ آثار تشهد بوجود صرح تاريخي ضخم خاصّة أنّ القُلّيس المزعومة كانت تحفة الزّمان وفريدة العصر بالإضافة إلى وجود كنائس تعود إلى فترة تسبق ولادة النّبي بخمسة قرون وهي شامخة إلى يوم النّاس هذا.
ولا يدري الدّارس وجه الصّواب في انصراف التّجار العرب من الفضاء التّجاري والثّقافي إلى معبد مسيحي مخصّص للعبادة فقط. وهو ما يدعو إلى الرّيْب في المسألة من الأساس، لأنّ حجّ العرب إلى القُلّيس يفترض أن يكون العرب كلّهم على دين المسيح حتّى يؤمّوا هذا الكنيس. ثمّ إنّ التّاريخ يروي أنّه كان في الحجاز ما يزيد عن ثلاثين كعبة، وهدم كعبة واحدة من السّهل استبدالها بأخرى. وعليه فإنّ الأجدر بأبرهة أن يهدم أكثرها أو كلّها. ثمّ إنّ هدم بيت أو عدد من البيوت الصّغيرة لا يحتاج إلى جيش جرّار يصطحب فيلة، زيد على ذلك أنّ انتقال الفيل الواحد في الفضاء الصّحراوي أمر غير مناسب لما يتطلّبه الفيلة من مستلزمات العلف والشّرب. ومن الإشكالات، الّتي وقف عندها قصي هاشم فاخر، أيضا استسلام القبائل العربيّة لأبرهة وجيشه وهو ما يتعارض رأسا مع ما عُرف به العرب من شجاعة ورفضهم للظلّم والضّيم. وقد بدا التّناقض صارخا بين المسالمة الّتي أبداها عبد المطلب والعدوانيّة البّادية في تجييش الجنود من أبرهة. وهو تناقض لا مبرّر له في القصّة ولا وجاهة فيه. ولعلّ من الإشكالات البّارزة في الرّوايات التّفسيريّة، حسب رأيْه، عدم الاتّفاق حوْل مصدر الطّيور وأشكالها وأنواعها. وكان من باب أولى أن يُسند النّصر والتأييّد إلى الملائكة بوضوح كما هو الحال مع غزوة بدر. تقول الآية: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ﴾(3)، وهو المعنى ذاته الّذي انتبه إليه ناصر بن رجب. والملاحظ أنّ الثّقافة الآشوريّة تحتوي على قصص تروي طيورا ناصرت بعض الجيوش كما هوّ الحال في الثّقافة الفارسيّة.
ومن الإشكالات الأساسيّة ما يشير إليه الباحث من خلوّ الآثار اليمنيّة من العلامات الدّالة على حادثة شبيهة بهذه الغزوة. وكان من المفترض أن يُخلّد الشّعراء العرب في معلّقاتهم الّتي تُعدّ أجود الشّعر لديْهم مثل هذه الحادثة الحائزة على نصيب وافر من النّخوة والفخر والاعتزاز بالنّصر الإلهي(4). إنّ إفراد السّورة بحادثة بعيْنها بالإشارة والتّنبيه ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلَِ﴾(5)، أمر يجعل هذه الحادثة على غاية من الفرادة والتّميّز. ولكنّ الإشكال يكمن في  تحديد هذه الحادثة المقصودة.
يجنح الباحث قصي هاشم فاخر إلى التّأكيد أنّ الرّؤية المقصودة في السّورة هي رؤية عقليّة وقلبيّة وليست رؤية حسيّة مادّية ما يعني أنّ الحادثة جرت في الزّمن الّذي سبق ولادة النّبي. ويعمد بوضوح إلى الإشارة إلى أنّ الألفاظ تستقلّ بمعان مصداقيّة هي أقرب إلى المعاني المباشرة أو الحرفيّة. ولها أيضا معان مفهوميّة تتجاوز الدّلالة الابتدائيّة، وأهمّ الألفاظ  الّتي تقوم عليها سورة الفيل هي: الفيل والطّير والأبابيل والسجّيل. ويذكّر بالقاعدة الأساسيّة في المنهج اللّفظي التّرتيلي والمتمثّلة في أنّ ارتباط المعنى المفهومي بمصداق معيّن يركن، بالضّرورة، إلى دليل وبرهان. وكلّ ذلك يدعّم فرضيّة مفادها أنّ السّورة متعلّقة بقوم لوط أساسا بدلالة الألفاظ. فكلمة «فيل» تعود إلى مادّة «فَيَلَ» وهي ذات تشكيل صوتي محيل على الانحلال وعدم الانسجام الذّاتي انطلاقا من الهوان والفشل والخذلان والسّقوط. ففي معجم «مقاييس اللّغة» لابن فارس : أنّ «الفاء» و«الياء» و«اللاّم» أصل يدلّ على استرخاء وضعف (6)، يُقال رجل فيلُ الرأي. قال الكُميْت: 
بَنِي رَبِّ الجَوَادِ فَلاَ تَفِيلُوا     فَمَا أَنْتُمْ  فَنَعْذِرَكُمْ لِفِيلٍ؟
واللّحم الفائل هو لحم الورك، يسمّى بذلك للينه وترهّله(7). ويذهب الرّاغب الأصفهاني إلى أنّ الفيل يجمع على فيلة وفيول. فرجل فيل الرّأي وفاله أي ضعيفه(8). وأمّا اللّسان فقد جاء فيه: قال رأيه يَفيل فُيُولةً: أخطأ وضعف. وفي الرّأي فيالة أي ضعف والرّجل الفالُ: الرّجل الضّعيف الرّأي، قبيحه ومخطئه وفيّله.
ولا يُخفي هذا الباحث تعجّبه من غفلة المفسّرين عن هذه المعاني المهمّة في عبارة «فيل» مقابل تمسّكهم بمصداق واحد هو المعنى الأوّل والمباشر المتمثّل في صورة الحيوان المعروف. وعلى هذا النّحو تصبح العبارة القرآنيّة دالّة على أنّ أصحاب الفيل هم أصحاب الرّأي، المخطئ والفاشل والمجانب للحكمة. وأمّا الصّحبة في عبارة «أصحاب الفيل» فهي دالّة على الملازمة والمداومة كعبارة أصحاب الأيكة وأصحاب الرّسّ. ومعنى الكيْد المشار إليه في السّورة ينسجم تماما مع ملازمة الرّأي الفاشل لأصحابه حتّى أنّهم عرفوا بهذه الصّفة. والمقصود بهؤلاء هم قوم لوط الّذين تفنّنوا في التّنكّر للقوانين الطّبيعيّة الفطريّة حين ألزموا الذّكور بالزّواج من الذّكور والنّساء بالنّساء.
وفي هذا الصّدد تجدر الإشارة إلى ما ذهب إليه التّهامي نقرة من القول: «ثمّ إنّ رسالات السّماء لم تقتصر على إصلاح العقيدة، بل شملت إصلاح الفرد والمجتمع من جوانب مختلفة تضمّنتها دعواتهم لأقوامهم بحسب ما تلبّس بهم من قبيح الخصال، وذميم الفعال. فدعوة لوط لقومه تضمّنت التّشنيع عليهم بما يأتونه في ناديهم من منكر يتمثّل في فاحشة الشّذوذ، وهو انحراف عن فطرة اللّه وهداه، وانغماس في حمْأة الرّجس والرّذيلة»(9). وأمّا اللّفظ المفتاحي الثّاني، حسب قصي هاشم فاخر، فهو لفظ «الطّير» ودلالة تشكلّه الصّوتي هي طيّ المسافات المنطلقة بطاقة تقطعها مع الثّبات، وهو التّجاوز للمكان. يذكر ابن فارس أنّ «الطّاء» و«الياء» و«الرّاء» أصل واحد يدلّ على خفّة الشّيء في الهواء. ثمّ يُستعار ذلك في غيره. والطّير جمع طائر. و«طار» تُستعمل لكلّ من خفّ ومنه تطاير الشّيء أي تفرّق . واستطار أي انتشر. وكذلك كلّ منتشر. قال الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرهُ مُسْتَطِيرًا﴾(10). وأمّا الرّاغب الأصفهاني فقد ذكر أنّ الطّائر هوّ كلّ ذي جناح يسبح في الهواء(11). وممّا تقدّم يحصل أنّ كلّ جسم طائر يسمّى بالطّير. فالطّيور المتطايرة في الفضاء يمكن اعتبارها طيورا وأجساما طائرة.
وأمّا لفظة «أبابيل» فهي من «أَبَلَ» وتشكيلها الصّوتي يحيل على  كتلة قد تتّسع وتتمدّد وتنتشر. ومنها الإبل الكثيرة المنتشرة. ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّ «الهمزة» و«الباء» و«اللاّم» أصل يعني الاجتزاء والثّقل والغلبة. والإبل الأوابل والأُبّل والأبّال أي جوازِيَ. والإبل المؤبّلة هي الكثيرة والشّديدة الّتي يتبع بعضها بعضا(12). فالطّير الأبابيل هي أجسام كبيرة قادرة على الانتشار والتّحرّك السّريع. وهو دأب الحِمم المنطلقة من البراكين الهادرة المتسبّبة في تطاير حجارة قوّية ومشتعلة. والرّمي هوّ الدّفع. وفيما يخصّ السّجّيل فهي من «سجل» ومعناه الصّوتي يتمثّل في إقامة كتلة ذات عناصر تحمل في طيّاتها القدرة على الاستجابة للتّنظيم وفق قانون محدّد. فالدّلو الحاوي للماء يسمّى بسجّيل. وكذلك الدّفتر يسمّى بالسّجلّ لاحتوائه على عناصر منظمة ومرتّبة. وما يحتويه البركان يدعى سجّيلا لأنّه جملة عناصر مندمجة ومنصهرة. والحجارة المأخوذة من سجّيل تصبح بهذا التّوضيح حجارة مأخوذة من أتون الحمم البركانيّة. فهي حجارة مُستعرة ذات طاقة كبرى. وقد أشير إلى قوم النّبي لوط في موضعيْن آخريْن من القرآن سبقت الإشارة إليْهما وهو ذكر مطابق لهذا الشّرح والتّوصيف.
وعلى هذه الصّورة يشرح القرآن غوامضه بنفسه ليوضح أنّ أصحاب الفيل هم قوم لوط، ولاسيّما أنّ المعصية إذا كانت جماعيّة فإنّها تبدو سهلة ميسورة. وقد تناول التّهامي نقرة هذه النّقطة تناولا سيكولوجيّا مفيدا حينما قال: « إنّ قوم لوط لا يشعر الواحد منهم بما قد يجره العمل عليه من تبعة وخزي. وهذا الشّعور هو الزّاجر للنّفوس عمّا لا ينبغي. فإذا انعدم هذا الشّعور حَكم المجتمع على نفسه بأنه غير صالح للبقاء»(12). والجدير بالملاحظة هو أنّ هذا الباحث يدعّم رأيه بشواهد من الواقع، إذ يذكر أنّ في التّاريخ شواهد تُثبت هذا المآل الّذي لاقاه قوم لوط من الدّمار من قبيل ما تعرضت له مدينة بونبي الإيطالية زمن الإمبراطوريّة الرّومانيّة، فقد اندثرت اندثارا كاملا سنة تسع وسبعين للميلاد تحت تأثير البركان. وهي صورة واقعية مشابهة لمّا أورده استرابون في كتابه السّادس عشر من وجوب تصديق ما يرويه أهل البلاد، أنّه كانت هناك ثلاث عشرة مدينة آهلة بالسّكان، بقي جزء كبير من سور عاصمتها «سدوم». وقد تهدّمت بزلزال ونيران وقطران حارّ ومياه كبريتيّة من البحيرة، والتهمت النّيران الأحجار، وقلبت مدنا كثيرة، فهلك معظم سكّانها(13).
ويواصل قصي هاشم فاخر معالجة هذه السّورة، فيلاحظ أنّ استخدامها لفعل «جَعَلَ» دليل على أنّ الحالة الّتي آل إليها أصحاب الفيل إنّما هي نتيجة منطقيّة لما تمّ اكتسابه سلفا عن قصد وعن إرادة واعية. وأنّ الجزاء الإلهي، عقابا أو ثوابا، إنّما هو تتويج لعمل الإنسان الحرّ بمحض اختياره. وليست الفاحشة هي السّبب المباشر لدمار عمورة وسدّوم وإنّما السّبب المباشر هو السعي  لتّغيير طبائع الأشياء.
ويخلص في آخر تحليله للسّورة، إلى أنّ هذا الفهم يخلّص القصص القرآني من الخرافيّة الّتي ألصقت به. ويرشّح البحث العلمي أداة فعّالة في بيان سماويّة القرآن واحتوائه على معان إنسانيّة خالصة. وهو في هذه النّقطة يلتقي مع التّهامي نقرة القائل: «إذا وجدنا في بعض التّفاسير أنّ من القصص القرآني ما أُقحمت فيه الأساطير الّتي اصطُلح على تسميتها بالإسرائيليّات، فلا بدّ أن ينكشف ما فيها من زيف أبعد القصّة عن هدفها الأصلي، وحاد بها عن الغاية المرسومة لها»(14). وهو عين ما سجلّه ابن القيّم في قوله: «ليس العجب من جرأة من وضع القصّة، وكذب على اللّه، وإنّما العجب ممّن يُدخل هذا الحديث في كتب العلم من التّفسير وغيره، ولا يُبيّن أمره. ولا ريب أنّ هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الّذين قصدوا الاستهزاء والسّخرية بالرّسل الكرام عليهم الصّلاة والسّلام»(15). 
وإلى هذا الحدّ من العرض والتّحليل يمكن الوقوف على النّقاط التّالية: إنّ المحور الّذي يدور حوله تفكير محمّد باقر الصّدر، وأبي القاسم حاج حمد وناصر بن رجب وقصي هاشم فاخر هو الاهتمام بالمواضيع المستخلصة من النّصّ القرآني وفق نظرة تأليفيّة انطلاقا من الجهاز اللّغوي واندراج عناصره  في ضروب من النّظم مختلفة. وإذا ركز حاج حمد على خصوصيّة المنهجيّة القرآنيّة، وركّز قصي هاشم فاخر على الطّاقة الدّلاليّة الكامنة في الجهاز اللّغوي، باعتباره لسانيّا، واعتمد ناصر بن رجب المقارنة بيْن الأديان، فإنّ محمّد باقر الصّدر قد أولى الواقع منزلة جوهريّة منه تُستقى الأسئلة المطروحة وعليه تُعرض الأجوبة المستوحاة من الآيات القرآنيّة.  
وإذ تتّفق كلّ هذه المقاربات على ضرورة الرّبط بين أجزاء الموضوع الواحد وتبويبها وفق محاور، فإنّ التّفاضل بينها يتمثّل فيما يُتوصّل إليه من الاستنتاجات وهو أمر يرتهن  إلى قدرة كلّ مفكر على استنطاق المعاني الثّاوية في كلّ آية بحساب المقام الواردة فيه.
والّذي يشدّ الانتباه، في هذا المجال، هوّ الاختلاف البائن بين المنهج اللّفظي التّرتيلي والتّفسير الموضوعي في مستوى التّعامل مع المدلولات اللّغويّة. فإذا اعتبر باقر الصّدر أنّ اللّغة ذات طاقات محدودة وليس فيها تجدّد، ولو وُجد فيها هذا التّجدّد لفقدت معناها المتمثّل في تحكيمها في القرآن وقِسْ على ذلك ما يُسْتحدث من مصطلحات(16)، فإنّ قصي هاشم فاخر يعتبر أنّ اللّغة تسمح بمساحات دلاليّة رحبة قادرة على تطوير فهم النّصّ القرآني، وأنّ التّفسير الموروث هو الّذي اكتفى بدلالة واحدة هي الدّلالة الحرفيّة أو الظّاهرة وزادها التّكرار والتّقليد عبر الأيّام ضيقا على ضيق. 
إنّ الحاجة إلى دراسة النّظريّات المختلفة ضمن الفضاء القرآني هي حاجة ملحّة وحقيقيّة ولاسيّما مع ظهور نظريّات عديدة في أنحاء العالم حيث تتجدّد أساليب المعرفة الإنسانيّة ضمن فضاء يتميّز بالتّفاعل والتّواصل. 
على هذه الشّاكلة يتضح أنّ الباحثيْن: ناصر بن رجب وقصي هاشم فاخر رغم اختلاف مقاربتيْهما، قد استفادا في دراستيْهما لسورة الفيل ممّا أثاره محمّد باقر الصّدر من ضرورة الرّبط بين الآيات المتفرّقات والاستفادة من السّياق الحافّ بكلّ واحدة منها لبلورة فهم شامل متكامل عليق بقضيّة محدّدة. وإذا انتبه بن رجب إلى الخلفيّة التّوراتيّة الثّاوية وراء فهم المفسّرين لهذه السّورة، فإنّه لم يجانب ما أشار إليه ريجيس بلاشار من أنّ التّأثير المسيحي كان واضحا في السّور المكّية الأولى، إذ كثيرا ما تكشف مقارنة القرآن بالنّصوص غير الرّسميّة كإنجيل الطّفولة الّذي كان سائدا في ذلك العهد عن شبه قويّ. ويعرض في هذا الصّدد آراء بعض الباحثين من السّاميّين، مبيّنا رأيه فيما يستنتج من العلاقات المستمرة الّتي كانت تربط بين مؤسّس الإسلام والفقراء المسيحيّين بمكّة(17). وقد بدت رؤية حاج حمد عميقة إذ شدّت العزم على سبر أغوار النّصّ القرآني من أجل التّوصّل إلى بلورة منهجيّة قرآنيّة ينتظم وفقها التّفكير بقضاياه تجنبا لكلّ سطحيّة ولكلّ وقوع في التّناقض. وقد بدا حماس هذا المفكّر بحجم رغبته في النّهوض بأوضاع الحضارة الإسلاميّة فكريّا وثقافيّا. 
إنّ الماضي، بالنسبة إليه، لا يعني المحافظة على الفهم البشري للقرآن لأنّه فهم مرتهن إلى المركّبات الذّهنيّة المُنتَجة ضمن شروط الوعي التّاريخي الّذي كان سائدا في وقت معيّن. والقرآن بما هو سماوي مطلق من التّقييد، أمّا الفهم البشري  فخاضع  إلى نسبيّة البشر وأدواته بما في ذلك دلالات اللّغة. إنّ  استخدام اللّه للّغة العربيّة يتجاوز مقدرة العرب الإنشائيّة والبلاغيّة والدّلاليّة. وتلك سمة جوهريّة تضمن للقرآن صلاحيّته لكلّ زمان ومكان وتهيّئ له إمكانيّة الاكتشاف وإعادة الاكتشاف بحسب تنوّع الثّقافات ومتغيّرات المناهج المعرفيّة. 
والقرآن نفسه لا يؤكّد مصدره السّماوي فقط بل يلّح على الوعي الّذي يرفد به العقل البشري من أجل التّعامل الموضوعي مع المتغيّرات الاجتماعية والتّاريخيّة. وأبو القاسم حاج حمد يصل إلى هذه الوحدة العضويّة في القرآن الكريم انطلاقا من وحدة الكتاب المنهجيّة، على خلاف أسلوب التّفسير المعتمد على أسباب النّزول المتفرّقة. وفي هذه الوحدة تتجلّى  الحكمة من تبويب الآيات المتفرّقات، نزولا، في السّور، تلاوة وهو ما يطرح السّؤاليْن التّالييْن: لو كانت أسباب النّزول محدّدة في الفهم لماذا لم تُرتّب الآيات في المصحف وفقها؟ وكيف يتمّ التّعامل مع الآيات الّتي نزلت ابتداء؟
وأمّا قصي هاشم فاخر فقد هدتْه الدّلالة اللّغويّة إلى أنّ مفردة «الفيل» ذات بُعد مفهومي يتمثّل في ضعف الرّأي وفساده. وما إفادة معنى الفيل الحيوان إلاّ مصداق من المصاديق المتعدّدة. ولعلّ هذا اللّبس مُتأتّ من التّشابه الّذي تجري عليه أساليب القرآن. ويبدو أنّ ما يدعّم صحّة ما ذهب إليه باقر الصّدر من قصور المنهج التّجزيئي هو أنّ بعض المفسّرين انتبه إلى التّقارب بيْن الحجارة من سجّيل الخاصّة بقوم لوط وأصحاب الفيل ضمن تتبّع الدّلالة اللّغويّة. ولكنّ محدوديّة الرّؤية التّجزيئيّة حالت دون تجاوز فهم السّلف للسّورة والنّفاذ إلى أبعاد فكريّة جديدة تتجاوز الفهم الإعجازي المتعالي على الواقع والمنطق.
إنّ هذه المحاولات التّجديديّة الأربع تندرج ضمن سياق مخصوص تتظافر فيه جهود عديدة عربيّة وغربيّة. وهي تلتقي جميعا في ضرورة إعادة النّظر في النّصوص المؤسّسة لما تتميّز به من حيويّة ودفق دلالي، يقول جاك بيرك Jacques Berque في هذا الصدّد: «إنّ إعادة قراءة القرآن الّتي نرومها تظهر أنّ العصر الّذي ننتمي إليه يمكن له بفضل تسلّحه بالإنجازات المنهجيّة الخاصّة أن يتصدّى من جديد إلى النّصوص العظيمة الّتي فهمتها أجيال سابقة بطريقتها الخاصّة»(18). ولقد دأب محمّد أركون على الدّعوة إلى ضرورة التّسلّح بالمناهج الحديثة لما لها من الفوائد المعرفيّة الجمّة «فعلى القارئ أن يتزوّد بتكوين علمي وإحاطة بالأرضيّة المفهوميّة الخاصّة باللّسانيّات والسّيميائيّات الحديثة والأنتربولوجيا والسّوسيولوجيا الدّينيّة والثّقافيّة وعلم النّفس التّاريخي»(19). إذ كلّما تسنّى للعقل البشري أن يستنبط مناهج تساعده على تناول هذه النّصوص بفضل ما يحقّقه من تقدّم علمي، فإنّ النّتائج المحقّقة ستكون مختلفة بالضّرورة عمّا تمّ التّوصّل إليه من ذي قبل. وتلك سمة إعجازيّة كبرى في لغة الوحي الثّابتة شكلا والمتحوّلة دلالة وهو ما يدعّم صلاحيّة القرآن لكلّ زمان ومكان. وقد عبر بعض الدّارسين عن هذه الفكرة بقوله: «إنّ كتاب اللّه قد تمّ تنجيمه تنزيلا ولم يتمّ تنجيمه تأويلا»(20). وهذا التّنجيم المتواصل يدعو المهتمّين بالدّراسات القرآنيّة إلى الانتباه إلى ما يحتويه هذا النّصّ الكبير من منطق داخلي ومحدّدات منهجيّة خاصّة به، وفي هذا المجال يندرج ما ذهب إليه مصطفى بوهندي من القول: «إنّ في القرآن من المحدّدات المنهجيّة ما يصلح أن يكون القاعدة الأساسيّة لحسن التّعامل مع الكتاب المجيد والنّهل من معينه الصّافي، وتحصين المسلم من الخلط الّذي تقع فيه الأمم بين الرّباني المقدّس والبشري النّسبي المرتبط بحدود الزّمان والمكان والثّقافة والأحوال»(21)، لأنّ التّوسل إلى فهم المعاني القرآنيّة بما هو خارج عنه كأسباب النّزول والأشعار العربيّة وغيرها هو بمثابة تحكيمها في النّصّ القرآني وجعلها شاهدة على صوابه وصحّة معانيه ما يُخفي الاعتقاد في نقصان البيان القرآني. 
وعلى هذه الشّاكلة، يضحى فهم القرآن بالقرآن هو السبيل الكفيل بإعادة الثّقة في القرآن ذاته باعتباره المعيار الأصلي لتقويم المرويات والمفاهيم والتّصوّرات. وهكذا تُزال العراقيل الّتي تحول دون مباشرة المعاني القرآنية بالبحث والتّصنيف والتّبويب، وعندئذ تنطلق المعرفة السّوية الّتي لا تضيف إلى النّصّ القرآني معنى ليس منه، علما بأنّ كثرة، بتهافتها وتضاربها، من شأنها هدم الشّريعة والدّين ما يتعارض رأسا مع صريح قول الله بأنه حافظ للذّكر الّذي نزّل (22) .                 
الهوامش
(1) ابن منظور، لسان العرب، مج11،  دار إحياء التّراث العربي، بيروت، لبنان، د ت، مادّة «رتل»، ص265. 
(2) المنهج اللّفظي التّرتيلي: @Kussay.Fakhir  موقع ويب متعلق بالمجتمع والثقافة.
(3) سورة آل عمران 3، الآية 124.
(4) تجدر الإشارة إلى أنّ  بعض الشّعراء من غير أصحاب المعلّقات، إنْ صحّت الرّواية، مثل عبد الله الزّبعري وأبي قيس الأسلت الأنصاري وطالب بن أبي طالب بن عبد المطلب والصلت بن أبي ربيعة الثّقفي ونُفيْل بن حبيب الخثعمي وعبد المطلب جدّ الرّسول ورؤية بن العجاج، قد قالوا شعرا، وإن قلّت أبياته في موضوع الفيل، ومن ذلك  ما أورده رؤبة في ديوانه: 
 =وَمَسَّهُمْ ما مَسَّ  أَصْحَابَ الفِيلْ                      تَرْمِيهِمْ بحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلْ
 ولَعِبَتْ بهمْ طيرٌ أَبَابِيلْ                               فَصُيِّرُوا مِثْلَ عَصْفٍ مَأْكُولْ».
 انظر مجمع أشعار العرب وهو مشتمل على ديوان رؤبة بن العجاج، اعتنى بتصحيحه وليم بن الورد، دار ابن قتيبة للطّباعة والنّشر، الكويت، د ت، ص181. وقد ذكر الطّباطبائي إنّها آية أرّخ المؤرّخون بها وذكرها الجاهليون في أشعارهم، الميزان، مج20، م ن، ص361. والدّارس لا يجد مبرّرا لقصي هاشم فاخر في إغضائه عن ذكر هؤلاء جميعا إلاّ إذا اعتبر ذلك من الشّعر المنحول، ولكنه لم يُشر إلى ذلك.
(5) سورة الفيل 105، الآية 1.
(6) ابن فارس، معجم مقاييس اللّغة، ج4، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، دار الفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 1399ه، 1979م، مادّة «فَيَلَ»، ص467.
(7) ابن منظور، م ن، مج 11، مادّة «فَيَلَ»، ص ص 536،534.
(8) الرّاغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن،ج2، مكتبة نزار مصطفى الباز، د ت، مادّة «فَيَلَ»، ص502.
(9) التّهامي نقرة، سيكولوجية القصّة في القرآن، م ن، ص18. 
(10) الإنسان 76، الآية 8. ابن فارس، م ن، ج3، مادّة «طير»، ص435.
(11) الرّاغب الأصفهاني، المفردات، ج2، م ن، مادّة  «طير»، ص403.
(12) ابن فارس، م ن، ج1، مادّة «أبل»، ص39 وما بعدها.
(13) التّهامي نقرة، سيكولوجية القصّة في القرآن، م ن، ص88.
(14) استرابون، الكتاب السّادس عشر، ص704. وسفر التّكوين، 19،14،13.
(15) التّهامي نقرة، سيكولوجية القصّة، م ن، ص4.
(16) نقلا عن الألوسي، روح المعاني، ج6،  مصر، 1301ه، ص ص 87،86.
(17) محمّد باقر الصّدر، م ن، ص22.
(18)  Regis , Blachere, le problème du Mahomet, P.U.F, Paris, 1952, p60.                                                                                   
(19)  Berque Jacques, relire le coran, pp16,17 
(20) محمّد أركون، القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّيني، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان، ط2، 2005، ص ص7،5.
(21) احميده النيفر، الإنسان والقرآن وجها لوجه: التفاسير القرآنية المعاصرة: قراءة في المنهج، دار الفكر، دمشق، سوريا،  ط1، 2000، ص132 وما بعدها.
(22)  مصطفى بوهندي، نحن والقرآن، م س، ص9.
  يمكن العودة في هذا المجال إلى موسى بناي، تحقيق ودراسة النّاسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة، منشورات الدّار العربية للموسوعات، بيروت، ط1، 1989، ص28.