همسة

بقلم
شكري سلطاني
الخطاب الطوباوي
 لماذا لم يُوفّق الخطاب الدّيني إجمالا في جذب الخواطر والعقول والتّأثير في  النّفوس والعقل الباطن ومجريات الأحداث لتغيير ما يجب تغييره ؟
إنّ الخطاب الدّيني والمواعظ لم تحقّق أهدافها ولم تغيّر الواقع للأفضل رغم سلامة وحُسن نيّة العديد من رجال الدّين والأئمة الصادقين. فلا بدّ أن هناك قصورا في تناول المواضيع ومعالجتها، مع أنّ دين الحقّ والقيّمة منزه عن كلّ نقص وشائبة وخلل، وما تشكو منه الأمّة الإسلاميّة من تأخّر في سياقها وسباقها الحضاري.فلقد إنتصر الأسلاف الصّالحون بعقيدتهم وجهادهم، وتخلّف الخلف وعلقوا في واقعهم الرّاهن متقهقرين.
ينشر رجل الدّين الواعظ فكره وأراءه، فيبرز إطاره التّفسيري وفهمه وعلمه مضمّن بآيات قرأنيّة صادقة المعاني والدّلالة وأحاديث نبويّة طيّبة سليمة في قالب معرفي ذي بُعد توجيهي، إرشادي، تذكيري، تحذيري، تبشيري، وإصلاحي حاملا تعابيره ودلالاته الدّينيّة من رحم الموروث الدّيني المتوارث عبر الأجيال، ولكنه مقتصر في الطّرح في غالب الأمر على الحقّ الإلهي وأداء فروض الطّاعة، وضرورة الصّلاح، وعبوديّة العبد لربّه وهذا جيّد، فلماذا تُهمل غالبا الأبعاد النّفسيّة والإنسانيّة والإجتماعيّة في التّناول والمعالجة؟.
ألِقُصورٍ في الفهم والإدراك والوعي بشموليّة الفعل البشري بكلّ أبعاده النّفسيّة، والذّهنيّة، والوجدانيّة والإجتماعيّة، أم لغلبة العادة للعبادة؟ لقد أخذ الخطاب الدّيني قالبا لم يتزحزح عنه منذ أمد بعيد، عهد السّلطان الحاكم بأمره ووعّاظ السّلاطين ،ليعبّر عن فكر ديني متكيّف يلائم واقع الحال ولا يغيّره بل يبرّره، حيث تلامس وتدغدغ المواعظ الدينيّة أسماع النّاس ووعيهم حينيّا دون تغيير ملموس لنفوسهم ولواقعهم الضّاغط، خاصّة على البسطاء والمساكين والبؤساء.ولا شيء تغيّر وتحوّل للأفضل.
إنّ شموليّة الطّرح وحلّ الإشكال تقتضي أن يتكامل البعد الدّيني الصّرف للخطاب مع البعد النّفسي والإنساني والإجتماعي. فالحياة تحتضن كل الأبعاد بشموليتها لا بأحاديتها دون فصل بعضها عن بعض. فالبُعد النّفسي والإجتماعي يترادافان وينصهران ليستقيم الفرد أو ينحرف مستقلا عن الدّين وشريعته وحقيقته، فما يأتيه الإنسان في علاقاته وتواصله ودنياه تفقده وهج المواعظ ورسالة الواعظين. فللواقع وضغوطاته سطوة وركزا، فترى الكثير من النّاس يحتالون على غيرهم ويخدعونهم ويمكرون ويغشّون في الكيل والميزان وفي جميع معاملاته الماديّة، كأن لا دين لهم ولا سمعوا وعظا ولا إرشادا.
أصبحت مجتمعاتنا المسلمة خليطا غير متجانس من أمزجة وآراء وأفكار متشعّبة ومصالح تنعكس فيها مستويات عديدة من أفهام ومفاهيم وعلم ووعي وثقافة وثراء ووفرة وفقر وإحتياج وجمال وفنّ وذوق ورداءة ووضاعة ورقاعة، تساهم كلّها في صياغة الفرد وتجذب خاطره وتوجّه إهتمامه. وأمام هذا الكمّ الهائل من التّراص المفاهيمي والذّوقي والفنّي والمعرفي والتّفاعلي والإنفعالي النّفسي والإجتماعي، ينحسر الجانب الدّيني ويتقلّص في دائرة الوعظ والإرشاد. 
لقد غيّب الوعي الدّيني المتوارث المتداول عبر العصور منذ زمن السّلاطين والحاكمين بأمرهم الجانب التحرّري لدين الحقّ والملهم للشّعوب المنكوبة المسلوبة لنيل حقوقها والتخلّص من  نير ظلم الظّالمين وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، وهكذا حُصر دين الثّورة في زاوية الإنغلاق والسّكون وليطمر الجانب النّفسي- الإنساني والإجتماعي الدّافع للحركة والتّغيير .
وعوضا عن اتباع الدعوة الصّادقة للأنبياء والرّسل التي تحارب الظّلم والباطل وتقود الثورة ضدّ كلّ مظاهر الإستعباد والقهر والضّيم الإجتماعي. أصبحت الأمّة تتجمّل بالوحي وتقول به وتتدثّر في غالب الأحيان بقالب ديني مغلّف بتفاسير وأفكار يحنّط كيانها ويُلغي إبداعها ،حجب سالبة للمعاني وللحقائق. أمّة في وضع التّشغيل السّيئ والأداء الرّديء، فلقد غابت المعاني وسادت المباني، وارتقت المصالح والنّوزاع والمنافع الذاتيّة، وإضمحلّت المبادئ والقيّم السّليمة، فغابت شمس الحقّ والعدل مع زوال البركة والحياء. فاللّهم سترا ولطفا ورحمة وغفرانا، حتّى يأتي أمرك بما تريد وكيفما تريد.