شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
هل الهداية قرار إنسانيّ؟
 من القضايا التي يكثر الجدل حولها موضوع الهداية الإنسانيّة ودور الإنسان فيها، وعلاقة الخالق عزّ وجل بهداية الإنسان، وكيف يمكن إزالة توهّم التّعارض بين الآيات التي تشير إلى أنّ الهداية بيد اللّه تعالى ينزلها على من يشاء من عباده، وبين الآيات التي تشير إلى أنّ الهداية بيد الإنسان، فهل الهداية قرار إنساني؟ وما الطّرق المؤدّية إلى الهداية ؟وما الطّرق المؤدّية إلى الضّلال؟
فيما يتعلّق بالهداية ومدى قدرة النّفس الإنسانيّة على الوصول إليها فإنّ الحقّ عزّ وجلّ أنزل هديه من خلال رسله الكرام إلى النّاس كافة، فقال تعالى:﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾(1)
وأنّ هذه الهداية المنزلة من اللّه تعالى على عباده هي حجّته على خلقه يوم القيامة وأنّه بمقدور النّفس الإنسانيّة أن تختار هذه الهداية، فإنّ من القضايا المحوريّة والأساسيّة التي كشفت عنها هذه الدّراسة من خلال الآيات القرآنيّة إن مسألة اختيار الهداية تقع تحت دائرة الحرّيّة الإنسانيّة، وأنّ الإنسان بإمكانه أن يتوصّل إلى الهداية، وأنّ الهداية قرار إنسانيّ . ومن الآيات الدّالة على ذلك قوله تعالى:﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾(2).
لقد بيّن الحقّ أنّ الهداية تتحقّق من خلال الاعتصام باللّه تعالى، وأنّ فرص النّاس جميعاً بغضّ النّظر عن ألوانهم وأجناسهم وتاريخهم وأوطانهم متساوية في الاعتصام باللّه تعالى، فلا يحول بينهم وبين الهداية حائل. فاختيار الهداية إذاً قرار إنساني، فقد هيّأ الباري عزّ وجل الفرصة للجميع لأن يهتدوا وذلك من خلال إرسال الرّسل عليهم السّلام بدين اللّه تعالى إلى النّاس جميعا.
وقد نسب الحقّ الهداية إلى الإنسان وذلك من خلال اختياره لها. فقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(3).وقال تعالى:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾(4).
بيّن الحقّ أنّ طريق الهداية هي الإيمان وقبول الحقّ. قال تعالى:﴿إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾(5)
وإلى جانب الآيات الكريمة السّالفة الذّكر هناك مجموعة أخرى يُتوهّم من ظاهرها أنّ الهداية أمر لا علاقة للإنسان فيها، وأنّها أمر إلهي، وسنعمل على إزالة هذا التّوهّم من خلال عرض الآيات الكريمة ذات العلاقة وبيانها على النّحو الآتي :
قال تعالى :﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إن اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب﴾(6).وقال تعالى:﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾(7).لقد بيّن الحقّ بأنّه يهدي إليه من ينيب، فالإنابة إلى اللّه تعالى جعلتهم أهلا للهداية. والإنابة إلى اللّه خيار إنسانيّ لم يجبر اللّه عليه أحد من العالمين، والمفهوم من الآية الكريمة أنّ الذين لا يُنيبون إلى اللّه تعالى، ويسيرون في طريق الضّلال والانحراف، يضّلهم اللّه كنتيجة حتميّة لاختيارهم السّيئ .وهذا يتّفق تماما مع قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم﴾(8).وقوله تعالى :﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾(9).
فالهداية المنسوبة إلى اللّه تعالى مترتّبة على الهداية المتحقّقة باختيار الإنسان لها والسّعي إليها ، وكذلك الضّلال فهو يترتّب على النّفس الإنسانيّة بسبب اختيارها له والسّير في طريقه. والذين هداهم اللّه تعالى إليه كان ذلك بسبب إيمانهم واعتصامهم به جلّ وعلا. قال تعالى:﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾(10).والذين هداهم اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة هم الذين أرشدتهم عقولهم إلى إتباع أحسن القول، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب﴾(11).
ومن خلال تقصّي الآيات القرآنيّة الكريمة ذات الصّلة بالهداية وحرّية الإنسان في تحصيلها، توصّلنا إلى أنّ هناك طرقاً معيّنة توُصل إلى الهداية، ومن هذه الطّرق :
أولاً - إتباع رسل اللّه تعالى ، وما أنزل عليهم من الحقّ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾(12) . وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين﴾(13).
ثانياً - الحصول على الهداية من خلال الاعتصام باللّه. قال تعالى:﴿...وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾(14)
ثالثاً - تحصيل الهداية بالإيمان. قال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم﴾(15).
رابعاً - تحصيل الهداية بالجهاد. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾(16).
وكما أنّ الهداية قرار إنسانيّ يقع ضمن حريّة الإرادة الإنسانيّة، فإنّ الضّلال كذلك قرار إنسانيّ يقع ضمن حرّية الإرادة الإنسانيّة . وقد بيّن الحقّ سبحانه وتعالى الطّرق المؤدّية إلى حجب الهداية ومنها:
أولاً - موالاة الشّيطان والاستجابة لأساليبه ووسائله. قال تعالى:﴿...وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾(17) 
ثانياً -حجب الهداية بالإسراف والكذب والارتياب.قال تعالى:﴿...إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(18). وقال تعالى:﴿...كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾(29).
ثالثاً - حجب الهداية بالخيانة . قال تعالى:﴿...وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين﴾(20).
رابعاً - تُحجب الهداية عن الإنسان إذا اختار طريق الضّلال والانحراف والهوى. قال تعالى:﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾(21).
خامساً - حجب الهداية بالظّلم . قال تعالى:﴿...وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(22)
سادساً - حجب الهداية بسبب عدم استخدام العقول بطريقة صحيحة. قال تعالى:﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ﴾(23).
سابعاًً - حجب الهداية بالفسق .قال تعالى:﴿...وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(24).
ثامناً - حجب الهداية بالكذب . قال تعالى:﴿... إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾(25).
تاسعاً - حجب الهداية بالكفر. قال تعالى:﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أن الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(26). وقال تعالى:﴿إنّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾(27).
الهوامش
  (1) سورة طه - الآيتان 123 و124
(2) سورة  آل عمران - الآية 101
(3) سورة المائدة - الآية 105
(4) سورة يونس - الآية 108
(5) سورة يونس - الآية 9
(6) سورة الرعد - الآية 27
(7) سورة الشورى - الآية 13
(8) سورة محمد - الآية 17
(9) سورة مريم - الآية 76
(10) سورة النساء - الآية 175
(11) سورة الزمر - الآية 17
(12) سورة البقرة - الآية 53
(13) سورة البقرة - الآية 135
(14) سورة آل عمران - الآية 101
(15) سورة البقرة - الآية 137
(16) سورة العنكبوت - الآية 69
(17) سورة النمل - الآية 24
(18) سورة غافر - الآية 28
(19) سورة غافر - الآية 34
(20) سورة يوسف - الآية 52
(21) سورة النساء - الآية 88
(22) سورة البقرة - الآية 253
(23) سورة يونس - الآية 43
(24) سورة المائدة - الآية 108
(25) سورة الزمر - الآية 3
(26) سورة آل عمران - الآية 86
(27) سورة النساء - الآية 137