بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 9 : قصّة الفيل في ضوء التّفكير 3/3
 التفسير الموضوعي للقرآن 
تعدّدت المصنّفات التّفسيريّة المندرجة ضمن التّفسير الموضوعي بتعدّد أعلامه الّذين تميّزوا بمحاولات جادّة في استجلاء مواضيع القرآن العديدة(1). وإذ حظيت أغلب هذه المصنّفات بالدّراسة والشهرة فإنّ هذا البحث يسلّط الضوء على محاولة قام بها محمّد باقر الصّدر تتميّز، على قصرها، بالدّقة والتّركيز. 
لقد وقف محمّد باقر الصّدر أمام تنوّع المناهج المعتمَدة في تفسير القرآن موقف المتأمّل فرصد المناهج التّالية: اللّغوية والأثريّة والعقليّة والمذهبيّة. وجنح إلى اعتبارها كلّها تجزيئيّة، فلاحظ أنّ الآيات، في إطار هذه المناهج، يكون  بعضها مفصولا عن بعض. ويكون المفسّر، حينئذ، مركّزا على المفردات ومدلولاتها. ولمّا كانت هذه المدلولات غير مستقرّة، فإنّ الظّفر بالمعنى العامّ للآيات ظلّ مطلبا عزيزا محدودا بحدود الأجزاء المتفرّقة المتناثرة. وهو ما حال دون الرّبط العضوي بين أجزاء المعنى، إذ الآيات، في حقيقتها، على صلة متينة فيما بينها. وباقر الصّدر يرشّح لفهم القرآن المنهج الموضوعي القائم على جمع الآيات ذات الموضوع الواحد. وهي طريقة تحاول البحث في الفكرة الموحّدة المتعلّقة بالقضيّة الواحدة مثل قضايا العقيدة أو الاجتماع أو الاقتصاد. وهي محاولة لتجاوز الممارسة التّاريخيّة في التّفسير دون تخطئتها أو استبدالها. فالتّفسير التّجزيئي، حسب رأي الصّدر، لا يعدم بعض الحقائق  ولكنّها محدودة وجزئيّة.
إنّ باقر الصّدر يلاحظ أنّ الفقه قد استفاد أيّما استفادة من هذا المنهج الموضوعي لذلك تمكّن من النّفاذ إلى حياة النّاس وتطوّر لأنّه يتناول القضايا في صورة موحَّدة من قبيل قضايا الأحوال الشخصية أو العقود أو البيوع، في حين أنّ التّفسير ظلّ رهين النّظرة التّجزيئية فلم يحقّق مكاسب فكرية تذكر.
إنّ التّفسير التّجزيئي يرزح تحت سلبية المتلقّي الّذي يكتفي بالسّماع لغاية الفهم، فالبدء لديْه يكون من النّصّ وإليه يكون المنتهى، في حين أنّ النّهج الموضوعي في تناول القرآن يبدأ من حركيّة الواقع وحيويّته وينتهي إلى النّصّ، فلا يكتفي المرء بمجرّد التّلقي وإنّما يطرح بين يديْ النّصّ موضوعا عامّا مستفيدا من عديد الأفكار والمواقف الإنسانية ليُقيم حوارا مع النّصّ في ضوء الحصيلة المعرفية المستفادة من تجارب العقل ومما يُستلهم من النّصّ من خلاصات التّجارب الحيّة، فيكون الاستنطاق توظيفا هادفا لفهم حقائق الحياة الكبرى(2).
ومن خلال هذا المنظور يبدو المفكّر المنكبّ على مواضيع القرآن، محمّلا برؤى عصره وتجارب واقعه فشتّان بين مفسر يبدأ بالقرآن وينتهي إليه، ومفكّر يبدأ من الواقع وينتهي إلى النّصّ. وفي هذه الحالة يكون المفكّر  متمثّلا للعطاء المتجدّد. 
إنّ التّفسير الموضوعي في ارتباطه بتجارب الحياة ضمّن لنفسه تجدّدا واتّساعا بتجددّها المستمرّ لذلك هو أكثر اتّساعا من الرّؤية التّجزيئية وأرحب أفقا وأكثر عطاء لأنّه يتقدّم خطوة على التّفسير التّجزيئي وهو أقدر على التّجدّد باستمرار باعتبار أنّ التّجربة البشرية هي الّتي تُغنيه بما تقدّمه من موادّ(3). وبهذه الطّريقة، يوفّر التّفكير في القضايا القرآنيّة، النّظريّات الأساسيّة في القرآن إزاء مواضيع الحياة المتنوّعة.
إنّ باقر الصّدر يعتبر نفسه قد استلهم هذا التّصوّر في التّعامل مع النّصّ القرآني، انطلاقا من طريقة النّبي نفسه الّذي كان يعطي أولويّة لتطبيق النّظريّات القرآنيّة من خلال المناخ العامّ الّذي كان يوجّه إليه، وضمن هذا المناخ العامّ كان المؤمن يحمل فهما إجماليّا منضويا داخل العرف الرّوحي والتّربوي السّائديْن.
إلى هذا الحدّ من عرض أفكار الصّدر، تتسنّى ملاحظة أنّ التّفسير الموضوعي طريقة في تناول النّصّ القرآني تحاول تجاوز ما أُلّف من الطّرائق التّفسيريّة سواء كانت  تفصيليّة أو إجماليّة أو مقارنيّة  ترجيحيّة. وفي الطّريقة الموضوعيّة يُراوح المفسّر مكانه من حيث اختياره للموضوع إذ يرتبط به ولا يتجاوزه إلى غيره، حتّى يستبين مكوّناته. فهي طريقة علميّة تتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر (4).
والجدير بالتّنبيه هو أنّ الرّافد الأساس لهذا النّمط من التّفسير هو عرض الآية على الآية، وتفسير القرآن بالقرآن. وكلّ المفسّرين يعتبرون أنّ هذا المدخل من أسلم المداخل وأوفقها للوقوف على المعنى الأكثر وضوحا وإقناعا. وبهذا الإجراء تتلوّن دلالات اللّفظ الواحد بحسب السّياق المحتضن له.
إنّ طريقة التّأليف في فضاء هذا المنهج تكون باستحضار الآيات الّتي تدور حوْل موضوع واحد. وبعد محاولة استنباط أهمّ عناصر القضيّة المدروسة والتّنسيق بين أبوابها واستنطاقها، يتمّ عرض أهمّ الأفكار المستفادة وعرضها على أهمّ القضايا الواقعيّة المعيشة التماسا للأجوبة الملائمة لها، باعتبار أنّ هذه القضايا هي الدّافع المحرّك للبحث. 
وعلى هذه الشّاكلة لا يُقدّم العمل التّفسيري حسب تسلسل الآيات كما ورد ترتيبها في المصحف وإنّما يعيد المفسّر ترتيب هذه الآيات حسب ما يراه مناسبا لعرضه من أجل استنباط المعاني والأحكام الواردة فيها في ضوء السّور والتّناسب بينها، فصار المرء أمام قضايا مترابطة الأفكار ترابطا عضويّا كقضايا النّسخ والإرث والوصيّة والأمثال المضروبة وغيرها. وقد صيغت لهذه المواضيع فهارس مثل كتاب «جون لابوم» «تفصيل آيات القرآن الكريم» الّذي عربّه محمّد فؤاد عبد الباقي(5). ويظلّ التّفسير الموضوعي المدخل المناسب للولوج إلى آفاق العصر والانخراط في حركية الواقع. 
ليس خافيا، أنّ مزايا هذه الطّريقة في التّفسير عديدة لعلّ من أهمّها هو الوقوف على الخيط النّاظم للرّؤى والأفكار الثّاوية وراء الآيات القرآنيّة الموزّعة على السّور. وكذلك تمثّل هذه الطّريقة الإطار المناسب لإثراء المعلومات وطرق أبواب الاجتهاد كتصحيح مسار أو تصويب خطأ شائع أو التّشجيع على دفع عجلة التّفكّر في مجالات لم يُفكر فيها من قبل. ويبدو أنّ من أبرز الفوائد هو تجنّب السّقوط في التّكرار وإعادة الأفكار الّتي تقتضيها المفردات أو الآيات المتكرّرة والمُعادة بحكم التّشابه أو الاقتضاء البلاغي. وهكذا يتمّ البحث عن الوحدة الموضوعيّة أو الوحدة البنائيّة من أجل تجاوز معاني المفردات المتفرّقة. ومن الفوائد أيضا إثبات استقلاليّة كلّ موضوع وإبراز شخصيّته على حدة. والماسك للمواضيع القرآنيّة في كلّياتها، يكون قادرا على تجلّية العلل والأسباب الكامنة وراء الأحكام والتّشريعات. وليست فكرة التّفسير الموضوعي ببعيدة عن ما ذهب إليه أبو القاسم حاج حمد من إثارة فكرة منهجيّة القرآن المعرفيّة.
منهحيّة القرآن المعرفيّة 
يذهب المفكّر السّوداني أبو القاسم حاج حمد إلى أنّ القضيّة الأساسيّة الّتي يعود إليها تردّي وضع المسلمين الحضاري ليست فقهيّة ولا تفسيريّة، وإنّما هي إشكاليّة تمتدّ إلى تفكيك القواعد الفكريّة للعقل العربي الإسلامي الّذي تعامل مع النّصّ، ومن ثمّ لم يتجاوزها لقراءة الموروث وفق مناهج المعرفة الحديثة (6).
والإشكال في ذهن هذا المفكّر يتمثّل في أنّ أيدي العلم قد امتدّت إلى دوائر الإيمان. فالأجوبة الدّينيّة على  مختلف القضايا أضحت الإجابات العلميّة تزاحمها كقضية الخلق أو مسألة الدّلالة اللّغويّة. وعليه فقد ظلّ السّؤال الّذي يطرحه هذا الباحث ماثلا في ماهية خصائص القرآن الّتي تجعل منه مختلفا عن النّصوص الدّينيّة الأخرى فوق الزّمان والمكان (7) .
وفي مجريات البحث عن الإجابة عن هذا التّساؤل، بدت أزمة العقل الإسلامي المعاصر تتمثّل في مباشرته فهم القضايا المستجدّة بأدوات المعرفة الماضويّة وشروطها ما أدّى إلى الجمود والثّبات. والنّتيجة المنجرّة عن ذلك هي أنّ امتداد القرآن في الزّمان ظلّ مجرّد أمنية، إذ المسألة تتجاوز مستوى النّوازل الفقهيّة للوصول إلى النّسق المعرفي المحكوم بالقوانين والسّنن. إنّ تجاوز فهم القرآن بالمفهوم التّفسيري، مسألة تفرض نفسها بسبب تغيّر مناهج التّفكير، اعتبارا إلى أنّ المعرفة التّفسيرية انتهت بانتهاء الشّروط المنتجة لها، لصالح مناهج فكريّة وثقافيّة ومعرفيّة جديدة. فضلا عن كون القرآن يمُدنا بمعارف ومناهج لا تختصر الإنسان في مركبّاته الطّبيعيّة. ومعنى ذلك أنّ نتائج المناهج الحديثة غير مأمونة المآلات الفلسفية(8).
إنّ مجهود أبي القاسم حاج حمد ينصبّ على بلورة دراسة فلسفية تهتمّ بضبط معالم المنهج المحدّد للتّعامل مع القرآن تجاوزا للأزمة المعرفيّة الّتي يتخبط فيها العقل العربي الإسلامي. وهذا المفكّر يروم الوقوف على تحديد معالم المنهجيّة القرآنية من خلال إثارته لقضيّة المعرفة بالاعتماد على التّحليل النّقدي للأفكار انطلاقا من الإشكالات الّتي تتخبّط فيها الدّراسات القرآنية. فالمنهجيّة المعرفيّة لديْه تعني إرجاع المفردات اللّغويّة والأفكار والاتّجاهات والمحتوى الثّقافي إلى أصولها البنائيّة المحدّدة لدلالتها. والمعرفيّة القرآنيّة هي استرجاع الأصول الّتي يحدّد بها القرآن ظاهرة أو أمرا عبر تفكيك المفهوم وتحليله وضبط العلاقة بين البناء اللّفظي وتركيبه(9). فالقرآن حسب رأيه يتمتّع بخصائص منهجيّة ومعرفيّة وقدرة على استيعاب الوجود الكوني بحركته في كلّ الظّروف المتغيّرة، وللكتاب الإلهي وحدة عضويّة ومنهجيّة متميّزة انطلاقا من المعجم المستعمل. وهو ما يذكّر بما ذهب إليه جاك بيرك من أنّ عدم الاتّساق الظّاهري في  النّصّ القرآني يُخفي وحدة تعليميّة وترتيبا خفيا(10).
إنّ القرآن، حَسب هذا المفكّر، يحتوي على إحالات فلسفيّة تعيد صياغة المعرفة ضمن الأبعاد الكونيّة المتضمنّة للغائيّة الإلهيّة في الوجود والحركة، ومقولات هذه المعرفة لا تخصّ طائفة بشريّة دون أخرى وإنّما هي معرفة بحجم السنّن الكونية الثّابتة (11) .
إنّ هذا التّصوّر المنهجي المتعلّق بالفكر الدّيني الّذي يروم هذا الكاتب تقديمه يقوم على مغامرة تتمثّل في أن يقذف الفكر بنفسه في عمق الأزمة الحضاريّة للخروج من حيّز الدّفاع والتّبرير إلى التّعامل الرّأسي مع النّاظم الفلسفي الّذي يحكم مختلف الظّواهر الثّقافيّة. وفي هذه الحالة يواجه الفكر الإسلامي المآزق في حجمه العالمي، وعندئذ يُنجز تحديدا آخر للأفكار، به يتجاوز الانطباعات والمواعظ الحسنة، وأساس ذلك استنطاق الطّبيعة لاستنباط القوانين المتحكّمة فيها(12). ومن شأن هذا المنهج، المراد تحقيقه، هو تجاوز التّوفيقيّة والانتقائيّة لأنّه كالقانون لا يتجزّأ ولا يتناقض كالقول بالجبر والاختيار  في آن، يقول: «القرآن الكريم يحمل ضمن وحدته الكتابة العضويّة، منهجيّة كاملة غير أنّ المجهود البشري المبذول في التّفسير، انطلاقا من النّصوص المجزأة وتبعا للمقاصد الموقوفة على أحكام بعيْنها لا يمنح المفسّرين صفة المنهجيّة»(13)، فالمراد حينئذ هو الغوص لا على المفاهيم المُنتجة من النّصّ القرآني فحسب وإنّما على اكتشاف النّسق المرجعي الّذي يحاكم هذه المفاهيم وهي تحتكم إليه، إذ المنهج هو خلاصة النّظريات الممتدّة إلى صياغة التّفكير وتطبيقاته. وتؤكّد رؤية هذا المفكّر أنّ المنهجيّة المعرفيّة ليست منتوجا لمذهب معيّن، وإنّما هي تعبير يروم الأخذ بالآفاق الواسعة لقدرات المعارف العلميّة المعاصرة وتوظيفها لإعادة اكتشاف الإشكالات الاجتماعيّة والثّقافيّة وتحليلها ونقدها. وهكذا تتمّ محاصرة الحصيلة المذهبيّة والإيديولوجيّة والسّكونيّة لأنّ هذه المنهجيّة المعرفيّة المنشودة هي  حفر في الجذور وتفكيك كلّ الوسائط الّتي تحقّق الاتصال بين الذّهن والعالم من أجل بناء مشروع حضاري من شأنه خلخلة الشّموليّة والكليانيّة، يقول: «القرآن العظيم وحده يملك التّصوّر المنهجي والمعرفي البديل في مستوى كوني غير أنّ حَملة القرآن لم يعاينوا بعدُ هذا المأزق المنهجي والمعرفي»(14).
وضمن هذا التّصوّر تُطرح قضية الحداثة التي، حسب رأيه، لا يُفصل فيها بين الاختراع المادّي والذّهنيّة المبدعة، إذ يوجد بينهما علاقة جدليّة تقتضي حيويّة ومكابدة عقليّة ومعاناة فكريّة يتولّد عنها الإنجاز والتّصنيع. وعليه تتجلّى هيمنة المنهاج على الشرْعة والطّاقة الفّعالة الّتي يتضمنّها القرآن هي قوّة المنهاج الّتي جعلته مهيمنا على غيره من الكتب.  
يقدّم أبو القاسم حاج حمد المنهجية القرآنيّة المنشودة بوصفها ممثّلة لمرحلة حضاريّة وريثة لمرحلتيْن سابقتيْن هما الإحيائيّة والثّنائيّة(15)، لأنّ العقل بلغ من التّطوّر والنّضج ما يؤهّله للتّعويل على ذاته لاستقراء مكامن القوّة في الطّبيعة وما وراءها من غيْبيات، فالقرآن حاوٍ لمعرفة متعالية من جهة، ومنخرطة في التّاريخ عبر امتداد الزّمان ومتغيّرات المكان في كلّ الأحقاب من جهة أخرى وهو ما يحيل على إطلاقيّة القرآن ونسبيّة التّلقّي البشري باعتباره خطابا موجّها إلى البشر. وفي هذا المجال يستشهد المؤلّف بالآية التّالية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(16)، ليخلص إلى اعتبار أنّ نضج العقل أمر وثيق الصّلة بفكرة ختم النّبوءة  الّتي لا تقتصر على  الدّلالة الزّمانيّة فحسب وإنّما هي تقدير موضوعي لانتهاء الخطاب الاصطفائي المتعلّق بقضيّة الخلق والنّبوءات ولانطلاق الخطاب العالمي المرتبط بالأرض المحرّمة وبالقرآن﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـٰذهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ  فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(17). 
يعتبر هذا المفكّر أنّ الخطاب القرآني سلّح العقل بمنهج يساعده على الاغتناء بمادّة تخول له المحاورة مع العالم بأسره ولاسيّما الآخر المختلف. ولكنّ عمليّة تنزّل القرآن في زمان ومكان محدّديْن تولّد عنها موقفان بارزان يختلفان في التّصوّر ويتّحدان في النّتيجة. الموقف الأول وضعيّ يرى أنّ كلّ فكرة يجب أن تكون تطوّرا وامتدادا لما استُلهم منه أوّلا. وهكذا يحكم على القرآن بكونه لا يقبل أيّة معرفة طارئة. والموقف الثّاني تقليديّ يتمثّل في التّشبّث بما فُهم من القرآن زمن التّنزيل والتّدوين باعتباره أوج الحقيقة واكتمالها. وكلا الموقفيْن  يُغلق على القرآن إمكانيّة دخوله مجالات معرفيّة مستجدّة لأنّ القرآن معرفة معادلة للوجود الكوْني وحركته(18). ومن عناصر المعرفة المستقاة من القرآن المعادلة بين الكتاب المسطور والكتاب المنظور وهو التّماثل التّركيبي بين مكوّناتهما: الشّمس والقمر، والليل والنّهار، والأنثى والذّكر، والحياة والموت وكلّها ثنائيّات متفاعلة ومتكاملة. ومن مرتكزات هذه المعرفة أيضا قابليّة النّفس المركّبة إلى الانشطار بين الفجور والتّقوى وما فيها من قدرة على الاختيار وتحمل تبعات هذا الاختيار الأخلاقيّة. 
والحاصل من هذا التّشابه بين القرآن وما فيه من دفق، والطّبيعة وما فيها من تغيّر، هو ما ينعكس على المجتمعات والوعي وكلّ المظاهر الحضاريّة من تجدّد مستمر. فالمنهجية القرآنيّة المنشودة تأخذ بالضّوابط المنهجيّة الشاملة لكلّ مظاهر البنائيّة إنْ في الكون أو في القرآن فهو بشرى مستقبليّة لكافة النّاس في كلّ العصور من بعد أن فرقه ليُثبّت قلوب المؤمنين. فالقرآن في بنائيته الحرفية يماثل البنائيّة الكونيّة. وعليه فإنّ القرآن ليس صياغة بلاغيّة فقط بل هو استخدام إلهي لهذه المفردات كاستخدامه للكائنات الشّديدة الدّقة(19).
وعلى هذه الشّاكلة، تميّز القرآن بوحدة عضويّة بها انفتح على القراءة المنهجيّة المعرفيّة. فالنّصّ واحد ثابت شكلا ولكن قراءته تتبدّل وتتغيّر تماشيا مع التّطوّر وهو الفارق النّوعي الّذي يميّز العقل البشري عن غيره من المخلوقات. فالعقل يستوعب من هذا النّصّ، بحسب الحالة المعرفيّة، أشكالا متغايرة للوجود. ومن هذا المنطلق يؤكّد حاج حمد الكشف عن الدّلالات المفهوميّة لألفاظ القرآن في إطار منهجيّته النّابعة من تركيبه العضوي بدءا من إعادة ترتيبه وضبط دلالة ألفاظه المعرفيّة، وهكذا تنصاع العديد من مواضيع المعرفة الإنسانيّة في كلّ مجالاتها، نظرا للمعادلة القائمة  بين القرآن والكون. وعليه تتّضح صفات القرآن التّاليّة: مكنون، لأنّه ذو القابليّة للتّكشّف. ومجيد، لأنّه لا يُبلى. وكريم، لأنّه كثير العطاء ومتجدّده.
ولعلّ من أبرز المهمّات المنوطة بعهدة المنهجيّة القرآنيّة هو عدم التّعاطي العفوي مع التّراث التّفسيري الّذي يستمد أصوله من الموروث التّوراتي الّذي يستند بدوره إلى الموروث الأسطوري البابلي كيلا تختلط المعرفة القرآنيّة بالأساطير والخرافات لدى الأوّلين، وكيلا تنغلق أبواب الوعي المنهجي الّذي يروم القرآن تأسيسه(20).
لقد نهض القرآن، حسب هذا المنظور، على بناء يدلّ بعضه على بعض. وهو إذ يعادل  بقوانينه الوجود في حركيّته ويلتقي به في مستوى الوعي فإنّه يتضمّن مؤشّرات ودلالات تتطلب من المفكّرين دقة التّبصر فيها منهجيّا وعلميّا ومعرفيّا لتخليصها من الإسقاطات، وما عُلّق عليها من الخرافات والأساطير من أجل توظيفها علميا ومزيد فهم عوالم الإنسان والكون والتّاريخ. وإذ لم يوضّح القرآن الكثير من جوانب هذه البّنائية فلِيشحذ الهمم لمزيد التّبصر والتّعقّل. 
إنّ الدّارس إزاء هذه الرّؤية العلمية النّاهضة على الدّعوة إلى تأسيس منهجيّة معرفيّة نابعة من القرآن يتسنّى له أن يلاحظ أنّها بمثابة المشروع الحضاري الّذي يروم استبدال الدّفاع عن النّفس بعمليّة بناء النّفس عبر إعادة صياغة المفاهيم القرآنيّة ومعانيه لإعادة تشكيل بنية العقل الإسلامي من أجل استعادة فاعليته وجدواه وألقه، ولاسيّما أنّ الأمّة الإسلاميّة هي الأمّة الوحيدة الّتي تقرّ، في نصوصها الأصليّة، بالاختلاف وتجعل للمخطئ في اجتهاده أجرا. ولقد ذهب طه جابر العلواني إلى اعتبار أنّ هذا المجهود الّذي بذله حاج حمد هو محاولة قادرة على تشكيل منعطف شديد الأهمية في هذه الفترة (21) .
على هذه الصّورة التّحليليّة بدا للنّاظر التّشابه قائما بين مقاربتيْ محمّد باقر الصّدر وأبي القاسم حاج حمد. وهما مقاربتان نظريتان تعتبران أنّ للنّصّ خلفيّة معرفيّة لا يتسنّى للمفسّر المفكّر أن يظفر بها ما لم يتجاوز التّفسير الخطّي والتّجزيئي للقرآن آية بعد آية، وما لم ينتبه إلى أنّ لغة القرآن تتمتّع بدقّة تجعلها أبعد ما يكون عن اعتماد ظاهرة التّرادف. وعليه فإنّ هذه اللّغة تجد معادلها الدّلالي في الكتاب الكوْني التّكويني الّذي يتميّز هو الآخر بدقّة مذهلة. وإزاء هاتيْن المحاولتيْن يُلفي الدّارس مقاربتيْن أُخرييْن تطبيقيتيْن تتناولان سورة الفيل بالشّرح والتّحليل.
الهوامش
(1) صنّفت لهذا الغرض مؤلفات كثيرة منها قديما وحديثا. ففي القديم نجد مقاتل بن سُليمان ت150ه: «الأشباه والنّظائر في القرآن»، ويحي بن سلام ت200ه: «التّصاريف»، وأبا عبيدة القاسم بن سلاّم ت224ه: «النّاسخ والمنسوخ»، وعلي بن المديني ت234ه: «أسباب النّزول»، وابن قتيبة ت276ه: «تأويل مشكل القرآن»، والجصاص ت370ه: أحكام القرآن، وأبا الحسن الواحدي النيسابوري ت468ه: «أسباب النّزول، والرّاغب الأصفهاني ت502ه: «المفردات في غريب القرآن»، وابن الجوزي ت597ه: «نزهة الأعيْن النّواظر في علم الوجوه والنّظائر». وفي الحديث نجد عبد الله درّاز ت1954: «دستور الأخلاق في القرآن الكريم»، وسيد قطب ت1966: «التّصوير الفّنّي في القرآن»، ومحمّد الغزالي ت1996: «نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم»، وعبد الستار فتح الله سعيد ولد سنة 1931: «المدخل إلى التّفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، ومحمّد نبيل غنايم ولد سنة 1940: «نماذج من التّفسير الموضوعي»، وسعيد حوى ت1989: «الأساس في التّفسير»، ومصطفى مسلم ولد سنة 1940: «مباحث في التّفسير الموضوعي»، ونخبة من علماء التّفسير وعلوم القرآن بإشراف مصطفى مسلم: «التّفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم»، مج10، جامعة الشارقة، ط1، سنة 2010، وناصر العمر  ولد سنة 1952: «العهد والميثاق في القرآن الكريم»، ويوسف القرضاوي ولد سنة 1926: «الصبر في القرآن».
(2) محمّد باقر الصّدر، مقدّمات في التّفسير الموضوعي للقرآن، دار التّوجيه الإسلامي، بيروت، الكويت، ط1، 1400ه، 1980م، ص20.
(3) محمّد باقر الصّدر، م ن، ص25.
(4) انظر محمّد بن عبد العزيز الخضيري، مقدمة في التّفسير الموضوعي، مقال إلكتروني منشور بموقع مكتبة صيد الفوائد تحت الرابط التالي: http://saaid.net.
(5) جون لابوم، تفصيل آيات القرآن الكريم، تعريب محمّد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه بمصر، ط1، د ت.
(6) محمّد أبو القاسم حاج حمد، القرآن والمتغيّرات الاجتماعية والتّاريخيّة، دار السّاقي، بيروت، لبنان، ط1، 2011، ص24.
(7) م ن، ص8.
(8) م ن، ص12 وما بعدها.
(9) محمّد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطّبيعية والإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدّين وعلم الكلام الجديد بالتّعاون مع دار الهادي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 2003، ص221.
(10) Jacques Berque, relire le coran, éd Albin Michel, Paris, 1993,p21         
(11) حاج حمد، منهجية القرآن، م ن، ص31.
(12) حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص33 وما بعدها.
(13)حاج حمد، م ن، ص35.
(14) حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص38.
(15)حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص45.
(16) سورة آل عمران 3، الآية 33.
(17) سورة النّمل 27،  الآيتان92،91.
(18) حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص84. والقرآن والمتغيّرات الاجتماعية والتّاريخية، م ن، ص19.
(19) حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص94 وما بعدها.
(20) حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م ن، ص 101، وص129.
(21)  طه جابر العلواني، ملحق ضمن كتاب حاج حمد المنهجية القرآنية، م ن، ص ص258،257.