في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
العنف المدرسي: تمثلات التلاميذ ومدخل الجودة التربوية (4)
  2 3- خطاب التلاميذ حول العنف المدرسي 
يكون التعاطي مع ظاهرة العنف المدرسي بالتّشخيص والتّخطيط والاستشراف، ومن التّقنيات المساعدة الاستماع إلى الفاعلين وخاصّة الفاعل التّلمذي، إذ أنّ حقيقة أيّة ظاهرة اجتماعيّة تترتّب عن المعنى الذي يعطيه الفاعل للأحداث والأفعال حسب ماكس فيبر، وتقدّم سرديّة المتعلّم أكثر من جملة مفيدة، فحيث «يوجد تكلّم يكون العالم»، بلغة هايدغار (Heidegger )، ومدخل لفهم تمثّلات التّلاميذ للاعتداءات وكيف يتعايش معها. من أجل هذا، أنجزنا (05) حلقات تركيز مع عيّنة تلاميذ من أربعة معاهد تتوّزع على المناطق الثّلاث المرتّبة في صدارة الجهات الأكثر ارتفاعا في عدد حالات العنف المادّي واللّفظي، «معهد حي الأمل بفوشانة»(1) و«معهد جبل الجلود»(2) (تونس الكبرى)، و«معهد أحمد نور الدين»(3) (سوسة) و«معهد الهادي شاكر»(4)(صفاقس)، وأضفنا حلقة تركيز مع عيّنة تلاميذ من «المدرسة الإعدادية 2 مارس»(5)  بالزّهراء من ولاية بن عروس. وسعينا إلى تنويع العينة من حيث النّوع والمستويات الدّراسيّة (السّنة التّاسعة إعدادي والسّنة الأولى والثّانية ثانوي)، يتراوح سن أفراد العينة ما بين 14 و17 سنة، جمعت كلّ واحدة من حلقات التّركيز ما بين 5 و6 أفراد، نظّمنا هذه اللّقاءات في فضاءات عامّة مفتوحة ودعّمنا حلقات التّركيز بـ(4) محادثات مطوّلة – نسبيّا- مع تلاميذ ضحايا العنف لإنجاز تقاطعات في الآراء والتّصوّرات. 
امتدّت فترة إنجاز حلقات التّركيز والمحادثات من 01 سبتمبر  إلى 17 سبتمبر 2021، شملت مفهوم العنف في الوسط المدرسي ومبرّراته وموقف التّلاميذ من المناخ المدرسي وعمليّات التّعليم وطبيعة العلاقات البيداغوجيّة السّائدة صلب المؤسّسة التّربويّة ومدى توفّر حياة مدرسيّة نشيطة، وعملنا على توفير مناخ مريح خلال حلقات التّركيز والمحادثات الفرديّة  للسّماح للمتعلّمين للتّعبير عن خبراتهم والإفصاح عن تصوّراتهم بأريحيّة. توفّرت لدينا مادّة ثريّة مكّنتنا من تفكيك جزئي لخطاب التّلاميذ حول العنف المدرسي، اخترنا مفردة «الخطاب» بعد أن لاحظنا أنّ تعبيرات المشاركين تجمع بين التّصوّرات والأحاسيس وردود الفعل وتدمج الانطباعات والانفعالات الخام بالخبرات الحيّة. لأسباب منهجيّة صغنا «المعنى النّاظم» عند الدّلالات المركزيّة فحسب، قسّمناها إلى ثلاثة مستويات دلاليّة، مستوى أوّل يشمل دلالات العنف وأصنافه ومعانيه، مستوى ثان في مبرّرات العنف المدرسي ومعضلات المناخ المدرسي، ومستوى ثالث يبحث في طبيعة العلاقات التّربوية ونوعيّة التّفاعل مع البرامج والطّرق البيداغوجيّة. 
2 3- 1- دلالات العنف، أصنافه ومعانيه
تلتقي تمثّلات عيّنة التّلاميذ على اختزال العنف في شكله المادي وتحدّده في العلامات والتّصرّفات التي تلاحظ/ تعايش في إيذاء مادي وبدني بتبادل اللّكمات، الشّجارات، العراك، التّكسير، الجروح مع استعمال التّخويف والتّهديد و«بالكفّ، الصُّرْفَاقْ، والدَّزَّانْ العنيف في النّقل العمومي» حسب قول أحد التّلاميذ. ويعتبر أغلب المشاركين أنّ العنف الجسدي بمختلف أشكاله، نادر الحدوث داخل المدرسة «موش برشة»، باستثناء تلاميذ الإعدادي، وأنّه يمارس بشكل مكثف  «الأساتذة دِيمَا يضْرْبُو فِينَا، بسَبَبْ وَدُونْ سَبَبْ، حَتّى كِنْحَرْكُو كُرْسِي»(6). وحين نعمّق السّؤال مع المشاركين حول التّراشق بالبيض وتقطيع الكرّاسات وإلقاء الأوراق أو تمزيق الكرّاسات والكتب والأوساخ والخربشة والكتابة الجداريّة، عدّ عدد من المشاركين أنّه لا يمثل عنفا « نَعَبّْرُوا علَى رَاحِتْنَا ومُجرّدْ لِعْب، ونوع من حرّية التّعبير والتّنفيس»(7). بينما يأخذ العنف اللّفظي أشكالا متعدّدة من التّنمّر والهرسلة المستمرة، «السّب، واللّعن، التّعيير، التّحقير،الاستفزاز والإهانة» (8) ، وأنّه ممارسة منتشرة وموجودة بكثرة بين التّلاميذ وداخل المدرسة ومع المربّين وحتّى لدى التّلميذات «البنات زادة يمارسن العنف اللّفظي»(9)، يتّم التّخفيف من أثاره واعتباره غير مزعج «ما يقلّقش يقع كلّ يوم عشرات المرّات» بعبارات أحد أفراد العيّنة. 
ما يفاجئ أنّ غالبية المشاركين في حلقات التّركيز يرون أنّ تبادل الشّتائم والسّباب تصرّفات عادية في التّفاعلات التّلمذيّة ولا تثير القلق إلاّ إذا تكرّرت «نُورْمَالْ بين الأصْحَابْ إذا مُوشْ مَقْصُودْ» (10)، ويمثّل العنف اللّفظي أو الكلام البذيء سلوك  تلمذي لاثبات الذّات « نْحِسْ رُوحِي كْبِيرْ»(11)، كما تحوّل إلى لغة التّداول السّائدة بين التّلاميذ فيما بينهم، ويعدّ نوعا من التّمرّد على النّظام المدرسي والنّظام اللّغوي، وأصبح استعمال قاموسه من «ضمن بنية التّفاعل (...) وكأنّه وسيلة للتّعبير عن مشروعيّة الانتماء إلى المجموعة الشّبابيّة(...) والتّعبير العنيف وسيلة للاندماج (12). لكن يصبح مستفزّا حين يصدر من المدرّسين أو من الإطار الإداري والتّربوي وأمام الزّملاء تتغيّر نبضة العنف ويصبح مزعجا ومسّا من الكرامة ويأخذ شحنة عدائيّة وإيذائيّة مؤلمة تبلغ حدّ الإهانة «يطيحُونَّا قْدَرْنَا قُدَّامْ أَصْحَابْنَا»(13)، وأنّ الكلمات المهينة تفرز حالة من القلق الفردي وتحدث «جروحا» نفسيّة، وتغذّي منسوب الاحتقان المؤسّسي واعتبار المدرسة غير آمنة. 
قادتنا «حلقات التّركيز» إلى تمييز ثلاثة (3) أنماط من العنف بالمدرسة، أولا، يمارس عنف تلمذي داخل المدرسة في شكل اعتداءت تنفّذ في حرم المؤسّسة بين الفاعلين من التّلاميذ أو من الفاعلين التّربويّين. في حالة عنف التّلاميذ  يبرز نمطان، عنف فردي غالبا ما يكون لفظي من قبل تلميذ تجاه تلميذ لا يكون له تأثير كبير وغالبا لا يتطوّر. أمّا في حالة عنف المربّين (مدرسين أو غيرهم) يكون العنف في نفس الوقت لفظيّا (تهكّم- سخرية- شتم) ولكن أيضا عنف مادّي «شلبوق، مشطة، صفع وضربات مع غياب تلاميذ شهود»(14)، فالعنف المادّي يحتكره المربّون في القسم أو في مكاتب الإدارة « النَّاسْ الكُلْ خْذُوا فِينَا بَايْ من المدرّسين والقيّمين وحتّى القيم العام والمدير»(15)، وتمّ التّأكيد أنّ ممارسة الضّرب مازال تقليدا سائدا رغم منعه قانونيّا. ويمارس العنف في مختلف أماكن المدرسة خصوصا في «المناطق الميّتة»، وتنفذ الاعتداءات في القاعات المنزوية وفي الطّوابق العليا والسّاحة، وتتمّ في الأروقة الخفيّة، بمعنى في «التّْرَاكِنْ وحجرات الملابس والوحدات الصّحيّة وبعيدا عَنْ الَعْنِينْ» بعبارات متعلّم مشارك، ويقع الإيذاء في أوقات زمنيّة تقلّ فيها المراقبة ويكون فيها عدد التّلاميذ محدودا مع غياب القيّمين والمدرّسين. 
ثانيا، يمارس العنف من عناصر خارجيّة يمسّ التّلاميذ داخل المدرسة وخارجها، ويرتبط بتأثيرات المحيط/ البيئة المجاورة، ويظهر في تسلّل عناصر خارجيّة صلب المؤسّسة التّربويّة خلال الزّمن المدرسي حيث يتمّ الاعتداء على التّلاميذ وحتّى على المدرّسين أو الموظّفين، «لا يلبسون الميدعة ممّا يصعب تمييزهم لمعاكسة الفتيات وأحيانا للاعتداء والتّكسير أو تشويش الدّروس»(16). ويتمّ التّسلّل كذلك خارج الزّمن المدرسي، حيث تُحتل الملاعب وتُجرى مباريات كرة القدم  دون إذن، وتستخدم الفضاءات المغلقة  لممارسة سلوكات غير قانونيّة لا تحترم نظافة المدرسة وحرمتها، « يِشْرْبُو الكُحُول والمخدّرات، وفي الصّباح نلْقَى بقايا السّهرات اللّيليّة» وفق أحد المشاركين. 
وهناك العنف الذي يمسّ التّلاميذ خارج المدرسة، حيث تشكّل المساحات الخارجيّة لبعض المدارس النّائية عن الرّقابة الاجتماعيّة والأمنيّة، أقطاب جاذبة للأنشطة المنحرفة (استهلاك المخدّرات- راكات- الانخراط في عصابات ...). وينكشف هذا العنف في أشكال «خفيفة» أو في مخاطر يفرزها «الشّارع» من اعتداءات و«هرسلة» تمارس على التّلاميذ أو المربّين تحت التّهديد بالقوّة البدنيّة أو السّلاح الأبيض «يَخْطْفُو هَوَاتِفْنَا، أو هَاتْ أشْ عندك فْلُوسْ»(17). ويبدو أنّ المدرسة تشارك بصفة ما في هذا العنف بإقصائها التّلاميذ خارج المؤسّسة، فالفضاء المدرسي لا يستقبل التّلاميذ إلاّ بحضور مدرّس، وإلاّ عليهم مغادرة المؤسّسة، وبالتّالي تستقبلهم الفضاءات الخارجيّة، ويمكن لأيّ ملاحظ معاينة الأعداد الضّخمة من التّلاميذ أمام البوّابات بلا نشاط في انتظار درس قادم، وتتزايد المجموعات لعدم توفّر قاعات مراجعة والعدد المحدود للقيّمين، ما يعرض البقاء في الشّارع لتأثيرات «البَانْديّةْ والكْلُوشْهَارَاتْ والبَزْنَاسَةْ» (18)، وبذلك يكون التّلاميذ الأكثر هشاشة  تحت سطوة تأثير الشّارع . 
ثالثا، أشار بعض تلاميذ حلقات التّركيز وخاصّة من الفتيات إلى عنف مستجد وهو العنف الافتراضي، ويتمثّل في التّهجّم على التّلاميذ وعلى الإطار التّربوي، من خلال الإزعاج بالأنترنت والشّبكات الاجتماعيّة ببثّ الإشاعات ونشر الأكاذيب والاعتداء على الخصوصيّات بنشر مقاطع فيديو أو استعمال تطبيقات في الصّور « يَلَفْقُولْنَا تْصَاورْ وإلَّا يبعَثولْنَا تْصَاورْ خَايْبَة»(19) في الشّبكات الاجتماعيّة. بمعنى أنّ المدرسة التّونسيّة ليست بمنأى عن تصاعد الهرسلة الرّقميّة التي تبدو ظاهريّا محدودة وفرديّة، لكنّها قد تتطوّر في المستقبل وتتضخّم مضارّها في مزيد ترذيل المناخ المدرسي وإعاقة الجودة التّربويّة «فَمَّةْ تْلاَمْذَةْ عَمْلُوا مَقَاطَعْ مُوسِيقِيّةْ وشَرَائِطْ فِيدْيُو ونَشْر مُحَادَثَاتِ على الميسنجرْ حول الدّرُوسْ الخُصُوصِيَّةْ والتَّحَرُّشْ لِتَشوِيهْ المُدَرِّسِينْ» 20)، إلاّ أنّ البعض من المستجوبين اعتبروا أنّ التّهكم والاستهزاء من خلال الشّبكات الاجتماعيّة مقبول « نْفِذْلْكُو دَاخِلْ المَجْمُوعَاتِ، ويتمّ فيها تبادل الأدوار وهي مقبولة إلاّ إذا نشرت خارج المجموعة»(21)، عندها فقط يعتبرها بعض التّلاميذ نوعا من العنف الفايسبوكي. 
الهوامش
(1)   بتاريخ 1/9/2021.
(2)   بتاريخ 3/8/2021.
(3)  بتاريخ 9/9/2021.
(4)  بتاريخ 11/9/2021.
(5)   بتاريخ 17/9/2021.
(6)   أكرم،د، 14 سنة ، 9 أساسي، المدرسة الإعدادية 2 مارس بالزهراء.
(7)   أشرف، م، 17 سنة،  2 ثانوي، معهد جبل الجلود.
(8)   نفسه
(9)   سندة، ع، 14 سنة، 9 أساسي، م ،إ، 2 مارس بالزهراء.
(10)  يوسف، ب، 15 سنة، 1 ثانوي، معهد الهادي شاكر بصفاقس.
(11)   نفسه
(12)   الزيدي، ظاهرة العنف اللفظي لدى الشباب التونسي.
(13)  فادي، ك، 16 سنة، 2 ثانوي، معهد أحمد نور الدين سوسة.
(14)   لؤي، س، 14 سنة، 9 أساسي، م، إ، 2 مارس بالزهراء. 
(15)    نفسه
(16)  علاء، ص، 17 سنة، 2 ثانوي، معهد حي الأمل بفوشانة.
(17)  ميساء، ح، 16 سنة، 2 ثانوي، معهد أحمد نور الدين بسوسة.
(18)   نفسه
(19)   نفسه
(20)   محمد، س، 17 سنة، 2 ثانوي، محادثة فردية. 
(21)    نفسه