ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة 9 : لماذا يتعارض اتباع الهوى مع موضوعيّة القصد إلى الحقي
 لمّا كان الهوى (هوى النّفس)، لا يقوم إلاّ على نفي حقيقة موضوعيّة وإلاّ فإنّه ليس بهوى. فالهوى هو نفي الحقائق الموضوعيّة المتّصلة بالذّات، والذي يترتّب عنه نفي الحقائق الموضوعيّة المتّصلة بالوجود.
إنّ نظام الذّات هو نظام الوجود لأنّ المنظِّم واحد. فمن خلال التّعامل مع الذّات يكون التّعامل مع الوجود، فلو اعترفت لنفسك بالحقّ في أن تبذر كما تشاء أي أن تنفق بدون نظام، فسينشأ عن هذا - أحببت أو كرهت - نسيانك أوّلا إلى أنّه لا يوجد في العالم الموضوعي أيّ إنفاق ضائع بل كلّ شيء فيه يجري بمقدار، وينشأ عنه ثانيا قبولك بعبث الآخرين في الإنفاق، لأنّ النّفس تعذر الآخر فيما عذرت فيه نفسها حتّى لو ادّعت العكس. وسينشأ عن ذلك ثالثا مخاصمتك بالحال أو بالمقال أو بالفعل لكلّ ذي منهج وخطّة صارمة في الإنفاق، لأنّه يصبح حينئذ عدوّا لك (أي لنفسك).
فإذا ما كان اتخاذك للتّبذير نهجا عن ضعف في نفسك تعلمه ولا تسعى في مقاومته، فإنّ هذا باب الخراب إليك، لأنّك بذلك أظهرت مقتلك وكشفت للعدوّ سوأتك التي سيسارع إلى فضحها. فهناك أوّلا الاعتراف بانشطار الحقّ بينك وبين الوجود، فهنا خاصمت الوجود أحببت أم كرهت. وهناك ثانيا فصلك لنفسك عن الحقيقة وبالتالي افتقاد قاعدتك المتينة التي هي مصدر أمانك، وهناك ثالثا قبولك بمبدأ السّلطة عوضا عن مبدأ الحرّية لأنّ خضوع النّفس لمطلب غير مبرّر يجعلها تخضع بالضّرورة لقهر غير مبرّر سواء أكان قهر شياطين الجنّ أو شياطين الإنس. بذلك تنصّب على نفسك آلهة ما كانت لتتألّه فيها لولا فساد أهوائك واتباعك الشّهوات. فإذا ما أصررت على مبدأ الفصل بين العمل والعلم، ركبك النّفاق فعبدت إلهين: اللّه الحقّ الذي تعلم أنّه لا إله سواه، ودليله اقتناعك بفساد التّبذير، وهذه معلومة مصدرها الحقّ تعالى؛ وخضعت من دونه للشّياطين والطّواغيت لأنّهم سيدعونك إلى فعل ما لا تؤمن به، وإلى الصّمت عند لزوم الكلام والكلام عند لزوم الصّمت. فلا تمتنع لأنّك تعوّدت أن تقبل بهذه الثّنائيّة حفظا لنفسك على ما تزعم، وفي الحقيقة ما حفظت نفسك بل ضيعتها حيث أدخلت عليها الشّياطين والطّواغيت، وكنت قادرا على أن تمتنع عن ذلك برفض الشّهوات واتخاذ مبدأ وحدة الحقيقة والفعل.
إنّ النّفس الإنسانيّة لها استعداد كبير للإقبال على الحياة الدّنيا وزينتها، ولها استعداد للتّأثر بهذه الزّينة والفرح بهذه الأعراض الزّائلة. وإقبالها عليها وفرحها بها لهو من الأمور والحقائق الشّديدة الغرابة والشّديدة الاستعصاء على التّفسير، فما الذي يجعل النّاس مثلا يتقاتلون قتالا لا هوادة فيه من أجل السّلطة؟ وما الذي يجعل من بعض النّاس، إن لم يكن أغلبهم، قابلين للاستبداد والتّسلّط والظّلم بشكل لا مثيل له يمارس عليهم ليلا ونهارا فلا ينتصرون ؟
حقيقة أنّ أمر هذه النّفس الإنسانيّة لهو العجب العجاب. يقول تعالى ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾(1)
إنّ أخطر آثار اتباع النّفس وإقبالها على الهوى انفصالها عن الحقيقة الكلّية للإنسان وهي الحقيقة الموضوعيّة من كونه كائنا خالدا ذا بعد أخروي صحيح. إنّ التّرتيب الإلهي عجيب بين حركة الإقبال على الدّنيا والإعراض عن الآخرة. فكلّ وسوسة للنّفس تتعلّق بالدّنيا، تنقص من قوّتها وقدرتها على التّعلّق بالآخرة. إنّه جدل المتناقضات، فحبّ الدّنيا وحبّ الآخرة لا يلتقيان في نفس واحدة معا إلاّ أن يلتقي النّهار واللّيل في وقت واحد. وليس من حلّ لهذه المعضلة الوجوديّة التي هي لبّ إشكاليّة التّديّن نفسه إلاّ بالنّظر إلى تنظيم اللّه تعالى لدوران الأرض بحيث يعقب ليلها نهارها. 
فالنّهار واللّيل يمكن أن يوجدا معا ولكن ليس في وقت واحد، بل بحسب نظام التّعاقب. فيأتي اللّيل ثمّ يعقبه النّهار. والنّهار للعزم واللّيل للسّكينة والاطمئنان والرّاحة، ولابدّ لمن أراد أن لا يأكله اللّيل أن يضيئه بأنوار النّهار ومصابيحه وهي العزائم الصّادقات المتمثّلة في العبادات اللّيليّة. إنّ قيام اللّيل بذكر اللّه يفلق ظلمة اللّيل ويجعله أشدّ ضوءا من النّهار المنير. إنّ اللّيل في الاعتبار هو النّفس، أو هو هذه الحياة الدّنيا، فهي ليل كلّها من حيث هي طلاسم وألغاز وكون لا قعر له، على الأقل بالنّسبة للإنسان الذي يعلم أنّه اليوم في كون يتوسّع باستمرار، وعالم تتوالد حقائقه باستمرار، وتتبدّل معانيه وتتغيّر أبعاده في كلّ لحظة وحين.
فموقع الإنسان أصلا هو موقع ليلي، وهو لا يدري الأين ولا الكيف ولا المتى. إنّ المعلومات الفلكيّة الحاضرة والتي نوقن أنّها ليست سوى بعض حقائق الكون وذرّات عن علم اللّه بما أوجد وكوّن، تكشف عن أنّنا نحن البشر بالفعل فوق كوكب هو ذرّة في خضم الكواكب والسّيارات والنّجوم. فمن أين لنا وقد دارت بنا الدّائرة، أن نملك التّحديد والتّوجيه والتّسيير؟ ما أسوأ جهل هذا الكائن الذي يسير به كوكب مجهول في عالم مجهول إلى حيث لا يدري مايفعل به ولا بغيره(2) وهو يدّعي أنّه صاحب أمره ومالك سرّ نفسه. أمّا المؤمن، فسلّم للّه أمره. فإن قلت ومن هو هذا الإله؟ أجابك الخليل ابراهيم عليه السلّام ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(3)
أمّا نهار هذه الذّات الإنسانيّة المكرّمة فهو العقل. ولذلك كان العمل في النّهار حتّى يهتدي الإنسان إلى سبله ويتبيّن ما يعمل. فمن عمل في النّهار فقد وافق الطّبيعة التي لا يختلف منطقها. ولذلك فإنّ الإنسان الذي يتصرّف في نفسه على ضوء عقله، هو كالفلاح الذي يزرع أرضه في واضحة النّهار، فيعلم ما يزرع ويعي ما يفعل، فيوفق بإذن الحكيم العليـم. أمّا المقبـل على نفسـه بدون عقـل، فكالمقبـل على الأرض في ليل دامس يريد فلحها وتشذيب أشجارها وغراستها وسقيها، ويطمع بعد ذلك في أكل ثمرها. فهـذا ما لم نر من يفعله في ظاهر الوجود، أمّا في باطن الوجود الإنساني فأغلب النّاس يفعلونه ولا يتحرجون، وما ذلك إلاّ بفعل الجهل والضّلالة العمياء والصّمم النّاشئ عن استفحال سلطة الأهواء. فمن أقبل على نفسه بعقله، كان كمن أقبل على أرضه في وضح النّهار، فطوبى لمن علم أنّه أرض وأنّه يتواتره اللّيل والنّهار فاغتنم من نهاره، وزاد فنوّر ليله بالسّكـون إلى ربّه الواحد الأحد الدّيـان. إنّ هذا المخلوق لا يزال في مزيد نور، ولا يزال في مزيد سعـادة حتّى يصبح نورا كلّه. وفي لحظة الفجر حيث يلتقّي اللّيل والنّهار بإذن اللّه تطمئن نفسـه بما حوت كمال الوقت وأحاطت بكليّة الزّمان. فإذا حاز علم اللّيل والنّهار، كان حريّا وحقّا على اللّه أن يجازيه بالرّجعى إليه حيث النّور الخالص وحيث سكينة الوجود وسعادة الأبد.  
إنّ المؤمن كائن نوراني يطلب النّور أنّى وجد، وهو لا يحيا إلاّ في النّور. وإذ ابتلاه اللّه باللّيل، بهذه النّفس، فقد وجب عليه أن يجعل ليلها نهارا وظلمتها نورا وجهلها علما. ولا يكون ذلك إلاّ بالعلم اليقين والعلم الذي يجعل ظلمة النّفس نورا هو على التّحقيق العلم الإلهي الذي لا يدانيه علم، وهو من حيث صدقه اليقين الذي لا ذرّة شكّ فيه.
وعلم اللّه تعالى جاء في كتابه. ففي كلّ كتاب للّه يوجد علم اللّه. وعلى التّحقيق فما بقي سوى القرآن المجيد حاويا لعلم اللّه اليقين. أمّا كتب اللّه السّابقة فقد تفضّل اللّه الرّحمان الرّحيم بدمج نسختها في القرآن الكريم، فجاء حاويا لعلوم الأنبياء كلّهم، وجاء بعلوم الأوائل والأواخر. فانظر إلى قوله تعالى ﴿إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، تعلم أنّه تعالى جعل القرآن كتابا جامعا ونسخة حاوية لكلّ ما سبقها. أمّا اليهود والنّصارى، فقد ارتكبوا الإثم العظيم بافترائهم على اللّه الكذب وتحريفهم لكتبه المقدسة. ولذلك، فلا يزالون في بلبلة وفي شكّ، ولسوف يبقى الشكّ والرّيب سمة عقولهم وطبعا في أنفسهم حتّى يقضي اللّه أمرا كان مفعولا.
وأمّا هذا الكتاب الأشرف المبارك، هذا القرآن الكريم فيرثه آل ابراهيم جيلا بعد جيل، كما ورثهم اللّه تعالى الحكمة والملك العظيم رغم حسد الحاسدين: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾(4). 
فهذا الكتاب ليس ملكا لأمّة بعينها ولا لشعب بعينه، بل هو إرث ابراهيمي محمدي إلهي المصدر للنّاس أجمعين «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ»؛ وهو لا يلتفت إلى أولئك الذين يريدون أن يجعلوه إرثا يتناقلونه بالتّبعيّة لآبائهم وأجدادهم. القرآن الكريم صريح في أنّ الإنسان إذا عقل فإنّه يملك نفسه، وإذا ضلّ فإنّه بيده أضلّها وضيعها. ولذلك جاء خطاب الشّرع المطهّر محرضا على تطهير النّفس وداعيا إلى كمال العقل بكمال تطهير النّفس.
فكلّما ازداد الإنسان تحكّما في نفسه ازداد عقلا، وكلّما ازداد عقلا ازداد علما، وكلّما ازداد علما ازداد يقينا، وثمرة اليقين الإيمان، وثمرة الإيمان الإسلام، وجزاء الإسلام الأمان في الدّنيا والجنة في الآخرة.
والوجه الثّاني لهذا العلم، أنّه كلما ازداد الإنسان ضعفا أمام نفسه (اتباع الهوى)، ازداد جنونا (ضدّ العقل). وكلّما ازداد جنونا ازداد جهلا، وكلّما ازداد جهلا ازداد شكّا. وثمرة الشّك الكفر، وثمرة الكفر الشّرك، وجزاء الشّرك الخوف في الدّنيا والنّار في الآخرة.
والنفس كما يجلّيها القرآن، هي محل التّربية والتّزكية والتّطهير، وهي محلّ العجب والكبر، وباختصار هي محلّ الفجور والتّقوى. والفلاح يكون بتزكيتها والخيبة تكون بدسّها، يقول تعالى﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(6).
يتبين من خلال الآيات السّابقة أنّ أمر النّفس بيد صاحبها، وأنّها مجال العمل وموطن الابتلاء بالنّسبة للإنسان، وهي كالحقل بالنّسبة للفلاح والبحر بالنّسبة للصّياد. وقد بينّا أن جوهر الوجود الإنساني القلبي الباطني الغيبي دائرة نصفها العقل ونصفها النّفس. وهو تمييز على سبيل الاعتبار، حيث أنّ الإنسان في الحقيقة نفس واحدة، إلّا أنّها من حيث الوظيفة ثنائيّة العمل، فجانب منها فاعل (العقل)، وجانب منها مفعول (النّفس). ولابدّ للجانب الفاعل أن يبرز أثره، ولا يبرز إلاّ في الجانب المنفعل. 
وكما لا يبرز أثر عمل الفلاّح إلاّ في الأرض، فإنّ أثر العقل لا يبرز إلاّ في النّفس. فالنّفس مرآة العقل الصّادقة التي تدلّ على ظهوره أو انحجابه، وعلى قوّته أو ضعفه، وعلى وجوده أو عدمه، وعلى صحّته أو فساده. ولذلك فالنّفس هي عين الإنسان وكنهه وجوهره. فالبحث عن مستوى إنسانيّة الإنسان يكون في معرفة نفسه وفحص حقيقتها، والبحث في أمر النّفس يتّصل أساسا بمعرفة من يتولاّها ومن يغذّيها. فإنّ النّفس كالرّضيع لابدّ لها من أمّ مرضع ولا بدّ لها من شراب، وبحسب الشّراب يكون نموها.
وعليه، فإنّ النّفس إذ تخالط العقل تصبح عين الإنسان. فإن خالطت عقلا نيرا حقيقيّا كانت عينا نورانيّة والرّسول ﷺ يقول: «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه»(7)، وإن بقيت بدون عقل كانت كالشجرة التي لم تذكّر (تلقح) لا تثمر، فإذا أثمرت فنبتا نكدا وثمرا مرّا. فالعقل هو لقاح النفس. فصحت الزوجية لباطن الإنسان وغيبه، كما صحت في ظاهر حياته. فالإنسان في الظاهر ذكر وأنثى وفي الباطن عقل ونفس. وقد فصّل اللّه تعالى في الظّاهر الذّكر عن الأنثى، ولكن جعل تركيب جسد كلّ منهما لا يفهم له معنى ولا تحصل منه ثمرة إلاّ بولوج الجسد الآخر فيه ومن تكامل الجسدين تحصل الثّمرة (الولادة) ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾(8).
وقد جعل اللّه الزّوجية رباطا وميثاقا غليظا، وجعل أحسن علاقاتها المودّة والرّحمة. فذلك المطلوب في ظاهر الشّريعة لظاهر العلاقة الزوجيّة، هو المطلوب في باطن الشّريعة لباطن العلاقة الزوجيّة بن العقل والنّفس. فإذا قلنا ظاهر وباطن فلا لنفصل بل لننبّه إلى أنّ الظّاهر مرآة الباطن وإلى أنّ الظّواهر اعتبارات يقصد من ورائها التّنبيه إلى الغيب الباطن. فهي كالآيات الكونيّة، يقصد بها التّنبيه إلى وجوده سبحانه وتعالى.
من أبواب تزكية النّفس تجنب الشّح الذي تحدِّث به نظرا لفقرها المدقع وفراغها الأصيل. يقول تعالى ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(9). وفي سورة التّغابن يعيد اللّه نفس التّحريض﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(10).
وفي هذا التّكرار لمسألة شحّ النّفوس تأكيد ولا شكّ على الصّفة الأساسيّة للنّفس: «الشّح»، وأنّ أهمّ تزكية للنّفس، والفلاح في تزكيتها يكون بتوقّي شحّها، فبماذا تشحّ النّفس ولماذا تشحّ ؟
إنّ النّفس تشحّ بالبذل والعطاء والإنفاق، أي بصفات الفعل والتّأثير والمدّ لتستجيب أكثر وبصفة غريبة إلى نداءات الأخذ وأوصاف الانفعال وخِلالِ التّأثّر والاستفادة والاستغلال؟
أمّا لماذا؟ فلأنّ النّفس لا تملك شيئا لتعطيه، وهي بفعل غريزة الرّغبة في الوجود وحبّ البقاء تريد أن تبقى وأن تأمن وأن تطمئنّ وأن تستمر وأن تسعد. وهذه المطالب كلّها حاجات أساسيّة للنّفس تطلبها بلا هوادة. وهي في طلبها هذا إمّا أن تطلبها من مصدرها وهو اللّه تعالى لا سواه. ولا يكون هذا الطّلب إلاّ من النّفس العاقلة أي التي اكتملت دائرتها على ما بينا آنفا؛ أو أن تطلبها من مصدر وهمي هو الشّيطان بأي وجه تجلّى لها، وحينئذ فإنّه يعطيها أوهاما لا تزيدها إلاّ شعورا بالحاجة ورغبة في الشّحّ والبخل. 
إنّ اللّه تعالى يجعل العقل مناط الإنسانيّـة وجوهرهـا، والنّفـس مجلى هذه الإنسانيّـة. يقول تعالى في القرآن المجيد ﴿بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرهُ﴾(11). هذه الآية محكمة، حاسمة، صارمة، دالة على موقع الإنسان من نفسه وموقع نفسه منه. فالإنسان وهو الخليفة، وهو في التّأويل الأصح: العقل، الذي هو في حقيقته روح اللّه الأقدس، هو الخليفة وهو الظّاهر في المملكة الإنسانيّة بتأييد اللّه تعالى وتنظيمه وتقديره وقضائه. فهو بصيرة نفسه، وهو الشّاهد عليها. هكذا أراد اللّه تعالى وهكذا أمره وهكذا بنى اللّه هذه المملكة الإنسانيّة. غير أنّ أغلب البشر تنقلب عليهم أنفسهم بظلمهم لها إمّا جهلا بالحقائق أو عتوّا عليها، فيجعلون النّفس ظاهرة على المملكة، ومن وراء النّفس المستعلية يأتي غُواتُها من شياطين الجنّ والإنس. فإذا ما  شعر الإنسان بهذا الزّيغ وهذا الفساد في نظام كيانه، رأيت أغلب البشر وإن سلّموا بحصول الفساد (وهذا من دلائل وجود فطرة اللّه السّليمة في الإنسان)، فإنّهم لا يقرّون بأنّه منهم ومن نتاج أفعالهم، بل يلقون معاذير تدور كلّها حول الاضطرار وعدم الاختيار، وحول اتباع الآباء وتقليد التّيار الغالب على الإنسانيّة وكلّها أوهام وضلالات لا يقبلها الحقّ تعالى.
إنّ هذه النّفس الإنسانيّة لا تفجر ولا تستعلي ولا تعتو على صاحبها إلاّ بسوء تدبيره لها، وبتفريطه في إحكام هذا التّدبير ، فإنّ وعي صاحبها واتقى ولام نفسه على التّقصير،وآب إلى الحكيم القدير فلعل ذلك أن يكون باب الخير ومدخل الغفران وتوبة الرّحمان عليه. أمّا إن استكبر وتولّى، وما صدّق ولا صلّى، فلن يترك سدى ولابدّ من قيامة يبعثه اللّه فيها فيدمّر عليه أركانه، ويمحق بنيانه.
الهوامش
(1) سورة الأعلى - من الآية 16 إلى الآية 19
(2) فلنتدبر قوله تعالى:«قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين» الأحقاف :9
(3) سورة الأنعام - الآية 79
(4) سورة النساء - الآيتان 54 و55
(5) سورة الشّمس- من الآية 7 إلى الآية 10
(7) رواه الترمذي في جامعه(3127)
(8) سورة يس - الآية 36
(9) سورة الحشر - الآية 9
(10) سورة التغابن - الآية 16
(11) سورة القيامة - الآيتان 14و15