همسة

بقلم
رضوان مقديش
التّنسيب والإطلاق
 بعيدا عن نسبيّة «أينشتاين»،النّسبيّة كقانون ومبدإ عام في العلم والمنطق وكلّ مجالات التفكُّر هي دون منازع الفكرة الأكثر حضورا على الإطلاق. فهي تمثّل المرونة والوسطيّة والإعتدال-وأحببنا أم كرهنا- والواقعية. ولو كان الأبيض والأسود حدَّين في الأطراف، فالرّمادي بمختلف أطيافه يمثّل مجالا شاسعا بينهما.
 في الإطار الإجتماعي، يعتبر الإعتماد على فكرة النّسبيّة حلاً منقطع النّظير للتّوازن النّفسي والتّعايش السّهل المرن بين أفراد المجتمع. فعند الإختلاف ووقوع الخلافات من الأنسب الإقتناع بنسبيّة الخطإ،فكلّ طرف يساهم حتما في وقوع المشكل بنسب متقاربة أو متباعدة، وليس من العقل التعصّب والإصرارعلى الإنتصار لموقفنا وتعييب موقف الآخرين، ومن الأجدى الفصل بين الأفعال والأشخاص، فكلّ النّاس يخطئون وليسوا سيّئين .
في نفس المجال النّفسي والإجتماعي، ثمّة فكرة قرينة النّسبيّة ألا وهي المقارنة. المقارنة إن هي وظّفت بطريقة إيجابيّة تساهم في تركيز القناعة وإذكاء الطّموح المشروع، ولكن انتهاج سبيل المقارنة بطرق غير مثاليّة يوصلنا إلى مساحات سلبيّة من غيرة وحسد وعلاقات إنسانيّة متوتّرة مبنيّة على الطّبقيّة، وعلى الصّعيد الشّخصي والنّفسي تسهم في اهتزاز شخصيّة الصّغار وتعكير نفسيّة الكبار. 
والتّركيز على المقارنة يعتّم على الطّموح المطلق، فترى الكثيرين لا يهدفون إلى التّطوّر وتحسين الذّات والرّقيّ بها، بل يكتفون بالبحث عن موقعهم في سلّم المقارنات ويقنعون بـ «رتبة مشرّفة»، والأدهى والأخطر يحاولون النّيل من مراتب الآخرين، والتّقليل من شأنهم بالغيبة والبهتان، وتعطيل مسارهم بشتّى أنواع الإساءة قصد البروز على حسابهم، أي بطريقة الهدم عوض البناء.وهنا تتّضح الحاجة الملحّة لاعتماد أهداف ذات صبغة مطلقة والتّحرّر من نسبيّة المقارنات المكبّلة.
على الصّعيد الدّيني، يمكن اعتبار الإنسان مخيّرا في مجالات وحدود ومسيّرا في مجالات وحدود أخرى أي أنّه مخيّر نسبيّا ومحاسبته تكون حصريّا من لدن خالقه اعتمادا على مقاييس مطلقة لا يعلمها إلاّ هو سبحانه، تأخذ بعين الإعتبار من بين المقاييس نسبيّة الإختيار لدى المخلوق. وأفضليّة أعمال الإنسان نسبيّة من درجات السّلب إلى درجات الإيجاب، والخير نسبيّ والشّرّ نسبيّ، ومفهوم الخير والشّر مفهوم مطلق.
إنّ سيطرة النّسبيّة وانفرادها بالإدراك الفكري والحسّي، يمكن أن تفرز عدّة نتائج سلبيّة. ففي هذا الكون اللاّمتناهي في الكبر يمكن اعتبار الأرض حبّة من رمل الصّحراء، ويمكن اعتبار الإنسان قطرة من ماء المحيط أو دونها، فهنا يبرز خطر التّحقير وذوبان الذّات وتفكّكها وضياع تام للإتزان. من حسن الحظّ أنّ اللاّمتناهي في الكبر يقابله اللاّمتناهي في الصّغر، فيمكن في إطار تنسيب الحجم أن يجد الإنسان توازنه بين المجرّة وما دون الذرّة .
بيد أنّ قياس قيمة الإنسان بالحجم الفيزيائي قصور وتجنٍّ، فهو على الأقل من المنظور البيولوجي عالم كبير متكامل، كلّه عجائب وخوارق ألفنا البعض منها،
«وتحسب أنك جـِرمٌ صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر»(1).
ولكنّ الأهم في كلّ هذا هي القيمة الإعتباريّة للإنسان ككائن مفكّر، قيمة مطلقة لا تقاس ولا تقارن. وأبعد من ذلك وأعمق قيمته الرّوحيّة، فهو الكائن الذي كرّمه خالقه، ونفخ فيه من روحه، وحمَّله مسؤوليّة الإستخلاف في الأرض: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ...﴾(2)،«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً …﴾(3) ،﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ … ﴾(4)، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾(5)،﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(6). 
  غير بعيد عن كل ذلك، تمتاز الآخرة عن الدّنيا بعظمة ثوابها وهول عقابها واقترانها بالبقاء والخلود، ومن الطبيعي، أن يميّزها النّص القرآني تمييزا إيجابيّا لكونها غيبيّة وكونها موضوع وإطار الدّعوة إلى الإيمان والطّاعة . ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَ﴾(7)، ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(8).
كل هذه الحيثيّات تجعل البعض ممّن يقارن مقارنة مباشرة بين الدّنيا والآخرة ينزلق إلى احتقار الدّنيا وإفراغها من قيمتها المطلقة، وحصرها في وظيفة الإمتحان والإختبار،وذلك يفضي إلى ولادة نزعات السّلبيّة والرّهبانيّة والإستقالة من ممارسة الحياة .والهوس بفكرة الإختبار يعطّل الإختبار ذاته، فإن كان الإختبار اختبار سلوك فهو -ضمنيّ وقبل كلّ شيء - مسلك يجب أن يُسلك. والنّجاح في الإختبار رهين ممارسة الحياة ومواجهة ابتلاءات الخير والشّرّ واختيار الخير وفعله.
ومن الحكمة الإلهيّة المطلقة تلك الإزدواجيّة التّكامليّة التي توفّق بطريقة إعجازيّة بين محتوى الإختبار ومتطلّبات الحياة الطيّبة، فالمطلوب من أوامر ونواهٍ يهدف بالتّوازي إلى سعادة الدّنيا وثواب الآخرة. ولا سبيل للعزوف عن الحياة الدّنيا، ولا بدّ من العمل والمعاملات وإعمار الأرض التي استخلفنا الله فيها، ولا مجال للتخلّي عن الملذّات المشروعة ونشر الفرح والمرح والسّعادة والسّرور .
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(9) .
ولندع لبعض المشايخ بالمغفرة بخصوص آراء وفتاوى تشوه الإسلام ولا تناسب إلا مزاجهم العبوس المتجهّم، فتراهم يضيّقون في مجال الحلال والمباح، فيضيّقون في الدّين ويحسبون على النّاس أنفاسهم وابتساماتهم وفرحهم، فيحرّمون الموسيقى والغناء وجلّ الفنون .
إنّ طبيعة العلاقة الجدليّة بين الدّنيا والآخرة وارتباطهما، تدفعنا إلى الجزم بأنّ التّنسيب والمقارنة بينهما لا تستقيم، ولا بدّ من اعتبار الموقع والقيمة المطلقة. أبعد من ذلك، المقاربة المعمّقة والمنطقيّة تشير بوضوح إلى التّوازن . وتصديقا بمسألة الإعجاز العددي في القرآن واقتناعا باستحالة ربطه بالصّدفة، علينا أن نذكّر أن كلمة «الدّنيا» وكلمة «الآخرة» كليهما وردت بالتّساوي 115 مرّة في القرآن الكريم .
 خلاصة كلامنا أنّه لو أردنا الإقتراب أكثر من المناهج الفكريّة الصّحيحة، ربّما يكون من الأجدر تنسيب اعتماد التّنسيب. 
الهوامش
(1) من شعر الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه
(2) سورة البقرة - الآية 29
(3) سورة البقرة - الآية 30
(4) سورة البقرة - الآية 34
(5) سورة الإسراء - الآية 70 
(6) سورة الحجر - الآية 29
(7) سورة الضحى - الآية 4
(8) سورة الأعلى - الآية 17
(9) سورة الأعراف - الآية 32