حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة السابعة : بين البيع والرّبا : تشدّدات وتسيّبات.
 مقدّمات :
 1 - ينتمي الحقل الماليّ إلى الفضاء الخاضع للتّعليل والتّقصيد. ومقتضى ذلك هو إجراء معاملاته على أسّ هذه القاعدة العظمى (تدور الأحكام مع عللها وجودا وعدما). 
 2 -  من مفهومات قوله سبحانه ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1) أنّ الأصل أنّ مشهد التّبايع (بغضّ النّظر عن المبيع مادام مباحا تداوله) لا يغشاه الرّبا، وأنّ مشهد الرّبا لا يغشاه تبايع. ومن معاني ذلك كذلك أنّ كليهما يكون بديلا عن الآخر، عدا أنّ البيع مباح والرّبا محرّم. 
 3 -  حرّم اللّه الرّبا أكلا تحريم مقاصد، فهو محرّم لذاته مثل شرب الخمر وغير ذلك. وحرّم نبيّه ﷺ في حديث مسلم مؤاكلة الرّبا (وساطة أو تراشيا وإعطاء مباشرا) ضمن مشهد معروف تحريم وسائل. فهو إذن محرّم لغيره وليس لذاته. مثل الجلوس حول مائدة خمر دون ضرورة ولا حاجة.
 4 - وممّا يتعلّمه طالب العلم أنّ المحرّم لذاته يباح للضّرورة. ويباح المحرّم لغيره للحاجة. كما يتعلّم أنّ الضّرورة أشدّ من الحاجة. وإن كانت تنزل هذه منزلتها كما ثبّت الأصوليّون ذلك. 
 5 -  الضّرورة عند الغزالي قاصرة على الكلّيات الخمس (أو الستّ بحسب الإختلاف فيها) وهي عند الشّاطبيّ تشمل الحاجيّات وعند القرضاويّ تشمل معقول المعنى. ولكنّ التّحقيق يفضي إلى أنّه - مع إعتبار ذلك- يوكل إلى المعنيّ نفسه علاقة مع ربّه تحديد الضّرورة مبدأ وقيمة، ولا يلغي ذلك واجب الإستشارة والإستخارة معا، وأنّ ضرورات اليوم هي تحسينيات الأمس. 
 6 -  المعاملات الماليّة تغيّرت كما لم يتغيّر شيء في هذه الدّنيا. والبون بين شكلها أيّام التّنزيل وبين اليوم بون لا يقدّر ولا يوصف. ولا يعني ذلك عدا حدّ أصول المعاملات حدّا صحيحا للتمسّك بها والإجتهاد (من أهله وفي محلّه) لأجل الجمع بين مطلبين : ترسيخ الأصول لا الفروع وتيسير حياة الناس لا تعسيرها. 
 7 -  من أقسام الرّبا : الأكل والمؤاكلة - النّسيئة والفضل. لا خلاف حول حرمة ربا النّسيئة مبدأ (الخلاف في تحقيق بعض المناطات على بعض المعاملات الجديدة). ولا خلاف حول أنّ النّسيئة أصل محرّم لذاته وأنّ الفضل فرع محرّم لغيره ذرائعيّا. ولكن تظلّ المشكلة هنا كذلك حول صحّة بعض الأحاديث في ربا الفضل وصراحتها (هل هي للتّحديد والتّعيين أم هي لمراعاة ظروف التّنزيل، وهل أنّ بعضها بمقام غير مقام النّبوّة والتّبليغ). 
 8 -  من أبرز المعاملات : القرض الحسن - القرض الربويّ - المضاربات إشتراكا بين المال والعمل في الرّبح والخسارة. 
 9 -  من صور التّبايع : بيع المرابحة وهو الأصل. ولا حدّ لقيمة الرّبح ما خلا من كلّ ضروب الغشّ إلاّ بقانون العرض والطّلب الذي لأجله أبى ﷺ التّسعير؛
- بيع التورّق وفيه خلاف. ولكنّ الأرجح جوازه بناء على قاعدة عظمى في المعاملات الماليّة قوامها أنّ الأصل فيها الإباحة ما لم يرد نصّ صحيح (لا يحتمل ضعفا) وبمثل ذلك هو صريح. والتورّق هو الحاجة إلى مال سائل (عادة) يكتسب بوسائل مشروعة؛ 
- بيع السّلم وهو الذي أباحه ﷺ في المدينة في أوّل مقدمه للحاجة والعرف، وهو على غير الأصل. وإشترط ما يحميه من الخديعة في حديث صحيح؛ 
- بيع الأجل وهو بخلاف بيع السّلم. أي حضور المثمون وتأجيل الثّمن. وهو المعبّر عنه في علم المال أنّ للزّمن ثمنه 
- بيع العينة وهو محرّم بحديث صحيح لأنّه تحايل صريح على الرّبا المحرّم. 
- بيع الوفاء وهو شبيه بالرّهن ومختلف في جوازه.
 10 -  مصالح تحريم الرّبا (أكلا ومؤاكلة) منظومة جامعة منها المنصوص عليه ومنها المفوّت فيه للإستنباط.
أ- (لا تظلمون ولا تظلمون).هذه مصلحة منصوص عليها. وهي في حكم القاعدة الفقهيّة الثّابتة وأصلها حديث نبويّ (لا ضرر ولا ضرار). ومن ذا فإنّ اللّه حرّم الرّبا (مشهدا جامعا) لنفي التّظالم بين النّاس وترسيخ قيمة العدل وتحرّي القسط قدر الإمكان. وهذا نفسه وسيلة إلى مقصدين : مقصد تأمين الإنسان وتحريره من طاغوت المال وعبادة الدّنيا. ومقصد رصّ الصفّ أن تجتاله العداوات بسبب غرور الدّنيا.
ب- مصلحة أخرى بسط القول فيها خبراء الإقتصاد من غير المسلمين، وهي أنّ ممّا يحمي التّداولات بين النًاس من التضخّم الماليّ (سرطان إقتصادات العالم كلّه تقريبا) البحث عن شراكات تستوي فيها حظوظ المال مع حظوظ العمل. عندما يستأثر رأس المال بحظّ أوفر فإنّ الثّمرة المرّة مزدوجة : تفاوت طبقيّ وتناحر فئويّ بسبب إفتراس الإغنياء للفقراء وإنحباس التّداول وهو ما سمّاه اللّه ﴿دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾(2) وفرار لليد العاملة وتجفّف لفرص العمارة بسبب اللّهث خلف الرّبح السّريع. وخير دليل إقتصاديّ حديث على خطورة السّرطان الرّبويّ على تداول المال بين النّاس هي أزمة العقارات في الولايات المتحدة عام 2008. والحقّ ما شهدت به الخصوم كما قيل.
ج- تحريم الرّبا إذن هو تحريم يحمل في رحمه علله المعقولة : تجفيف منابع الظلم ونفي القهر الذي به يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب. والثمرة دون ريب : صدور موغورة وصفّ مفكّك وذهاب ريح  وتمكّن عدوّ.
ربا الفضل ذرائعيّ :
أورد مسلم خاصّة وبعده البخاريّ أحاديث كثيرة تنهى عن بيع أصناف ثمانية مرّة بجنسها مقايضة بسبب ندرة العملة ومرّة بغيرها إلاّ يدا بيد. 
 1 - الأرجح المفهوم أنّ تلك الأصناف(وفي عددها بعض الإختلاف) ليست مقصودة لذاتها بل لموضوعها. إذ هي مدار الأمن الغذائيّ و الماليّ.  
 2 -  (يدا بيد) صورة ممكنة في تلك الأيام. اليوم كثير من تداولاتنا عن بعد (إلكترونية وهاتفيّة). هو تعبير مجازيّ مقصـوده الحيلولـة دون وقوع ربا بسبب غشّ أو غرر أو جهالة. ﴿عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(3) لا تعني بطلان الجزية لو لم تسلّم باليد. إنّما تعني الكمال دون نقصان والقوّة كذلك. 
 3 -  بيع السّلم ما أبيح إلاّ لحاجة النّاس أن تتعسّر حياتهم. وهو خلاف الأصل. ولا تسلم بعض مشاهده من ظلم. ولكنّ العرف محكّم ولا عبرة بالإستثناء. وبيع الأجل مثله. وبعض صور التورّق والوفاء، إلاّ العينة لأنّها ربا وفيه ظلم وقهر.
خلاصة :
 1 -  التّسوية في التّحريم بين أكل الرّبا ومؤاكلته حاجة أو ضرورة تقدّر بقدرها تشدّد يبغضه اللّه بمثل بغضه تحليل أكله.
 2 -  التّسوية بين ربا النّسيئة والفضل تحريما تشدّد مثله.
 3 -  قياس كثير من صور البيع المعاصرة على ربا النّسيئة الأوّل جهل بعلّة الحرمة أو تجاهل لحاجات النّاس أو جهل بحقيقة المعاملات المعاصرة. وتحوّط مفض إلى التشدّد.
 4 -  عدم إعتبار الزمن عنصرا من عناصر المعاملة جهل  مدقع. ومن يريد من المصرف بيتا أو ظهرا يسلّمه له برأس ماله أو يسدّد ثمنه بعد سنوات بثمنه الآنيّ أنانيّ قدّ عقله كما قدّ عقل المصرف نفسه.
 5 -  قصر الفضل على (الثّمانية المذكورة) مع تبدّل حاجات العيش هو مثل إخراج زكاة الفطر شعيرا لفقير لا يأكل شعيرا وليس له دجاج يطعمه إيّاه.
 6 -  ومع ذلك كلّه يظلّ أكل الرّبا حتّى يوم البعث محرّما لذاته قطعا. ويظلّ تحرّي عدم الوقوع في قبضة المشهد الربويّ - ولو مؤاكلة وضرورة- تقوى وورعا. ويظلّ الورع عن المشهد الربويّ (دون الأكل) وتفويت مصالح معتبرة أو مرسلة والخضوع لمفاسد غالبة ورعا فاسدا. 
 7 -  نبذ المسلمون فريضة التّعاون على الخير وهي فريضة دينيّة وضرورة واقعيّة وسلاح مقاومة وخضعوا لقهر البنك الدّوليّ و تشدّدوا في ربا الفضل جهلا بحكمته وسجنوا أنفسهم في سؤال : هل يجوز هذا وهل يباح ذاك.
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 275 
(2) سورة الحشر - الآية 7 
(3) سورة التوبة - الآية 29