ملفات

بقلم
د.أشواق طالبي المصفار
البيروقراطية: فساد وغياب لقيم العمل (1/2)
 يندرج عملنا هذا ضمن علم الاجتماع الإداري الذي يعدّ فرعا من فروع علم الاجتماع العام. ويدرس الأنظمة الإداريّة التي ترتكز عليها الدّولة أو الحكومة أو السّلطة التّنفيذيّة أو الوظيفة العموميّة في أداء خدماتها ومشاريعها وإنجازاتها، وممارسة سلطتها المرفقيّة، وإصدار القرارات  الخاصّة بكلّ واقعة إداريّة على حدة. 
ومن هنا، يهتمّ علم الاجتماع الإداري بدراسة الإدارة باعتبارها فضاء مختبريّا، يشتمل على مجموعة من الموظّفين والمديرين ورؤساء الإدارة، تجمعهم علاقات وظيفيّة مختلفة، ضمن نسق تراتبي بيروقراطي. ويعني هذا أنّ علم الاجتماع الإداري يدرس البيروقراطيّة، والنّخب الإداريّة، والنّظم الإداريّة، والحياة الدّاخليّة للوظيفة العموميّة، والتّركيز على السّلطة السّياسيّة والقرارات الإداريّة، ومظاهر الخلل والفساد...                                                                                                
منهجيّا، يعتمد علم الاجتماع الإداري على ملاحظة الظّواهر الإداريّة التي لها طابع اجتماعي، أو لها علاقة بالمجتمع من حيث التّأثير والتّأثّر (ظاهرة دراسة اليوم: الفساد الإداري). وبعد ذلك، تأتي عمليّة جمع المعطيات والبيانات والوقائع حول الظّاهرة الإداريّة وتصنيفها ونمذجتها وفق حقائق ومؤشّرات ومنهجيّات معيّنة. 
ويمكن للباحث أن يلتجىء إلى التّجريب والاستقراء والاستقصاء الجزئي أو الكلّي، بغية معرفة القوانين التي تتحكّم في الإدارة بصفة عامّة، والإدارة العموميّة بصفة خاصّة، بغية تحصيل النظريّات وتجريدها وتعميمها علميّا وكونيّا. ومن هنا، يمكن اتباع منهجيّـة كمّيـة قائمـة على الإحصـاء والرّياضيـات، أو منهجيّة كيفيّة قائمة على المقابلة، ودراسة الحالة، ودراسة المضمون، والمعايشة، والملاحظة الميدانيّة المباشرة...                                                                                           
ومن ناحية أخرى، يمكن الاستعانة بالخطوات المنهجيّة المعروفة في علم الاجتماع، مثل: الفهم الدّاخلي للظّاهرة بوصفها واستقراء دلالاتها ومضامينها الإداريّة والمجتمعيّة، ثمّ تفسيرها تفسيرا سببيّا أو عليّا، بإرجاعها إلى عوامل داخليّة أو خارجيّة، ثمّ تأويلها تأويلا ذاتيّا أو مرجعيّا أو إيديولوجيّا.                     
وعليه، يتّخذ علم الاجتماع الإداري طابعا نظريّا أو طابعا تطبيقيّا فيما يتعلّق بالظّواهر المرتبطة بأخذ القرار السّياسي في مجال الإدارة، ودراسة حياة الوظيفة العموميّة.                                                         
 يُعدّ الفساد ظاهرة مستفحلة داخل المجتمعات في الوقت الرّاهن تبعا لتأكيدات العديد من الباحثين والمختصّين، وهو لا يقتصر على مجتمع دون آخر، فقد أضحى ظاهرة عالميّة تشكو منها كلّ الدّول، وإن كان ينتشر بدرجات متفاوتة وبأشكال متعدّدة في مظاهرها وأسبابها إلاّ أنّه يشكّل خطرا على الأمن الاجتماعي والنّمو الاقتصادي و الاستقرار السّياسي، فتأثيراته السّلبيّة تقف عقبة في وجه التّنمية وتطوّر المجتمع. 
لكلّ هذا، ارتأينا تسليط الضّوء على هذه الظّاهرة من منظور سوسيولوجي وتحديدا ضمن علم الاجتماع الإداري بالتّركيز على البيروقراطيّة والنّظم الإداريّة التي حلّ بها الفساد، ومحاولة التّعرّف على منشئه وعلاقته بقيم العمل، وآثاره في الفرد والمجتمع، وسبل محاربة هذا السّلوك المنحرف.          
1 البيروقراطية و التحوّلات الاجتماعية:                                                                       
أ -تعريف البيروقراطية:                                                                                         
تعني كلمة البيروقراطيّة المكتب أو الموظّفين الجالسين إلى مكاتبهم لتأدية خدمات عامّة. ظهرت البيروقراطيّة في القرن السّابع عشر لتدلّ على المكاتب الحكوميّة، وقد استعمل المصطلح من قبل الكاتب الفرنسي «ديغورنيه» سنة 1745م الذي جمع بين مقطعين هما: «بيرو» الذي يعني المكتب، و«كراتيا» التي تعني الحكم. وبعد ذلك، أُطلقت البيروقراطيّة على كلّ مرافق الدّولة من مؤسّسات ومستشفيات ومدارس وجامعات. كما تدلّ كلمة البيروقراطيّة على القوّة والسّلطة والنّفوذ والسّيادة، وهي منظومة لتنظيم العمل وتسييره بما أنّها نتاج للرّأسماليّة والعقلانيّة والحداثة الغربيّة.                                 
ب-البيروقراطية والفساد الاجتماعي:                                                                        
على خلاف «ماكس فيبر» الذي يعتبر البيروقراطيّة أساس العقلانيّة والتّقدّم والازدهار الرّأسمالي الحديث لأنّها تقوم على الشّرعيّة، والعقلانيّة، والحداثة، والكفاءة المهنيّة والحرفيّة والعلميّة، ينظر كثير من الأخصائيّين- اليوم- إلى البيروقراطيّة نظرة سلبيّة، لأنّها تُحيل على البطء والرّوتين والفساد الإداري، وتعقيد الإجراءات. يرى الباحث  «جيري جاكوب»(1) أنّ النّموذج المثالي الفيبري للبيروقراطيّة، مجرّد نموذج خيالي ورمزي، لأنّ البيروقراطيّة في الواقع الإداري تصبح خاضعة إلى الأهواء والولاءات والمصالح الشّخصيّة. 
وهكذا يبدو من الواضح، اليوم، من رؤية سوسيولوجيّة، تغيّر المضمون البيروقراطي حيث طغى الفساد على النّظم الإداريّة إلى حدّ اعتباره بمثابة الخلل الذي يصيب البناء الاجتماعي داخل المؤسّسة الإداريّة وخارجها في غياب وسائل الضّبط الاجتماعي الذي يؤدّي إلى درجات متفاوتة من الانحرافات قد تصل إلى حدّ أزمة النّظام الاجتماعي. وفي الواقع، حين يتغلغل الفساد في جسم الإدارة  يسري في كلّ خلاياها كسريان النّار في الهشيم، فيشلّ أداءها ويهدّد مواردها.                                                         
ج-مفهوم الفساد الإداري:                                                                                       
الفساد لغة: الفساد في معاجم اللّغة من فعل « فسد» مضاد «صلح» أي تغيّر الشّيء من الحالة السّليمة إلى نقيضها.                                                                                                           
الفساد اصطلاحا: هو إساءة استعمال السّلطة العامّة أو الوظيفة العامّة لتحقيق مكاسب خاصّة ومنافع تتعلّق بفرد أو بجماعة معيّنة بطرق غير مشروعة.                                                            
د-أسباب الفساد الإداري:                                                                                        
تغدو ظاهرة الفساد ظاهرة مركّبة تختلط فيها الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة وتعبّر عن عدم اتساق الأنظمة ومتطلبات الحياة وتتعدّد أسباب نشوئها. ويمكن بشكل مختصر تقسيم أسباب الفساد الإداري إلى:                                                                                      
- أسباب تربويّة وسلوكيّة: تعود بالدّرجة الأولى للتّنشئة الاجتماعيّة داخل الأسرة التي أغفلت الاهتمام بغرس القيم والأخلاق الحميدة في نفوس النّشء، إذ في ظلّ التّحوّلات الاقتصاديّة أصبح دور الأسرة في غالبيته يهتمّ بتوفير الضّروريّات والكماليّات المادّية للأطفال، والتّخلّي عن أساليب التّربية السّليمة، فغابت القدوة الحسنة، وغاب الحوار نتيجة التّطور الهائل للتكنولوجيا ووسائل الاتصال. 
لكلّ هذا أقر «أوجيست كونت» بالأهمّية الكبيرة للأسرة كجماعة وسيطة بين الفرد والمجتمع وبأهمّية دور المرأة على وجه الخصوص في التّنشئة الأخلاقيّة. فهذا«الاتحاد ذو الطّبيعة  الأخلاقيّة» على حدّ تعبيره يقوم على وجود ميل متبادل بين الزّوجين وعطف متبادل بينهما من جهة وبين الأبناء من جهة أخرى، سيعمل على تربية الأطفال بتعزيز النّزعة الدّينيّة وغرس قيم الحقوق والواجبات المترتّبة لكلّ عضو في الأسرة قبل خوض التّجربة داخل المجتمع، ففي إطار الأسرة تتحدّد السّمات الأخلاقيّة للفرد ويتعلّم الفرد مدى أهميّة النّظام والطّاعة، ويتقبّل مبدأ التّضامن الاجتماعي ّونبذ الأنانيّة. ومن خلال الأسرة أيضا يكتسب الفرد كيفيّة الخضوع لسلطة الدّولة وسلطة القوانين، لذلك لا يصلح المجتمع إلاّ بصلاح الأساس المتمثّل في الأسرة.
زد إلى هذا ضعف الدّور التّربوي للمؤسّسات التّعليميّة، فمن المفروض أنّ المدرسة مؤسّسة اجتماعيّة تهدف إلى تنشئة شخصيّة الطّفل تنشئة متكاملة عن طريق التّربية والتّعلّم ليصبح عضوا فاعلا في المجتمع، إذ تتبلور فيها الأسس الأوّليّة للحقوق والواجبات والقيم الأخلاقيّة الحميدة. فنظام التّعليم من شأنه أن يحارب الغرائز الفطريّة ويهذّب المشاعر الإنسانيّة، لكن إذا أصابه العطب سيؤدّي هذا الوضع إلى ظهور سلوكيّات غير حميدة فيما بعد تتمثّل في  تفشّي ظواهر معتلّة كالغّش، والسّرقة، والتحيّل على القوانين وقبول الرّشوة وإلى غير ذلك من السّلوكيّات المنحرفة.                                                            
- أسباب اقتصادية-اجتماعية: يبدو من الواضح اليوم في خضم الواقع المعيش المتأزّم أنّ القيم الماديّة هي التي سادت في العلاقات بين الأفراد، ويعود ذلك إلى التّوزيع غير العادل للثّروات داخل المجتمع (فئات تنعم بالرّخاء المادّي وفئات مهمّشة تعاني الفقر المدقِع)، بالاضافة إلى تردّي الأوضاع المعيشيّة لطبقة البيروقراطيّين، فيؤدّي هذا الوضع إلى تكريس قيم تغلب عليها النّزعة الفرديّة وتتراجع قيم الولاء للجماعة والوطن، ونلمس هذا في سلوك الموظّف الذي يرنو إلى تغليب مصلحته الخاصّة، فتبرز فيه السّلوكيّات المنحرفة ويقترف جرما في حقّ نفسه وحقّ المجموعة حين يقبل بالقيام بأعمال غير شرعيّة يجني من ورائها أرباحا مادّية، ويفسر سلوكه هذا بأنّه عادي في ظروف أجور متدنّية وارتفاع مستوى المعيشة.                                                                                         
 كما أثبتت الدّراسات الاجتماعيّة الحديثة التي أجريت فيما يسمّى ببلدان ثورات الرّبيع العربي، أنّ الفساد اتّخذ فيها أشكالَ المحسوبيّة والمحاباة والولاءات، مما أعاق تطوّر خدمات الإدارة الكفء وساهم في ترسيخ ثقافة الفساد والانحلال الأخلاقي داخل الجهاز الإداري، حيث أصبح الفساد مقياسا لتولّي المناصب، وتحقيق الاندماج داخل المجموعة، فمن يخرج عن دائرة الفساد يصبح منبوذا. 
ويمكن القول بأنّ السّلوك غير الأخلاقي هو نتاج النّظام الاجتماعي، لأنّ الإدارة ما هي إلاّ صورة نمطيّة للمجتمع، وهو ما أكّد عليه «ميشيل كروزي» عند دراسته الميدانيّة لظاهرة البيروقراطيّة في المجتمع الفرنسي إذ أكّد على أنّ النّظام البيروقراطي الفرنسي ليس سوى تعبير وترجمة للخصائص الثّقافيّة والاجتماعيّة التي تميّز المجتمع الفرنسي وهي قيم تقوم على الفردانيّة، لذا، فإنّ التّركيز على إصلاح الإدارة دون المجتمع هو بمثابة التّركيز على أعراض المرض دون معالجة أسبابه.                            
- أسباب بنيويّة - قانونيّة:                                                                                        
تكمن في مستويات مختلفة يمكن تلخيصها أوّلا في سوء بنية الإدارة المتمثّل في ضعف الرّقابة وضعف تطبيق القوانين والأنظمة التي تنّظم العمل وسلوك العامل، مع غياب الهيكل التّنظيمي الذي يرشد          ويوجّه سلوك الموظّف، ممّا يفسّر ظهور سلوكيّات غير أخلاقيّة تزعزع الاستقرار الإداري، إلى جانب إهمال اعتماد التّقارير السّنويّة وتقييم الأداء الوظيفي وتحديد مقاييس الارتقاء في السّلم الوظيفي.        
وثانيا يمكن إرجاع الانحراف الإداري إلى سوء صياغة القوانين واللّوائح المنظّمة للعمل، وذلك نتيجة لغموض المواد القانونيّة، الأمر الذي يخوّل للموظّف أن يتلاعب ويقوم بتأويل القوانين وفق تحقيق مصلحته الخاصّة. فتطبيق القوانين يحتاج إلى أخذ القرارات الصّارمة مع توفّر قيادات إداريّة مخلصة للوطن ملتزمة دينيّا وأخلاقيّا في أداء الواجب والعمل.                                                              
-أسباب قيميّة –أخلاقيّة:                                                                                         
أقرّ المختصّون في أخلاقيّات الإدارة (2) بنجاح العمل وتطوّره حين يرتبط بالأخلاق التي تتمثّل في جملة مبادئ تحكم سلوك الفرد أو الجماعة، وتحدّد معايير الصّواب والخطأ، وهي أيضا ميثاق يرسم القواعد النّمطيّة المثاليّة لمهنة معيّنة تتبنّاه جماعة مهنيّة ما للمحافظة على شرف المهنة. ولكل مهنة أخلاقيّات وآداب عامّة تحدّدها القوانين واللّوائح الخاصّة بها.                                               
 تختلف المسؤوليّة الأخلاقيّة عن المسؤوليّة القانونيّة باختلاف أبعادهما، فالمسؤوليّة القانونيّة تتحدّد بتشريعات، أمّا المسؤوليّة الأخلاقيّة فهي أشمل من دائرة القانون لأنّها تتعلّق بعلاقة الفرد بخالقه، وعلاقة الفرد بنفسه وبغيره، فهي مسؤوليّة ذاتيّة أمام اللّه وأمام ضميره الذي يمثل السّلطة الأولى، وعليه يكون التّصرّف الأخلاقي هو ذاك التّصرف الذي يتطابق والمعايير الاجتماعيّة المتّفق عليها، وأمّا السّلوك غير الأخلاقي هو التّصرف الذي يحكم عليه بكونه خاطئ(3)بسبب عدم تطابقه مع قيم المجموعة.  
إن التّحولات السّريعة التي يشهدها العالم اليوم بصفة عامّة وتشهدها المجتمعات النّامية بصفة خاصّة تضع الإداريّين- البيروقراطيّين- في مأزق أخلاقي، تجعل من الموظّف يعتمد مكانته المهنيّة لتحقيق منفعة خاصّة و إلحاق الضّرر بالمجموعة. 
لقد بين « كنتر»(4)في دراسته الاجتماعية لأخلاقيّات العمل بأنّ المقاييس الخاصّة بأيّ تصرّف أخلاقي- اجتماعي، يقع تجسيدها داخل كلّ موظّف وداخل منظّمة العمل نفسها. وهناك قوى تتدخّل وتسهم في صنع القرارات الأخلاقيّة وترتبط هذه القوى بالنّسيج الثّقافي وبأخلاق الفرد. كما تلعب القيم والعادات دورا بارزا في توجيه السّلوك فهي القاعدة التي تحدّد السّوي وغير السويّ في نظام قيمي معين(5). وتتشكّل القيم الفرديّة انطلاقا من النّموذج القيمي داخل المجتمع. 
وقد تختلف القيم وتتعارض في داخل الفرد وفقا لتوافق شخصيته مع القيم الجماعيّة أو عدمه، وقد أشار «دافت»(6) إلى أنّ سياسات الإدارة وتركيبتها من شأنها أن توجّه سلوك الموظف باتجاه معيّن دون غيره لا سيّما في عالم اليوم عالم التّحولات الاقتصاديّة السّريعة.                                                                                                        
إنّ المتمعّن اليوم في مجتمعاتنا على وجه الخصوص يقف مبهوتا أمام حالات الانحلال الأخلاقي، فقد طغت القيم السّلبيّة في ميدان العمل. ومن مظاهرها تغلغل ظاهرة الفساد في كافة المؤسّسات والأجهزة الحكوميّة، حيث أصبح الفساد نظاما عامّا في المجتمع(7)، الأمر الذي أدّى إلى شيوع حالة ذهنيّة لدى الأفراد تبرّر الفساد وتجد له من الذّرائع ما يبرّر استمراره، الأمر الذي يساعد على اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليوميّة من خلال الممارسات التّدريجيّة للرّشوة والعمولة والسّمسرة، التي أصبحت جزءًا من ممارسات الحياة اليوميّة، حيث يغيّر الفساد من سلوك الفرد الذي يمارسه ويدفعه إلى التّعامل مع الآخرين بدافع المادّيّة والمصلحة الذّاتيّة، ومن ثمّة الإخلال بكلّ قواعد العمل وقيمه، دون مراعاة لقيم المجتمع التي تتطلّب منه النّظر إلى المصلحة العامّة. 
هذا النوع من الفساد يؤدّي إلى انهيار القيم الأخلاقيّة القائمة على الصّدق والأمانة والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها، ويسهم في انتشار عدم المسؤوليّة والنّوايا السّلبيّة لدى الأفراد داخل المجتمع. فتتراجع قيم النّزاهة والشّفافيّة، وهذا الوضع ما هو إلاّ تعبير واضح عن انهيار النّظام القيمي للأفراد الذي يتمثّل في التّخلّي عن القيم والتّقاليد الاجتماعيّة الايجابيّة الموروثة واستبدالها بقيم هشّة في غياب سيطرة الضّمير الجمعي(8) على الضّمير الفردي، والذي يعرّفه «اميل دوركايم» بـ:«إنّه شيء موجود خارج عقول الأفراد، وهو ليس مجموع عقولهم، ولا يشترط لأن يكون موافقا لعقل أحد منهم ولا لمزاجه الخاصّ، وهو يؤثّر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم وهم لا يملكون إلاّ أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم»، فتغيب مجموعة المبادئ والضّوابط الأخلاقيّة المهنيّة التّي تحدّد سلوك الموظّف في العمليّة الإنتاجيّة والتّي ترسم له طريقا سليما نحو أداء واجبه الوظيفي، وتكون له بمثابة السّدّ المنيع الذي يحميه من الوقوع في الخطأ.  
ولا يعدو أن يكون تزايد العنف المادّي والمعنوي إلاّ وسيلة لترسيخ ثقافة العنف والتّطرّف وشيوع أنماط من السّلوكيّات اللاّمعياريّة مثل الكذب والنّفاق والرّشوة والغشّ. 
كلّ تلك القيم السّلبيّة تؤدّي إلى تفتيت المجتمع، وإهدار جهود الكفاءات وتبديد أرصدة القوّة الفكريّة والعلميّة وبثّ روح اليأس في النّفوس، ممّا يؤدّي إلى تفشّي ظواهر اجتماعيّة أخرى من شأنها أن تهدّد استقرار المجتمع كظاهرة الانتحار التي يعرفها «اميل دوركايم» بـ «بأنّها تشير إلى مختلف حالات الموت التي تكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفعل سلبي أو إيجابي يقوم به المنتحر نفسه وهو يعلم أنّه سيؤدّي إلى هذه النتيجة». خاصة الانتحار «اللاّمعياري» الأنومي(9) وهو انتحار الأفراد الذين يخالفون القواعد التي رسمها المجتمع، فيفقدون المعايير التي تحدّد نمط سلوكهم وطريقة انتمائهم للجماعة وتغيب عناصر الضّبط الاجتماعي، فتزداد عندهم الرّغبة في الانتحار، فإقدام الفرد على الانتحار يرجع إلى التّضارب الحاصل بين آماله وأهدافه وبين الظّروف المحيطة به بما فيها من عادات ومعايير وأخلاق  مختلفة.                                             الهوامش
(1)   Jerry Jacobs,Social Problems through social theory, Houston, cap and grown press,1983.
(2)  Rue et Byars, 1989,47
 (3) Champox, 2000,p. 38
  (4) Cantar, 1995, p.102
  (5) Badr, 1981, p.  65
  (6) Daft, 2001, p. 321
  (7)  Emile Durkheim, les règles de la méthode sociologique, Paris, Flammarion,1988
    (8) Ibid
    (9)  Emile Durkheim, le suicide,  Paris, PUF,1897