ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة 7 : استكبار العقل
 إنّ العقل وهو محلّ العلم في الإنسان، يستنير بنور اللّه، لأنّه لا علم له في ذاته، وإنّما علمه من قِبَل اللّه تعالى :﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾(1). فهذا العلم الإلهي الصّحيح كفيل بحفظ آدم وبحمايته، وضامن له مكانته في الجنّة وحياة رغدة لا نصب فيها ولا تعب، فمن أين جاءه الشّيطان؟ 
لقد جاءه من باب العلم فشكّكه فيه، وأغراه بقبول «علم» آخر سيتّضح بعد قليل أنّه الجهل عينه: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(2).
في هذه الآيات البيّنات من سورة الأعراف برز خطاب إبليس كخطاب موجّه لآدم وزوجه، وفي سورة طه يتحدّد الخطاب الإبليسي ليتوجّه إلى آدم بالذّات:﴿لَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ﴾(3). 
واضح أنّ اللّه قد أعذر إلى آدم، وبيّن له طبيعة ما أنعم عليه به، ونبّهه إلى عدوه صراحة، ونبّهه إلى ما سيحصل له جراء اتباع هذا العدوّ. وهذا الكلام الإلهي لآدم كما ترى، هو عين خطاب اللّه تعالى للنّاس في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم إشارة إلى نعم اللّه، وتنبيه إلى مخاطر الشّيطان وضلالاته وما يؤول إليه الإنسان من الشّقاء إذا ما اتبعه. فهل معنى ذلك أنّ الإنسان (آدم) ما خرج من الجنّة، وأنّ بني آدم اليوم في الجنّة وهم لا يعلمون؟ قد يكون هذا الفهم صحيحا إذا فهمنا الهبوط بمعنى الغفلة عن حقيقة نعم اللّه، وعن نور اللّه المنزّل ونسيان نعم اللّه وآلائه. 
إن الحياة حتّى هذه الحياة الأرضيّة التي يسبّها أغلب البشر، هي أجمل حياة وأروعها، وآلاء اللّه فيها بارزة ظاهرة، ونعمه واضحة جليّة، أمّا متعها وخيراتها فلا تحصى ولا تعد. فنغّص البشر بعضهم على بعض هذه الحياة، وأفسدوها بما اتبعوا الشّيطان وحكموه فيهم، وأدخلوه بينهم. فحقّ حينئذ أن ترفع هذه الحياة الدّنيا، وأن يحاسب النّاس، وأن يفصل اللّه بين المؤمنين والكافرين، لأنّه لا صلاح لحياة المؤمنين في ظلّ الكافرين، ولا فائدة من بقاء الكافرين ما داموا إخوان الشّياطين.
إذن فقد داخَلَ الشيطان آدم من باب العلم، فعلّمه كلاما آخر سمعه آدم فلم يرفضه، بل وجده كلاما جميلا براقا: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ﴾؛ جملة مختصرة هي سرّ فساد العلم وانقلابه جهلا، ولو نقّب حكماء الأرض في كلّ مكان وفي كلّ كتاب فلن يعثروا على أروع من هذه الجملة في بيان مرض العقل. وبقبول آدم للتّعليم الشّيطاني الفاسد، اندثرت حقيقته وغاب عقله وظهر ما أضافه إبليس (السّوأة = وهي محل الشّهوة). 
فالعقل كان متمكّنا بالعلم الإلهي، فعقل السّوأة عن الظّهور، وحجبها عن الانكشاف وذلك معنى العقل. فالعاقل هو من غطّى سوأته وسترها رغم وجودها، والدّليل قطعه لشهوته. فالشّهوة تظهر من السّوأة، وهي دليل على أنّ السّوأة بابها مفتوح. فإذا كان الإنسان يتشهّى ولا يمتنع عن شهوة، فذلك برهان قاطع على أنّ سوأته بادية وعقله غائب رغم كلّ الإدعاءات. فدليل ثبوت العقل حجب السّوأة، ودليل حجب السّوأة وسترها حجب الشّهوة. فإذا انحجبت الشّهوة بقوّة العقل، آب الإنسان إلى ربّه، لأنّه حينئذ يرى ربّه، ويرى الحقيقة لا تحتاج إلى عناء. أمّا إذا ظهرت الشّهوة، فإنّه ينفتح عليه باب العالم ولا يقدر على تخليص نفسه ولو بذل ما بذل.
قوة الإنسان تنبع من تحكّمه في الشّهوات وهي الاهواء، يقول اللّه تعالى: ﴿فإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ * فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾(4).
في هذه الآيات البينات من سورة النازعات يربط اللّه تعالى بين الخوف من مقامه أي تقوى اللّه، وبين نهي النّفس عن الهوى كدليل على هذه التّقوى ومصدر قوّة وزيادة فيها. فمن أراد أن يكرمه اللّه، فليزد في تقوى اللّه، ومن أراد أن يزداد في تقوى اللّه فليزدد في نهي النّفس عن الهوى. فكلّما ازداد في نهي النّفس عن الهوى ازداد عقلا، وكلّما ازداد عقلا ازداد علما. فهذا هو الدّين كما وضحه رسل اللّه وأنبياؤه، وهو الصّراط المستقيم الذي هدى اللّه تعالى إليه الخلق، وهو ثابت في القرآن، موجود في كتب الأوائل من أمم الأرض، معلوم للحكماء الإلهيّين، شائع بين عباد اللّه المستنيرين، دين اللّه تعالى المتاح تطبيقه لكلّ البشر، وهديه الذي يسّره للأميين الذين ما كانوا يتلون من قبله من كتاب.
يتّجه العقل الإنساني بفطرته إلى استصناع القوّة، غريزة فيه ركّبها اللّه تعالى. وقوّته بقدر علمه، وبحسب نوعيّة هذا العلم. فإن عَلِم عِلْمَ الحق كان أقوى العقول، واستطاع بعلمه أن يواري سوأته، وأن يمتنع عن الشّهوات، فحينئذ يتحكّم  في نفسه ويمنعها عن الطّامعين. وإن علم علم الشّيطان (الجهل) اتجه في الطّريق المعاكس فكشف سوأته، وفتح عين نفسه على الشّهوات، فلم تمتنع على طالب وضعفت أمام كلّ مرغوب، واستكانت لكلّ الخلق طوعا وكرها، فأصبحت بذلك أسوأ النّفوس وأذل الخّلق بعد أن حسب صاحبها أنّه يحسن صنعا. جاء في سورة الكهف ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾(5).
كيف لا يحسب الكافر المحجوب أنه يحسن صنعا وهو مهووس بكلام إبليس ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ﴾؛ ولذلك فلابد أن تظهر على أولئك الذين صدق عليهم إبليس ظنّه معاني التّربية الإبليسيّة: السّعي إلى الخلود الأرضي، والمادّية في النّزاعات والملكيّات. 
إنّ أتباع الشّيطان يبنون فيقلّدون الفراعنة وما خلد الفراعنة، وتلك جثثهم المحنّطة تكتشف كلّ يوم لتدلّ على عبث هذا الخلود الأرضي: خلود الأموات. لم يبق منهم إلاّ أجساد أو بالأحرى أشباح أجساد ميّتة تقاوم الانقراض، وتوضع في المتاحف لكي يتأمّلها النّاظرون. 
لا شكّ عندي أنّ هؤلاء الفراعنة العتاة الجبارون لو علموا بما يؤول إليه عملهم المتمثّل في سعيهم إلى الخلود بكلّ وسيلة ومن غير بابه، ما فعلوا ذلك. ولا أتصوّر واللّه أعلم، أنّ أولئك الفراعنة راضون عمّا آل إليه حالهم من كونهم أصبحوا فرجة لكلّ متفرج وعبرة لكلّ معتبر. فما نفعتهم صيانتهم لأجسادهم إلاّ حفظها كملكيّة لغيرهم. فازدادوا عبوديّة وذلاّ وكانوا يتصوّرون أنّهم يتميّزون على الخلق باتخاذ الأهرامات وتكلف التّحنيط واتخاذ الطّقوس عند الممات. 
لا ريب أنّ مصريّا فلاحا بسيطا لم يسمع بالفراعنة ولم يسمعوا به، عاش حياته عاملا ناصبا مؤمنا بربّه، ثمّ مات فاختلط جسده بتراب الأرض في تواضع لربّه الذي خلقه من أديم الأرض، لهو أكثر سعادة وأكثر راحة من أولئك الفراعنة الذين أصبحوا ينقب عنهم مثلما ينقب عن الذّهب والفضّة فساووا الحجارة والمعادن. أمّا شجرة الخلد التي دلّ إبليس عليها آدم فهي سوأته. ذلك ما بدا منه لما اتبع إبليس. وأمّا المُلك الذي لا يبلى، فهو هذه الأرض. لم ينشأ عن اتباع آدم لإبليس إلاّ هذا حيث ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ وكانت النّتيجة ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾(6).
الهوامش
(1) سورة البقرة- الآية35
(2) سورة الأعراف- من الآية 20 إلى الآية 23
(3) سورة طه  - من الآية 115 إلى الآية 122
(4)  سورة النازعات - من الآية 34 إلى الآية 41
(5) سورة الكهف - من الآية 103 إلى الآية 105
(6) سورة الأعراف - الآية 24