فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
تجديد الرّؤية لآداب التعلم وأخلاق التّعليم: العلاقة التربوية الأصيلة في إطار البنائية الاستخلافية (3
 ثالثا- أية علاقة تربوية من منظور بنائي استخلافي؟
قبل الشّروع في تحديد ملامح العلاقة المشار إليها أعلاه، علينا أن نوضّح مسألة إبستمولوجيّة بخصوص مصطلح «البنائيّة الاستخلافيّة». نذكّر أوّلا أنّ الاستخلاف وظيفة عمرانيّة وحضاريّة تخصّ كافة الجنس البشري أفرادا وجماعات وأمما، وليس لكونه جاء ذكره في القرآن الكريم خاصّا بالمسلمين لوحدهم. ولكنّ حظّ البشر من تحمّل هذه المسؤولية وأداء هذه الوظيفة يتفاوت من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى ومن زمان إلى آخر. في إطار هذا الوضع الكوني العام لوظيفة الاستخلاف، وفي سياق مخصوص لكيفيّة أداء هذه الوظيفة، ظهرت النّظريّة البنائيّة لتسند للفرد المتعلّم منزلة متقاطعة في المستوى المعرفي مع منزلة الإنسان الخليفة. إنسان يعيد بناء العالم ذاتيّا عن وعي ودراية. غير أنّ الوظيفة الاستخلافيّة ليست وظيفة معرفيّة فحسب، بل وظيفة عمرانيّة حضاريّة شاملة. بمعنى أنّها تتضمّن إلى جانب الفعل بالفكر في العالم لإعادة تشكيله، مختلف مستويات الوعي المطلوبة لفعل صالح في الكون والعمران: العمق الرّوحي والاتجاه القيمي القويم والذّوق الجمالي الرّفيع والمشاعر الإنسانيّة النّبيلة.
ولذا فإنّ هذا التّوجّه البنائي الاستخلافي العام الذي ننشده للعلاقة التّربويّة تسهم في تشكيله روافد فكريّة تربويّة متعدّدة شرقا وغربا. ولهذا السّبب، سنعمل على الاستفادة من جهود متنوّعة في هذا الباب لدى علماء تربويّين غربيّين وعلماء مسلمين على حدّ سواء، ناشدين التّكامل فيما بينها، مع محاولة طرح رؤية أشمل في نهاية المطاف.
لنبدأ بتقديم خلاصات بعض الأبحاث الحديثة الهادفة إلى بلورة تصوّر لبناء علاقة تربويّة سويّة. 
من الباحثين المعاصرين الذين اهتموا بهذه المسألة آسبي وربوك Aspey et Roeubukا(1976)(1)، ولهذين الباحثيْن خلفية بنائيّة دون شكّ، ولكنّهما لم يتوقّفا عند المكوّن المعرفي فحسب في بناء المعارف، بل ربطاه ربطا وثيقا بالمعطى الوجداني والنّفس اجتماعي. وقد توصّل هذان الباحثان إلى استخلاص ثلاثة اتجاهات لها قيمتها في خفض التوتّر داخل الأقسام وتحسين النّتائج: 
-1 قدرة المعلم على فهم دلالة التّجربة المعيشة من قبل التّلميذ في قاعة الدّرس، وأكثر من ذلك، قدرته على التّعبير عن هذا الفهم. أي الاهتمام بالمعنى وعدم الاقتصار على الشّكل الخارجي للعلاقة مع التّلميذ.
-2 إظهار الاحترام للتّلميذ في شخصه ذاته. 
-3 صدق علاقة المعلم بتلاميذه.
والخلاصة التّأليفية لنتائج Aspeyا (1976)  وزميلته جدّ بناءة، حيث إن هنالك ارتباط لا غبار عليه بين ظروف التّيسير التي يوفّرها المعلّم ونتائج التّلاميذ المدرسيّة. والمقصود بالتّيسير هنا هو السّلوك التّربوي المتفهّم للمعلم. في مناخ علائقي طيّب كهذا تظهر لدى التّلاميذ عدّة سلوكات وخاصيّات إيجابيّة، فهم:
- يصبحون أكثر مهارة في تنشيط سيروراتهم العرفانيّة(2)العليا، كسيرورات حلّ المشكلات المعقّدة.
- يكتسبون عن أنفسهم صورا أو تمثّلات ذاتيّة أكثر إيجابيّة ممّا هي حاصلة لدى مجموعات فصول أخرى لا تحظى بمعاملة مماثلة. 
- يبدون في القسم سلوكات أكثر حيويّة ونشاطا (مؤشّرات عن دافعيّة قويّة نحو التّعلّم).
- تقلّ مشاكل مخالفة آداب اللّياقة وحسن السّيرة. 
- تنخفض نسبة الغيابات لديهم. 
كلّ هذا ينتهي بالمعلم إلى إعادة بناء صورة لا نمطيّة عن نفسه. صورة حقيقيّة إيجابيّة حتّى وإن كانت مخالفة للصّورة المحبّذة اجتماعيّا (مثل «معلّم مفرط الجدّية») وترتفع لديه درجة الرّضا الصّادق عن الذّات، وتصبح علاقته بمنظوريه أكثر حميميّة(3). 
هذه المعاني التّربوية الإيجابيّة لا يخلو منها فكرنا التّربوي الأصيل حتّى وإن كانت غير مستندة إلى نظريّات حديثة في علم النّفس التّحليلي وعلم نفس التّواصل وعلم النّفس الاجتماعي، وإنّما إلى منظومة قيميّة مستلهمة من الأدب القرآني والنّبوي ومن نوع من الحدوس التّربويّة النّاتجة عن الخبرة وقوّة الملاحظة والاستقراء. 
فهذا الإمام أبو حامد الغزالي يشترط على المعلم في كتابه «منهاج المتعلّم»، مراعاة الحالة النّفسيّة والعقليّة للمتعلّم، حيث «أوّلا: يجب على المعلّم إذا جيء بمبتدئ أن يراعيه ويكرمه، ويعزه إلى يوم كان مأنوسا، لأنّ المبتدئ كالطّير الوحشي لا يأنس إلاّ بالتّلطّف، فإنّ المعلّم أشقُّ عليه وأمرُّ، فيجب إصلاحه على ما يقتضيه طبعُه، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: العلم مُرٌّ فاجعلوه حلوا بالتلطّف والتعطّف.» ولا يشُقَّ عليه حتّى يسمع كلامه ويعمل بأمره»(4). 
«ثانيا: ثم يبتدأ بالتّأديب، ثمّ بالتّعليم، فإنّ التّعليم لا يكون إلاّ بعد التّأديب، لأنّ من ليس له أدب ليس له علم»(5). وهذا يذكرنا بما وصّى به الفيلسوف عمانويل كانط في كتابه «تأمّلات في التّربية» بضرورة التّركيز على قيمة الانضباط في التّربية أكثر ممّا يجب الاعتناء بتمرير المعارف، لأنّ من يفوته خلق الانضباط في الصّغر (التّأديب بلغة الغزالي) فإنّه سيبقى بقيّة حياته منفلتا، أمّا من تفوته معرفة، فله أن يتداركها في كلّ وقت وحين. حيث «إنّ للإنسان بطبعه نزوعا شديدا للحرّية بحيث يضحّي من أجلها بكلّ شيء إن بدأ يتعوّد عليها بعض الوقت. لذا، كما قيل، يجب اللّجوء في وقت مبكّر جدّا إلى الانضباط، لأنّه إذا لم يكن الأمر كذلك يصعب جدّا فيما بعد تغيّر الإنسان، فيتّبع كلّ نزواته.»(6).
ويضيف الغزالي واجبا ثالثا على المعلم يندرج في باب مراعاته لقدرة المتعلّم على الفهم «فيعلّمه على مقدار سعته[طاقته]، ولا يكلّف الزّيادة في مقداره[...] ولا يغضب، بل يكرّر في محلّ لا يفهمه حتّى يفهم»(7).
وهذا الشّيخ محمد الخضر حسين من أئمة النّهضة والإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث، يدعو إلى منهج في التّعامل مع المتعلّمين يقرب جدّا ممّا توصي به التّربية الحديثة، فهو يوصي بالتّواضع معهم حتّى ينشؤوا على الثّقة في النّفس التي تورّثهم الجدّ في طلب العلم أي تقويّة دافعيتهم إليه. وهو يقول في هذا الصّدد: «أمّا الأستاذ فلا يتعاظم على طالب العلم، فمن مظاهره الإصغاء إليه عند المناقشة، وإجابته عمّا سأل في رفق، وتلقّي ما يبديه من الفهم بارتياح وإنصاف، فإن أخطأ نبهه لوجه الخطإ، وإن قال صوابا تقبّله منه بارتياح. وارتياح الأستاذ لآثار نجابة الطلاّب ممّا يزيدهم جِدّا في الطّلب، ويشعرهم بالاستعداد ليكونوا من النّوابغ، وإنّما ينبغ النّاشئ متّى في العلم متّى سطع في نفسه مثل هذا الشّعور»(8). 
هذا التّشابه الظّاهر الملاحظ في منوال العلاقة التّربويّة النّموذجيّة بين المدرّس وتلامذته بين كلّ من التّربية الحديثة والتّربية الأصيلة المستلهمة لمنظومة القيم القرآنيّة، لا يحجب عنا في الحقيقة أمران. كل واحد منهما وجهُ نقصٍ في كلٍّ من نَمَطَيْ التّربية المذكورين: النّمط الحديث والنّمط الأصيل. 
فالفكر التّربوي الأصيل كما نجده لدى ابن سحنون والقابسي والغزالي وصولا إلى محمد الخضر حسين، يستبطن، رغم قوله بضرورة التلطّف مع المتعلّم والتّرفّق به والتّواضع له، مسَلَّمتين ضمنيتين: واحدة تعليميّة وأخرى نفس-اجتماعيّة. فأمّا المسلَّمة الأولى، المسلمة التّعليميّة، فمفادها أنّ المعلّم هو مصدر المعرفة وأنّ وظيفته تتمثّل في تمرير تلك المعرفة للمتعلّم وأنّ عليه أن «يروّض» المتعلّم كما يروّض «الطّير الوحشي» بحسب عبارة الغزالي حتّى يفتح له وعاء صدره ليملأه علما وفهما ولو بالتّكرار مرّة من بعد أخرى. وقد بات من المعروف اليوم أنّ التّربية الحديثة المستندة للنّظريّة البنائيّة في التّعلّم كما وضع أسسها الرّائد جان بياجه، لا تعتبر المتعلّم مجرّد متلقّ سلبي للمعرفة ووعاء فارغ ينتظر ملأه من قبل الكهل، بل تعتبره ذاتا ابستيميّة وفاعلا اجتماعيّا- معرفيّا نشطا، لا يستوعب من التّعلّمات إلاّ بقدر ما يقدر على بنائه لنفسه بنفسه عبر سيرورات معرفيّة تنقله من حالة توازن معرفي أدنى إلى حالة توازن معرفي أرقى ومُضيف(9). 
ولذا فإنّ الوظيفة الوجدانيّة للتلطّف معه والتّرفّق به، ليست وظيفة المفتاح الذي يفتح صدره المتأبي على الحفظ وعقله المنغلق على الفهم، كما تفتح الخزانة أو الخزينة المغلقة، وإنّما هي وظيفة تحفيزيّة للسّيرورات المعرفيّة الذّاتية للمتعلّم حتّى تنشط وتنطلق في تلبية حاجة المتعلّم الوظيفيّة لاكتساب تعلّمات ومهارات وكفايات جديدة. 
وأمّا المسلّمة الثّانية، فقد سبق التّعرّض لها لدى نقدنا للصّورة النّمطيّة المحبّذة اجتماعيّا التي يحملها المعلّم عن نفسه والتي هي صورة مثاليّة، رغم أنّها ليست دائما كذلك. وأنّ تلك الصّورة التي لا يعيد المعلم رسمها بمجهوده الشّخصي في سياق علاقة تربويّة تفهّميّة تيسيريّة مع منظوريه ليست حقّا الصّورة النّموذجيّة التي يحقّ للمعلم أن يحملها عن نفسه. 
أمّا تحفّظنا على منهج التّربية الحديثة مقارنة بمنهج التّربية الأصيلة فهو الآتي: إنّ ما نلمسه في الأدبيّات التّربويّة الحديثة هو عدم اكتراثها حقيقة بمسألة احترام الطّلبة لمعلميهم. فتفحّصنا لأشهر الأدبيّات الغربيّة حول علاقة المعلّم بالمتعلّم(10)يجعلنا مقتنعين بأنّها تهتم أساسا بالكيفيّات التي تكون بها العلاقة بين المعلّم والمتعلّم علاقة إيجابيّة من منظور المتعلّم، بما يرغّبه في الدّراسة ويضمن له النّجاح. وهذه غاية مشروعة عقلا وشرعا ولكنّها من طبيعة نفعيّة ضيقة، حيث تُهمل فيها الجوانب التّربويّة الأصيلة المتعلّقة بالقيم النّبيلة لذاتها، مثل قيمة احترام المتعلّم وتوقيره أو قيمة الرّحمة بالصّبي وعدم القسوة عليه، بما هو شعور إيماني وإنساني، لا مجرّد أسلوب بيداغوجي استلطافي للمتعلّم لإيناسه بالمعلّم وبالتعلّم. ففي التّربية الحديثة، يبدو المعلّم وكأنّه موظّف يعمل لدى المتعلّم وأسرته. بل إنّه بإمكان الأسر المنتظمة في جماعات مساندة أن تتدخّل، في بعض البلدان الغربيّة، لإنهاء عقد العمل مع المدرّس إذا لم يحقّق النتائج الدّراسيّة المرجوة لأبنائها، عبر ممثليهم في السّلطات المحليّة (البلديّات) التي هي شريكة كاملة الحقوق مع المدرسة، وتموّلها ماليّا وتحرص على جودة التّربية بها، كما هو الحال في فنلندا مثلا(11). 
فالعقد البيداغوجي في هذا المنظور التّربوي في خدمة العقد الدّيداكتيكي (التّعليمي- التّعلّمي) حصرا وليس له علاقة بالعقد الأخلاقي وبمنظومة القيم العليا. بينما يكون العلم والعالم والمعلّم والتعلّم قيما مبجّلة في حدّ ذاتها في المنظومة التّربويّة الاستخلافيّة الأصيلة. وكمثال صارخ على ذلك التّوجّه النفعي المغالي في العلاقة التّربويّة نذكر المثال الفرنسي. فبالرّغم ما اشتهرت به المدرسة الفرنسيّة من تبجيل كبير للطّفل ومن تفاني المعلّمين في جعل المتعلّمين في مركز العمليّة التّعليميّة- التعلّميّة، فإنّ إحصاءات برنامج اختبارات التّلاميذ الدّولي بيزا (12) لمنظمة التّعاون والتّنمية الاقتصاديّة (13) للسّنوات ما بعد 2012 تظهر المدرسة الفرنسيّة في آخر ترتيب المدارس عالميّا من حيث انضباط تلامذتها السّلوكي واحترامهم لمدرسيهم ولزملائهم (الترتيب 64 من 65 في اختبار 2012 المنشور في أواخر 2013). 
استنتاجات:
يتبيّن من جملة ما سبق من عرض لنماذج العلاقة التّربويّة في التّراث أدبا وممارسة وفي الفكر التّربوي الحديث والتّجارب التّربوية في العالم الغربي أنّ هذه العلاقة تتأثّر بفلسفة التّربية المعتمدة التي تتحوّل إلى نظريّات ضمنيّة للمعلّمين وإلى سلوكات تعليميّة وخيارات بيداغوجيّة مؤسّسيّة. فعندما كان مفهوم الإنسان غائبا في تراثنا القديم غاب معه مفهوم الطّفولة ومفهوم المتعلّم بالمعنى البنائي واختزلت العلاقة التّربويّة في علاقة تعليميّة عموديّة تلقينيّة وتسلطيّة. وما كان يخفف من غلوائها نظريّا وأحيانا عمليّا إلاّ ما اشتملت عليه أدبيّات العلماء والمصلحين المسلمين من ضرورة الرّفق بالمتعلّم والتلطّف معه عملا بمقتضى الحديث النّبوي الشّريف: «ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا»(14).
أمّا في التّربية الحديثة فقد احتلّ المتعلّم المركز في الوضعيّة التّعليميّة- التعلّميّة وتمتّع بمكانة متميّزة في العلاقة التّربويّة التي تربطه بالمعلّم، وذلك بمقتضى أمرين: أولا: ما أفادت به النظريّة البنائيّة عن الدّور النّشط الذّاتي والأساسي الذي يقوم به المتعلّم في اكتساب التّعلّمات الجديدة، وثانيا: ما كشفت عنه الدّراسات النّفس-اجتماعيّة حول تصوّرات التّلميذ للمعلّم وللمادّة الدّراسيّة، وأبحاث علم النّفس التّحليلي عن مشاعر التّلميذ المكبوتة إزاء المعلّم وإزاء المادّة الدّراسيّة، وهي تصوّرات ومشاعر غير متوافقة في الغالب الأعمّ مع الصّورة المثاليّة التي يحملها المعلّم عن نفسه في تماه مع ما هو محبّذ اجتماعيّا. وهذه المكاسب المسجّلة لصالح التّلميذ تحوّلت في عديد الحالات إلى رصيد إيجابي في هويّة المعلّم المهنيّة وتصوّره عن ذاته. بيْد أنّ الأمر لم يكن دائما كذلك بحكم المبالغة في تبجيل التّلاميذ على حساب مكانة معلّميهم وصحتهم النّفسيّة، إلى درجة أن تحوّل المعلّم إلى ما يشبه الموظّف لدى أسر المتعلّمين، بل إنّه فعلا كذلك في بعض الحالات التي تكون فيها جماعات الأولياء المساندة للمدرسة والسّلطات المحليّة المنتخبة كالبلديّة مصدر الدّعم الأدبي والتّمويل المالي الأساسي للمدرسة وضامنة جودتها (المثال الفنلندي).
وبالنّظر إلى وضعيّة العلاقة التّربويّة في التّربية الأصيلة وفي التّربية الحديثة، يتبيّن ضرورة إعادة بناء هذه العلاقة بالجمع بين ما هو إيجابي في كلاّ المرجعيتين: الأصيلة والحديثة، جمعا تأليفيّا منسجما لا متنافرا. ولا يكون هذا إلاّ ببناء فلسفة تربويّة حداثية أصيلة وتنزيلها في واقع الوضعيّات التّربويّة، بعد تكوين المدرّسين عليها وعلى صيغها الإجرائيّة. 
الإنسان الرئيس
يمكن الانطلاق من المكانة الوجوديّة والعمرانيّة والنّفسيّة التي أقرّ بها ابن خلدون للإنسان في إطار فلسفته العمرانيّة الاستخلافيّة وهي مكانه «الإنسان الرّئيس». وهو الإنسان الخليفة المكرّم إلهيّا والمحمّل أمانةَ الحرّية والمسؤوليّة والقدرة على إعمار الكون المسخّر له أفرادا وجماعات. في هذا المفهوم تجتمع ميزات شاملة ومتكاملة: ميزات تعود إلى الفاعليّة في التّأثير في العالم والقدرة على إعادة بنائه وتشكيله خدمة لحاجات العمران البشري، وأخرى تتعلّق بالشّروط القيميّة التّبادليّة والتّواصليّة مع بقيّة أفراد الجنس البشري وجماعاته. 
فمفهوم الرّئاسة الذي هو للإنسان الخليفة والمؤسَّس في فلسفة القرآن الشّهوديّة والحضاريّة مفهوم كوني وليس خاصّا بفرد دون آخر ولا رهط دون آخر، وهو حاضر بالقوّة تارة وبالفعل تارة أخرى في كلّ من لم تُنزع عنه صفات الإنسانيّة بتربية العسف ولم تمتد إليه يدُ القهر، بالعبارة الخلدونيّة، ولذا ما من أمر يفوق أهمّية هذه المرتبة الوجوديّة للإنسان حتّى يعتدى عليها ظلما وقهرا بالتّربية المتعسّفة أو بالحكم المستبد. 
ولعلّ أنسب شكل إجرائي لتنزيل معنى الاستخلاف تربويّا في حدود ما جاد به الفكر الإنساني في الوقت الحاضر، هو تطبيق المنهج البنائي الذي يمنح الفرد المتعلّم ما يستحقّه من الثّقة في قدرته على البناء الذّاتي للمعارف بتيسير مدروس من المعلّم، ولكن مع توسيع معنى هذه البنائيّة حتّى تستوعب كلّ مكونات بناء الشّخصيّة عرفانيّا ووجدانيّا واجتماعيّا وقيميّا وروحيّا. 
فالبنائيّة الاستخلافيّة ذات الأساس الرّوحي الرّفيع ولكنّها المقبلة في نفس الوقت على الحياة وعلى إدارة شؤون العالم على هدي من مقاصد الوحي وقواعد العقل وسلامة الوجدان ضمن الدّائرة الواسعة للانتماء الرّوحي والوظيفي للجماعة المؤمنة والجماعة الإنسانيّة هي المجسّدة فعليّا للمعنى العميق لتجربة المعراج والعودة النّبوية إلى الأرض بمشروع كوني مفتوح إلى ما لا نهاية، وهو مشروع تنزيل تجربة الرّوح السّامية في المتعين الإنساني، وهو ما تختلف به عن التّجربة الصّوفية المعلّقة في سماء المعنى وعن كلّ التّجارب المادّية المفتقدة لكلّ أساس روحي(15).
هذه البنائيّة الاستخلافيّة لا تتأسّس في منظومة قيم الحداثة المفقرة للغنى الإنساني الوجودي الشّهودي بالرّغم من اشتمالها على قيمتين لا غنى عنهما وهما الفرد والعقلانيّة، وإنّما في منظومة قيم استخلافيّة شهوديّة تقوم على رافعات ودعائم أربع: التّوحيد والتّزكية والإنسان والعمران(16). وثمرتها جميعا هي قيمة الاستخلاف في حدّ ذاتها ولازمتها المحرّكة قيمة الأمانة.  
خاتمة:
على سبيل الخاتمة، أقول إنّ منظورا تاريخيّا ثقافيّا يقوم على الجدل لا يفضي إلى أفضل مآلاته ولا يبوح بأنفس أسراره إلاّ عند الاكتمال. والجدل الثّلاثي هنا هو الآتي:
-علاقة تربويّة تقليديّة تقوم على رؤية هرميّة للعالم وفلسفة استبداديّة للسّلطة، سلطة الآباء والمشيخة والمعلمين والحكام. تُلطّف هذه العلاقة التعسّفية أحيانا بجملة من الآداب في سياسة الصّبيان والتّعامل مع المتعلّمين. 
- علاقة تربوية حديثة تجعل المتعلّم في مركز الوضعيّة التّعليميّة- التّعلّميّة وتأخذ بعين الاعتبار تصوّراتِه للمعلّم وللمادّة وصلتَه المخصوصة بالمعرفة. في هذه العلاقة قد يستعيد المعلّم ذاته المغتربة في الصّورة المحبّذة اجتماعيّا على حساب دوره التّيسيري والتّفهمي المطلوب والذي أصبح الآن مضطلعا به عن قناعة، ولكنّه كثيرا ما يفقد مكانته مربّيا ومعلّما وكثيرا ما يدفع غاليا من صحّته النّفسيّة ثمن الاستجابة للإيديولوجيا التّبجيليّة للطّفل والطّالب، في زمن اهتزت فيه مكانة الآباء والمعلّمين وتفكّكت منظومة القيم الأصيلة وغرق الشّباب في الرّيبيّة وتحكم نظام التّفاهة في الجميع. 
- يفضي الجدل القائم بين ضربي العلاقة التّربوية الآنفي الذّكر إلى استيعاب واع لما هو أصيل حقّا وما هو ناجع حقّا في كليهما مع إعادة دمجه في رؤية جديدة أصيلة مبدعة لهذه العلاقة تقوم على مفهوم الإنسان الرّئيس، الإنسان الخليفة بمعناه الوجودي الكوني الذي لا ينطبق على المتعلّم فحسب، بل على المعلّم كذلك وعلى جميع المتدخّلين في العملية التّربويّة بما هي تفاعلات وتبادلات تتمّ ضمن سيرورات وتمشّيات مضبوطة مؤسّسيّا لأداء الوظيفة العمرانيّة والحضاريّة الاستخلافيّة الشّهوديّة تحت حكم منظومة قيم عليا هي: التّوحيد والتّزكية والإنسان والعمران.  
الهوامش
V(1) Aspy. D. N.. and Roebuck. F. N. A Lever Long Enough. Dallas. Tex. : The National Consortium for Humanizing Education. 1976.
  (2) العرفانية أو المعرفية cognitifs.
  V(3) Voir Carl Rogers, L’éducation, une activité personnelle, in A. Abraham (Dir), L’enseignant est une personne,  Paris : ESF, 1984.
 (4) الغزالي، أو حامد محمد بن محمد، منهاج التعلّم، حققه وعلق عليه: طه ياسين، دمشق: دار طيبة ودار النهضة، ط.1، 2007م، ص. 79.
 (5) المصدر السابق، ص. 80.
(6)كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي للنشر، ط. 1، صفاقس- تونس، 2005.، ص. 12- 13. 
(7) الغزالي، منهاج التعلّم، مصدر سبقت الإشارة إليه، ص. 81. 
(8) محمد الخضر حسين، رسائل الإصلاح، ج.1، طبعة علي الرضا التونسي، المطبعة التعاونية بدمشق، 1971م، ص. 156.
  V(9) Voir Piaget, J. (1950). Introduction à l›épistémologie génétique. Paris : PUF
Et voir Piaget, J. (1977). La naissance de l›intelligence chez l›enfant. 9ème édition. Neuchatel-Paris: Delachaux et Niestlé.
  V(10) See for example J.E., Brophy &. T. L. Good, Teacher-student Relationship: Causes and Consequences, New-York, Rinehart and Winston, 1974 or M. Gilly, Maître-élève. Rôle institutionnel et représentations. Coll. Pédagogie aujourd’hui, Paris, PUF, 1980.
  V(11) Voir l’article de Maryline Baumard : Finlande : Pourquoi les élèves réussissent, Le Monde de l›éducation, Janvier 2008, p. 52- 54.
 V(12) PISA« Programme for International Student Assessment 
  V(13)  OECD  The Organisation for Economic Co- operation and Development   
(14) الحديث رواه الترمذي وصحّحه الألباني، ورواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود بلفظ مختلف.
(15) ذكرناه في كتابنا نحو تربية بنائية استخلافية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط (تحت الطبع).
(16)  ما هو شائع في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر هو القول بمنظومة قيم عليا ثلاث: التوحيد والتزكية والعمران، ومن بين من قال بذلك طه جابر العلواني في دراسته: ‹›من التّعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة››، مجلة إسلامية المعرفة، السنة (12)، العدد (46- 47)، خريف وشتاء 2006- 2007م، ص. 6، ذكره فتحي حسن ملكاوي في كتابه منظومة القيم المقاصدية وتجلياتها التربوية، هرندن- فرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية: منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1441ه/ 2020م، ص. 15. 
ومن بينهم أيضا عبد الحميد أبو سليمان في كتابه: أزمة الإرادة والوجدان المسلم البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة، إصدارات مؤسسة تنمية الطفولة، منشورات دار الفكر، 2004. 
وكذلك خالد الصّمدي في كتابه القيم الإسلامية في المنظومة التربوية، الرباط: منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة- إيسييكو، 1429ه/ 2008م. ص. 37.
إلا أن القيمة التي لم تدرج في هذه المنظومة هي قيمة الإنسان. وبدونها لا يمكن قيام العمران على أساس صالح، وهذا الصلاح يتدعم بقيمتي التوحيد والتزكية. الإنسان كان غائبا في تراثنا القديم مفهوما وقيمة ولذلك لم يسجل حضوره بشكل واع وصريح وقوي في وجداننا العربي والإسلامي المعاصر. وعندما نذكر الإنسان فإننا نستحضر ضمنيا العقل والروح والوجدان ولولاها لما كان هنالك توحيد وتزكية وصلاح في العمران  والإنسان هو باني العمران.