بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 7 : دوائر الائتلاف والاختلاف في القصّة
 تنهض قصّة أصحاب الفيل، في جامعها المشترك بين كلّ التّفاسير، على أنّ أبرهة الحبشي لما حكم اليمن عن طريق الغلبة أراد أن يسترضيَ الحاكم الحبشي النّجاشي، فبنى له معلما دينيّا يكون غاية في الضّخامة والإبداع، يضاهي به كعبة العرب ذات الأبعاد الرّمزيّة والدّينيّة، رغبة في تحويل وجهة الحجّاج العرب إليه. ولمّا تطاول البعض من أهل كنانة بتدنيس هذا الكنيس، غضب أبرهة وجهّز جيشا عرمرما للانتقام المتمثّل في تهديم الكعبة الحرام الّتي هي بمكّة. وكان قد اصطحب فيلا اسمه «محمود». استعان أبرهة ببعض رجال العرب ممّن يعرفون سبل الصّحراء الموصلة إلى مكّة. وفي موضع يسمّى بالغميس التقى قائد الجيش بعبد المطلب، وبعد محاورة استرجع عبد المطلب إبله واستنجد العرب برؤوس الجبال. وعندما قرّر أبرهة الكرّ بجيشه على الكعبة تراجع الفيل وسلّط اللّه على أبرهة وجنوده طيرا أبابيل ترمي بحجارة دقيقة فأهلكت الجيش إهلاكا شنيعا. ومن شهرة هذه الحادثة أصبحت منعطفا يُؤرّخ به. إلاّ أنّ الاختلاف في إخراج هذا القاسم المشترك بين المفسّرين ظلّ يتّسع ويضيق من مفسّر إلى آخر وظلّ الاختلاف في العديد من النّقاط وضبط العديد من المعلومات هو الميسم الغالب بين أغلب الأخبار والآثار المشكّلة للقصّة بدءا من تحديد سبب تفكير أبرهة في شنّ حملته. فمنهم القائل بأنّ رجلا من كنانة قضى حاجته وتغوّط في هذا الهيكل كناية على احتقاره له. ومنهم من ذهب إلى أنّ نارا اندلعت من موقد قريب لعرب مسافرين مكثوا قرب هذا الهيكل، فأتت النّار عليه أو كادت. ومن ذلك أيضا الاختلاف في تحديد سنة الحادثة إذ ذهب البعض ومنهم ابن عاشور إلى أنّها جرت قبل ميلاد الرّسول بخمسين يوما(1). في حين أنّ مُقاتل يرى أنّها حدثت قبل مولد النّبيّ بأربعين سنة(2). وأمّا الكلبي(3)، فيرى أنّها جرت قبل ذلك بثلاث وعشرين سنة. وإنّ المرء ليعجب من هذا الاختلاف الشّديد ولاسيّما أنّ حادثة الفيل مرتبطة بميلاد النّبيّ «ففي رواية أنّ ولادته كانت في عام الفيل، وفي أخرى كانت في يوم الفيل لا في عامه، وفي رواية كانت ولادته بعد الفيل بخمسين يوما، وفي أخرى بعد الفيل بخمسة وخمسين يوما، وفي أخرى بعده بشهر، وفي أخرى بعده بأربعين يوما، وفي أخرى بعده بعشر سنين، وفي أخرى بعده بثلاث وعشرين سنة، وفي أخرى بعده بثلاثين سنة، وفي أخرى بأربعين سنة، وفي أخرى بعده بسبعين سنة، وفي رواية أخرى وهي أغربها كانت ولادته قبل الفيل بخمس عشرة سنة»(4).
وفيما يتعلّق بعدد الفيلة فهو يتراوح بين الواحد والألف فمقاتل ينتصر إلى الرّأي الأوّل(5). وأمّا الضّحاك فيقول بكونها ثمانية(6). وقيل إنّها اثنا عشر فيلا سوى الفيل الأعظم. وتواجه القصّة العديد من التّحدّيات من قبيل طمع أبرهة في أن يحجّ الوثنيّون من العرب إلى هيكل يرمز إلى الدّيانة المسيحيّة. وقد أحسّ محمّد عبده بالحرج الّذي تسبّبه هذه النّقطة، فاقتصر على ذكر أنّ الهدف من هدم الكعبة هو منع العرب من الحجّ إليها(7). ومن ذلك أيضا الإسهاب في وصف الطّيور ذات الخراطيم أحيانا وذات المناقير أحيانا أخرى واختلاف ألوانها من بياض، وسواد، واخضرار، واحمرار، واصفرار، وعن جدوى انبعاثها من البحر، وأنّ كلّ حجارة تحمل اسم الرّجل الّذي ستصيبه. 
ولئن أطنب المفسّرون الأوائل في ألوان الطّيور وأحجامها وأشكالها، فإنّ ذلك يمتّ بصلات متينة لما ورد عن كعب الأحبار من حديث عن النّسر المزركش في كلامه عن النّبي صالح «وكانت رعوم امرأة أبي هذا النّبي كثيرة البكاء لفقد زوجها. فبينما هي ليلة قد بكت كثيرا إذ وقع في وسط دارها شيء. فخرجت تنظر ما هو، فإذا هو طائر على هيئة الغراب رأسه أبيض وظهره أخضر وبطنه أسود وهو أحمر الرجليْن والمنقار وفي عنقه درّة معلقة بسلسلة من ذهب. فقالت: أيها الطّائر ما أحسن خلقك، لقد هربت من صاحبك. فقال الطّائر ما هربت من صاحبي ولكنّي أنا الغراب الّذي بعثه اللّه إلى قابيل بعد قتل أخيه هابيل لأريه كيف يواري سوءة أخيه. فأمّا بياض رأسي فإنّه شاب لما رأيت قابيل قتل هابيل. وأمّا حمرة منقاري ورجلاي فإني غمستها في دم هابيل الشّهيد. وأمّا خضرة ظهري فمن لمس الملائكة وحور العين. وأنا من طيور الجنّة ولكن، أتحبّين أن أرشدك إلى زوجك كنوه فإنّ اللّه عارف بموضعه. فقالت: ومن لي بذلك فقد غاب عنّي مائة سنة. فقال: لا تنكري ذلك فإنّ اللّه على كلّ شيء قدير. فتقلّدت بسيف بعلها ثمّ عمدت تتبع الطّائر فطوى اللّه لهما البعيد حتّى وصلت إليه وهو نائم. ثمّ نادى الطّائر يا كنوه بن عبيد قم بقدرة اللّه الذي يحيي العظام. فاستوى قاعدا. فلما رأى زوجته اعتنقها وسلّم عليها، فألقى اللّه عليها الشّهوة وواقعها، فحملت بصالح»(8). 
إنّ محمّد الطّاهر ابن عاشور قد اعتبر العصافير المرسلة على أعداء الكعبة جندا من جنود اللّه. وأنّ أبرهة قبل أن تناله الطّيور بالحجارة أصيب بمرض عضال أقعده عن الحركة ومنعه من القيام بأعباء الحرب، موافقا في ذلك ما ارتآه محمّد عبده في تفسيره.
ولقد ترسّخت هذه القصّة بكلّ تفاصيلها في الوعي الدّيني الإسلامي رغم ما يشوب أحداثها من غرابة وما يدور حول القصّة من  هالة تحول دون التّمعّن في مدى واقعيتها وإمكانية تحقّقها. ويبدو أنّ سلطة التّدوين الّذي شهدته الثّقافة الشّفويّة وبه تحوّلت إلى نصوص مكتوبة قد أكسبت المرويات توهّجا ليس لها في حقيقة الأمر بالإضافة إلى التّكرار المستّمر ممّا جعلها تبدو وكأنها المسلّمة الّتي لا تقبل الدّحض(9). 
وقد تجلّت هذه المسألة في أخذ أغلب الدّارسين المحدثين بالقصّة على علاّتها ومن هؤلاء نذكر محمود شاكر الّذي أورد في كتابه «التّاريخ الإسلامي قبل البعثة» الحادثة بكلّ تفصيلاتها وأسبابها ونتائجها على الشّكل الّذي وردت به في كتب التّفاسير القديمة(10). 
ومن هؤلاء الباحثين أيضا نُلفي رضا أصلان حين أورد أنّه: «وفقا للأخبار الإسلاميّة، وُلد محمّد عام 570م وهو العام نفسه الّذي هاجم فيه أبرهة المسيحي ملك الحبشة مكّة بقطيع من الفيلة في محاولة منه لهدم الكعبة وبناء كنيسة في صنعاء المركز الدّيني الجديد لشبه الجزيرة العربيّة. وقد رُوي أنّه عندما اقترب جيش أبرهة من المدينة، انسحب المكّيون إلى الجبال تاركين الكعبة دون حماية خائفين من مرأى الفيلة الضّخمة الّتي أحضرها الحبشيّون من إفريقيا. ولكن عندما كان الجيش الحبشي على وشك الهجوم على الحرم، عتّمت السّماء وأمطر سرب من الطّيور الجيش الغازي بحجارة وأنزل عليهم غضب اللّه حتّى لم يعد لديْهم أي خيار آخر سوى الانسحاب والعودة إلى اليمن»(11). 
ومع ذلك، فإنّ سطوة التّدوين ورسوخ ثقافة الإتّباع لم يحولا دون وجود محاولات لإعادة فهم النّصّ القرآني فهما معاصرا في ضوء الاستفادة من أساليب المعرفة المستجدّة ولاسيّما أدوات علوم اللّسان وهو ما تروم الحلقات القادمة الكشف عن بعض المحاولات في هذا المجال. 
الهوامش
(1) محمّد الطّاهر بن عاشور، التّحرير والتّنوير،  م ن، ص547.
(2) مقاتل بن سُليمان، التّفسير، ج4، م ن، ص853.
(3) هوّ محمّد بن السّائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد الحارث الكلبي المعروف بأبي هشام الكلبي ، ت 146هـ، 763م كوفيّ،  نسّابة، وراوية،  وعالم بالتّفسير والأخبار وأيّام العرب. وهو المصنف العربي المشهور. قال عنه الذّهبي «هو العلاّمة الإخباري المفسّر، النّسّابة، إلاّ أنه شيعيّ متروك الحديث. انظر الذّهبي، سير أعلام النبلاء، ج6، م ن، ص249. والشّهرستاني، الملل والنحل، تحقيق محمّد سيد كيلاني، دار المعرفة للطّباعة والنّشر، بيروت،  ط2 بالأوفست، 1395ه، 1975م، ص64. ولعلّه من المفيد التّنبيه إلى أنّ ابنه المعروف بابن الكلبي هو أبو المنذر هشام، ت204ه، وهو أيضا نسابة وإخباري ذكر له ابن النّديم ما يربو عن مائة وخمسين كتابا منها كتاب «الأصنام» المعروف. انظر ابن النّديم، الفهرست، مكتبة خياط، لبنان، بيروت، د ت، ص95.
(4) علي بن برهان الدّين الحلبي، إنسان العيون في سيرة المأمون: السّيرة الحلبية، ج1، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، د ت، ص ص58،59.
(5) مقاتل بن سليمان، التّفسير، ج4، م ن، ص847.
(6)  الضّحاك، التّفسير، مج1، تحقيق محمّد شكري أحمد الزّوايتي، دار السّلام، القاهرة، ط1، 1419ه، 1999م، ص987.
(7) محمّد عبده، تفسير القرآن الكريم، م ن، ص157.
(8) محمّد بن عبد الله الكسائي، قصص الأنبياء، طبعة إيزنبرغ، بريل ليدن، 1922، ص112. 
(9) روى ابن خلّكان إنّ عضد الدّولة بن بويه كلّف أبا إسحق الصّابي أن يؤلّف له كتابا في أخبار الدّولة الدّيْلميّة، فاتّفق أَنْ دخل على الكاتب أحد أصدقائه فرآه منهمكا في التّأليف فسأله عمّا يعمل، فقال أباطيل أُنـمّقها وأكاذيب أُلفّقها. ابن خلّكان، وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزّمان، ج1، تحقيق إحسان عبّاس،  دار صادر، بيروت، لبنان، 1994، ص131.
(10) انظر محمود شاكر، التّاريخ الإسلامي قبل البعثة، ج1، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عمان، ط8، سنة2000، ص ص 86،87.
(11) رضا أصلان، لا إله إلاّ الله: أصول الإسلام وتطوّره ومستقبله، ترجمة محفوظ العارم وعلي المخلبي، كتابنا للنشر، لبنان، 2016، ص61. ورضا أصلان هو أكاديمي أمريكي من أصول إيرانية فرّت عائلته في بدايات الثّورة الإيرانية إلى أمريكا. هو أستاذ في الجامعات الأمريكية متخصص في المسألة الدّينيّة في الشرق الأوسط. عضو في الأكاديمية الأمريكية للأديان، وجمعية الأدب الكتابي، والجمعية الدولية للدّراسات القرآنية. نشر إلى حد الآن ثلاثة كتب هي: «لا إله إلا الله» سنة 2005، «وما بعد الأصولية» سنة 2009، و»الغيور: حياة يسوع النّاصري وزمنه» سنة 2013. إضافة إلى مقالات عديدة في أهمّ المجالات الأمريكية.