الأولى

بقلم
فيصل العش
في إلزاميّة الإصلاح الثّقافي... أي إصلاح في ظلّ عولمة طاغية وثورة رقميّة هائلة؟
 تشتمل ثقافة المجتمع على أنماط إنتاجه الفكري والمادّي ومنظومته القيميّة، النّاتجة عن تفاعل ذاكرته الجماعيّة مع تراثه وواقعه المعيش من جهة ومع التّأثيرات الخارجيّة الصّادرة عن ثقافات المجتمعات التي لها علاقة ما معها من جهة أخرى. لهذا فإنّ إصلاح هذه الثّقافة قضيّة مجتمعيّة تتأثّر سلبا وإيجابا بالمحيط الدّاخلي والخارجي، ويتداخل فيها التّربوي مع الاقتصادى والسّياسى والتّشريعى والدّيني، وبالتّالي فهي ليست بالأمر الهيّن. هي عمليّة معقّدة، عسيرة وشاقّة، تتطلّب وقتا طويلا وجهدا يشارك فيه جميع مكوّنات النّخبة من أكادميّين ومربّين ومثقّفين ومثقّفين عضويّين وأيمّة ورجال دين وإعلامييّن، وتهدف إلى إنشاء عالم جديد من الأفكار والسّلوك يمهّد لبقيّة مظاهر الرّقي والتّطور المادّي والتّقني.
ولأنّ الإصلاح الثّقافي لابدّ أن ينبثق في قلب حركة المجتمع وأبنائه، ويبدأ بمراجعة للذّات ونقدها، وإعادة النّظر في مفاهيمها وطموحاتها، ومن ثمّ تحرير طاقاتها العقليّة الإيجابيّة، فإنّه لا يمكن أن يُفرض من الخارج بل يجب أن يكون نابعا من الدّاخل، يعبّر فيه الإنسان عن عمق ذاته، فتُغيّر النّفس والعقل والسّلوك، قبل أن تصل إلى المادّة. 
يهدف الإصلاح الثّقافي إلى إحداث تغييرٍ في الحقل الثّقافي بجانبيه المادّي واللاّمادي، لتؤثّر في ما بعد في مكوّنات المجتمع ومثله وقيمه التي يتمسّك بها، فالتغيّر الذي يصيب مكوّنات الثّقافة وعمليّات التّحوّل (المادّي واللاّمادي) تسري في جميع أجزاء البناء الاجتماعي فتؤثّر فيها، ومن ثمّ يحدث تغيير في أشكال التّفاعل بين مكوّنات المجتمع ونظمه وأجهزته وهو ما يسمّى بالتّغيير الاجتماعي، وهذا يعني أنّ التّغيّر الثّقافي هو الوعاء الحامل للتّغير الاجتماعي. كما أنّ التّغيير في الحقل الثّقافي يؤدّي حتما إلى تغيير في الحقلين الاقتصادي والسّياسي بما أنّ الإصلاح الثّقافي  يشتغل على الإنسان (سلوكا وفكرا وعقيدة) وهو العنصر الأساسي في الحقلين المذكورين. 
 لكنّ عمليّة الإصلاح الثّقافي المرغوب فيها ليست عمليّة يتمّ إنجازها في مخبر معزول عن العالم وليست ملفا تتمّ دراسته نظريّا والبحث فيه في غرف مغلقة، وإنّما هي فعلُ تفكيرٍ وتنفيذٍ داخل المجتمع نفسه بتركيباته المعقّدة وفي واقع يتأثّر بما حوله باستمرار. ولهذا فإنّ عمليّة الإصلاح الثّقافي تتطلّب إلماما بمختلف المؤثّرات السّلبيّة والإيجابيّة الممكنة، وهذا يتطلّب الأخذ بعين الاعتبار العناصر الأربعة التّالية: العولمة والغزو الثّقافي، هيمنة التّكنولوجيّات الحديثة والوسائط الرّقميّة، القوى المضادّة للتغيير والمخزون الثّقافي للمجتمع (التّراث). سنحاول في هذه الحلقة التطرّق إلى النّقطتين الأوليين ونترك البقيّة للعدد الموالي. 
1 - العولمة والغزو الثّقافي:
من غير الممكن القيام بإصلاح ثقافي بمعزل عن العالم المحيط بنا، أي من دون التّأثير فيه والتّأثّر به، كأن ننغلق على أنفسنا ونقطع علاقاتنا بالآخرين. هذا الأمر أصبح مستحيلا، خاصّة في ظلّ ما يسمّى بالعولمة وما نعيشه من غزو ثقافي غربي عنيف يهدف إلى الهيمنة على العالم ثقافيّا ومن خلاله الحفاظ على سيطرة الغرب الاقتصاديّة والسّياسيّة وذلك بجرّ المجتمعات الأخرى إلى التخلّص من خصوصيّاتها وتنميطها ثقافيّا عبر تعميم الثّقافة الاستهلاكيّة، باعتبارها آليّة من آليّات الهيمنة المفروضة على المجتمعات التّقليديّة، ومجالا خصبا لتعزيز أنماط التّدويل في الإنتاج والتّقنية. وهو تغيّر ثقافي أحدثه الغرب، قادته شركات الإنتاج الكبرى لاهتمامها بإنتاج رموز الثّقافة الاستهلاكيّة خدمة للسّلع المادّية المنتجة، من خلال عمليّات الإعلانات الموجّهة للسّلع وطريقة عرضها وأساليب بيعها، فتغيّرت قيمة العمل المنتج ليحلّ محلّها الأفراد كقيم استهلاكيّة، وتحوّل بذلك الإنسان إلى مستهلك مولع بإشباع حاجته اليوميّة. وهو ما نلاحظه اليوم بوضوح في طبيعة الإنسان وسلوكه.  
ولذلك وجب وضع خطط الإصلاح الثّقافي ضمن هذا الإطار، ومن ثمّ فإنّ الذي يفكّر في «إصلاح ثقافي» عليه أن يلتزم بمهمّتين متلازمتين، الأولى الدّفاع عن خصوصيّات المجتمع ومقاومة الغزو الثّقافي بوضع الخطط المناسبة للحدّ من هيمنة الثّقافة الغربيّة والتّقليص من تأثيرها في المجتمع، والثّانية إمتلاك تصوّر واضح لعمليّة الإصلاح الثّقافي، وهذا يتطلّب الإجابة على الأسئلة التّالية: أيّة ثقافة نريد؟  وأيّة قيم ندافع عنها؟ وممّا تتكوّن معاول البناء الثّقافي؟ وما هو دور كلّ واحد منها؟ وما هي مراحل هذا الإصلاح؟ وما هي أولويّاته؟ ومن ثمّ الانطلاق في تنفيذ مراحل هذا الإصلاح.
إنّ القول بأنّ هيمنة الثّقافة الغربيّة أمر حتميّ وأنّ العالم يسير نحو ثقافة واحدة، وبالتّالي لن ينجح الإصلاح الثّقافي في الحفاظ على خصوصيّة المجتمع ولا في نشر ثقافة مغايرة للثّقافة الاستهلاكيّة الغربيّة، قول مرفوض يدلّ على عقليّة انهزاميّة استسلاميّة، لأنّ انتشار السّلع الاستهلاكية لا يعنى غلبة الثّقافة والفكر الغربي بحسب قول «صموئيل هانتيجتون»، ذلك أنّ الشّعوب حين تحسّ بالخطر تلوذ بثقافتها الخاصّة، ودياناتها الخاصّة. وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار في مشروع الإصلاح الثّقافي.
ليس المطلوب رفض كل ماجاءت به العولمة، فلها إيجابيّات لا يمكن إنكارها، ولكنّ المطلوب السّعي من خلال تخطيط محكم إلى التحرّر من سلبياتها التي تخالف طبيعة الإنسان وتهدّد قيمه وتقاليده ولغته وماضيه وحاضره من جهة، والتّفاعل الإيجابي مع ما توفّره هذه العولمة من مكتسبات خاصّة في الجانب المعرفي والاقتصادي، والتّعامل معها بذكاء وفعاليّة، للاستفادة منها من جهة أخرى.  فمهما كانت حقيقة العولمة والقوى التي تقف وراءها، فإنّها فتحت للبشريّة أفاقا معرفيّة وثقافيّة لا متناهيّة نتيجة إرتباطها بالثورة العلميّة والمعلوماتيّة لذا يجب علينا استغلالها أحسن إستغلال. 
2 - هيمنة التّكنولوجيّات الحديثة والوسائط الرّقميّة:
أهمّ إنجاز إنساني(1) في القرن العشرين والذي شهد طفرة عظيمة في بداية القرن الواحد والعشرين الرّقمنة وبروز التّكنولوجيّات الحديثة والوسائط الرقميّة وتطوّرها. وأمام هذه التحوّل الكبير في التّطور التّقني، لم يعد التّفكير منحصرا في كيفيّة اكتساب الأدوات التقنيّة الرّقميّة والمشاركة في تطويرها، من أجهزة وبرمجّيات مرتبطة بالحاسوب وبالشّبكة العنكبوتيّة بصفتها وسائط فقط، بل أصبح التّفكير يشمل أساسا ما أنتجته الثّورة الرّقميّة من «مجتمع إفتراضي» تجاوز الحدود الجغرافيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، باعتباره حدثا ثقافيّا-اجتماعيّا. فالوسائط الرّقميّة أصبحت تفرض وجودها اليوم كنسق ثقافي جديد في عصر يمتاز بالانفتاح الفكري والتّفاعل الثّقافي بين المجتمعات، تحوّل معه العالم ليس إلى قرية كونيّة صغيرة فحسب، بل إلى غرفة واحدة تجمع الجميع، من خلالها سنضطر إلى إعادة تعريف مفهوم الإنسان والمجتمع والثّقافة والعالم على حدّ سواء. 
فقد وفّرت الوسائط الرّقميّة التي ما فتئت تتطوّر يوما بعد يوم أرضيّة خصبة للتّأثير والتأثّر وبالتالي للتّغيّر الثّقافي، وأوجدت بفضل نظم التّواصل الرقمي فضاءات جديدة تسمح بتشكَّل الفعل الجماعي بقدر كبير من الحرّية، وهو الفعل الذي فتح آفاقا جديدة للتّغيير الاجتماعي والثّقافي، شمل عمليتي التّواصل والتّبادل بشكل عامّ داخل عالم افتراضي. وعلى خلاف العالم الواقعي، لم يعد التّواجد بالحضور المكاني والزماني شرطا ليحصل التّواصل بين أفراد المجتمع الواحد، أوبين أفراد من مجتمعات مختلفة.
إنّ العبور من الواقعي إلى الافتراضي في المجتمعات الانتقاليّة كمجتمعاتنا سيؤدّي حتما إلى تغيّرات في المفاهيم والممارسات؛ وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار في أيّ مشروع إصلاحي ثقافي. فقد أدّت الثّورة الرّقميّة إلى تحوّلات في القيم الاجتماعيّة كنمط عيش الأفراد في الأسرة والمجتمع، ونوعيّة سلوكها وفي رؤيتها للعلاقات الإجتماعيّة داخل الأسرة أو خارجها. لقد انتقلنا من خلال الوسائط الرّقميّة من حميميّة اجتماعيّة بماهي خاصيّة تواصليّة للمجتمعات التّقليديّة إلى حميميّة رقميّة للمجتمع الحديث غارقة في ارتباط وثيق مع الأنساق الثّقافية الجديدة، ساهمت في إنتاج «مجتمع افتراضي»(2). 
إنّ عبور الإنسان من عالم واقعي إلى عالم افتراضي محفوف بالمخاطر في علاقة بإنسانيّته وحرّيته وانتمائه المجتمعي، وبحكم طبيعته (المادّية والروحيّة) لن يكتفي بتحقيق دوافعه المادّية المرتبطة بالتّقنية والمادّة فحسب، بل ومن خلال دوافعه الحسّيّة وفي غياب تشبّعه بالرّموز الثقافيّة لمجتمعه التي لم تعد تتماشى مع واقعه الجديد، سيتلقّى بسهولة الرّموز الثّقافيّة التي تجتاح التّكنولوجيّات الرّقميّة، وبالتالي تؤثّر في وعيه وتمثّله للأشياء المنعكسة على نمط تفكيره في التّجربة الواقعيّة المادّية، وفي نمط سلوكه داخل المجتمع.
إنّ علاقة مشروع الإصلاح بالثّورة الرقميّة المعاصرة لا تقتصر على استغلال ما أنتجته من وسائط تُعتمد كوسائل للإصلاح، بل في الأخذ بعين الإعتبار تأثيرات الواقع الإفتراضي ومحاولة توجيهها لصالح الفرد في علاقته بالواقع المعيش.
المسألة الثّانية التي تتعلّق بالطّفرة الرّقميّة التي يجب أخذها بعين الاعتبار في تحديد أولويّات مشروع الإصلاح الثّقافي هي مسألة عدم التكافؤ بيننا وبين الغرب الرّأسمالي في مستوى التحكّم في التّكنولوجيا وتدفّق الرّسائل الإعلاميّة والثّقافيّة. بمعنى آخر يمتلك الغرب أغلب وسائل الاتصال التي أنتجتها التّكنولوجيّات الحديثة من وسائل إعلام وأقمار صناعيّة وشبكات تواصل اجتماعي، ويتحكّم فيها كما يشاء، ممّا يجعل تدفّق الرّسائل الإعلاميّة والثّقافيّة يسير في اتجاه واحد، من مراكز الرأسماليّة إلى  مجتمعاتنا التي تحوّلت إلى مواقع لتلقّي هذه الرّسائل بكلّ ما تحمله من مضامين وقيم تتعارض مع منظومة قيمنا السّائدة. 
وبالرّغم من أنّ موازين القوى تميل إلى الغرب، فإنّه بالتّخطيط المحكم ووضع الاستراتيجيّات المناسبة يمكن أن يحدث الاختراق، فنتحوّل من موقع المؤثّر فيه إلى المؤثّر. ذلك أنّ الثورة الرقميّة هي ثورة معرفيّة جديدة فرضت عالما أصبحت فيه عوامل الإبداع متوفّرة للجميع، وانتقال المعلومة ومعالجتها يحدث بشكل سلس، وهي عوامل تشكيليّة محدّدة للمصادر الرّئيسيّة للسّلطة والإنتاجيّة، إن أحسنّا استغلالها وعرفنا كيف نستغلّ تكنولوجيّات الإعلام والتّواصل، سنفتح الباب على مصراعيه لإعادة صياغة ثقافة المجتمع وإيجاد نمط جديد للحياة متشبّع بقيم العمل والإبداع من جهة وللتأثير الإيجابي في ثقافة المجتمعات الأخرى من جهة ثانية.
الهوامش
(1) لم يكن التّطور التّكنولوجي والرّقمنة إنتاجا غربيّا صرفا، فقد شارك فيه اليابانيّون والهنود والصّينيّون وغيرهم. لهذا اعتمدنا تسمية «الإنساني» وليس «الغربي».
(2) أنظر إلى دور الحواسيب والهواتف الذكيّة والوسائط الرقميّة كشبكات التواصل الاجتماعي في تغيير نمط العلاقات بين الأباء والأبناء وبين الأزواج أنفسهم داخل الأسرة حيث تقلّص التّواصل المباشر بين أفراد الأسرة (السهرات، جلسات النقاش المباشر...)