الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 179
 يصدر العدد 179 من مجلّة الإصلاح بعد أيّام قليلة من مغادرة حبيبين لنا، لم نخالطهما ولم تكن بيننا علاقة قرابة ولا زمالة ولا انتماء لنفس البلد، لم يكن يجمعنا بهما انتماء سياسي أو ايديولوجي معيّن بل ربّما كنّا مختلفين، ولكنّهما كانا حبيبين لقلبي ولقلوب مئات الآلاف من أبناء جيلي، غادرا هذه الحياة الدّنيا لكنّ صورتيهما ستبقيان في الذّاكرة، واسميهما محفورين في دفاتر التّاريخ المرتبط بقضيّتنا المركزيّة، تحرير فلسطين من بني صهيون وتحرير الوطن الكبير من أشباه الرّجال الجاثمين على صدر هذه الأمّة.
غادرتنا أولا شهيدة الإعلام وأيقونته، مراسلة قناة الجزيرة «شيرين أبو عاقلة»، التي استشهدت برصاص قناص صهيوني وهي بصدد فضح جرائم الكيان في جنين. لم تكن «شيرين» صحافيّة عادية تنقل الأخبار مقابل الشّهرة أوحفنة من الدّولارات، ولكن كانت الصّورة التي توثّق بحرفيّة كبيرة فضاعة الكيان الصّهيوني ووحشيته والصّوت الذي ينقل للعالم آلام الفلسطينيين ومعاناتهم. أحببنا «شيرين» من القلب لأنّها كانت لسنوات عديدة منتصرة للحقّ والعدالة والحريَّة والكرامة. سقطت «شيرين» وهي تقبّل الأرض التي أحبّتها وأقسمت بالتّضحية من أجل تحريرها. استشهدت فتوحّدت أجراس كنائس القدس مع تكبيرات مساجدها تحيّة لروحها الطّاهرة، فكان موتها فرصة للتأكّد من وحدة الشّعب الفلسطيني الأبيّ ووقوفه صفّا واحدا في مواجهة الكيان الغاصب.رحم اللّه «شيرين أبو عاقلة»، وقَبِلَها ضمن قافلة شهداء الكلمة الحرّة والمنتصرين للحقّ والحقيقة، وجعل دمها لعنة على الصّهاينة الغاصبين، وقربانا على طريق تحرير كلّ فلسطين. ماتت «شيرين» شهيدة عنيدة، لكنّ صوتها سيبقى يتردّد كأجمل قصيدة. ماتت «شيرين» لكنّ فلسطين التي ضمّتها ستلد ألف شيرين. اغتيالها والاعتداء على نعشها وعلى موكب دفنها أثبت مرّة أخرى أنّ الإجرام هو الصّفة الغالبة على الصّهاينة، الحاكمة لسلوكهم وتفكيرهم.
وغادرنا ثانيا مظفر النّواب، ذلك الشّاعر الذي ألهب مشاعرنا طويلا ونحن نستمع عبر أشرطة الكاسيت، (وذلك قبل دخول العالم العربي عصر الإنترنت)، إلى قصائده الثوريّة وكلماته الصّادقة الجارحة التي تمجّد المقاومة وتلعن الطّغاة الخائنين. مات «غيفارا» الشّعر العربي الذي اختار طريقا مليئا بالمتاعب والمعاناة، منحازا لقضايا الفقراء والبسطاء والعدل ومناهضة الاستغلال والاستعمار وعاش لبضعة عقود مشرّدا ما بين جرح بلده العراق وجرح فلسطين، مغتربًا، منفيًا، يتنقل من بلد إلى آخر، أعزلَ إلاّ من قصائده التي أحرجت الحكام العرب وأزعجتهم، ما جعله هدفًا ثابتًا للطّرد، والإبعاد. يقول مظفر في قصيدته الرائعة «في الحانة القديمة»: «ولكنْ سُبحانَكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ، وتَعوْدُ إليها....وأنا ما زِلّتُ أَطير...فهذا الوَطَنُ المُمّتَدُ مِنَ البَحْرِ إلى البَحْر، سُجُوْنٌ مُتَلاصِقَة..سَجّانٌ يُمْسِكُ سَجّان...» وكان يردّد بلا خوف«من يغلقون السّجون على النّاس، لا يفتحون على القدس أبوابها المغلقة». رحم اللّه مظفر النواب، وجازاه كل خير على كلّ قصيدة كتبها، وعلى كلّ صرخة في وجه الظّلم أطقها، وعلى كلّ حقّ إنساني انتفض له.