همسة

بقلم
رضوان مقديش
كرة الثلج ( 1 )
 إنّ بعض المسائل المختلف فيها تكتسي أهمّية وخطورة كبيرة من جراء التفرّع والتّقادم. وهذا ما يُرمز له بمفعول كرة الثّلج أو الثّقب الصّغير في السدّ الذي ينتهي إلى فيضان. في الواقع ننطلق من إختلاف بسيط - أو هكذا يبدو- وبمفعول التضخّم والتّشويه ونزعة التّطرّف أحيانا، ننتهي إلى اختلاف عميق وفي منتهى الخطورة. ومقولة «إنّ في الاختلاف رحمة» تنطبق على فقه العبادات وعلى الأمور التّفصيليّة والثّانويّة لكي يتسنّى لنا اختيار الأيسر، أمّا المسائل المبدئيّة فلا ينبغي تطبيع الإختلاف والإطمئنان له على أساس أنّه رحمة، بل يجب تظافر الجهود والتّعاون للوصول إلى الحقيقة وتنقية الأسس والأصول الفكريّة من الشّوائب إن ثبت ذلك. 
وإليكم تمثيلا بسيطا وعمليّا للمسألة: لو أعطينا لأحدهم مسطرة مرقّمة وقلما، وطلبنا منه رسم خطّين متوازيين، سيبدو الخطّان متوازيين، ولكن في حقيقة الأمر لو رسمنا  (افتراضيّا ) إمتداد الخطّين لاكتشفنا أنّهما يلتقيان بعد عشرات أو مئات الأمتار أو الكيلومترات. ذلك يعني أنّ الإنطلاق لم يكن مثاليّا، والبعد عن نقطة الإنطلاق بمفعول التّقادم أو التّباعد يفضح خلل الإنطلاق ولو كان بسيطا.  
 على هذا الأساس سأحاول بعون اللّه طرح مسألتين اثنتين لغاية الحسم فيهما، وسأحاول الإضافة قدر الإمكان وعدم الاكتفاء بتكرار حجج من يوافقني الرّأي.
المسألة الأولى هي «النّاسخ والمنسوخ» وهي مسألة أصوليّة وأريد التّوضيح أنّ الأمر المطروح هو نسخ الآية القرآنيّة لآية قرآنيّة وأنّ الإختلاف بين المهتمّين في مستويين اثنين:
* المستوى الأول، تعداد وتحديد الآيات المزعومة ناسخة أو منسوخة، ويمكن الإشارة إلى أنّها تراوحت حسب قولهم بين الخمسة والخمسمائة. 
* المستوى الثّاني وهو الأهم، الإختلاف حول مبدأ النّسخ بين آيات القرآن الكريم. وخلافا لما يعتقد البعض فإنّ إنكار هذا النّسخ لا يقتصر على بعض المعاصرين من أمثال المفكّر الكبير المهندس «عدنان الرّفاعي»، بل يشمل بعض الأعلام الكبار السّابقين مثل «الإمام أبو مسلم الأصفهاني» و«محمّد عبده» و«محمد الغزالي» . وسوف أسمح لنفسي بالتحليق والنظر من مواقع مغايرة .
لقد دأب إنسان العصور القديمة عامّة على الإعتقاد بوجود عديد الآلهة كلّ يختصّ بقدرات وخوارق معيّنة، ربّما لصعوبة الإقتناع بأنّ إلها واحدا يمكن أن يجمع بين كلّ هاته القدرات التي تفوق تصوّراته. ثمّ وبمرور الزّمن وتطوّر المجتمعات البشريّة وتتالي الرّسالات السّماويّة ، تركّز المبدأ التّوحيدي وخصوصا بصفة جليّة مع الدّين الإسلامي. العقيدة التّوحيديّة جمعت إذن كلّ تلك القدرات في اللّه ، الواحد الأحد ذي الأسماء الحسنى التي تعتبر بمثابة إشارات إلى أوصاف الكمال الإلهي. 
ومن ركائز العقيدة الصّحيحة الإيمان القويّ الحقيقي بمدى القدرة والكمال الإلهي. والمسألة ليست تنزيه اللّه عزّ وعلا شأنه عن الإرتجال والتّراجع وتبديل القول، بل تنزيهه تعالى من عدم إحكام الرّسالة. القرآن هو القانون والتّعاليم والإرشاد للبشريّة جمعاء إلى يوم القيامة، كيف يمكن أن يحتوي على التباس من مثيل النّاسخ   والمنسوخ؟ آيات من المفروض بيّنات ويحتمل أن تنسخ ويحتمل أن لا تنسخ، كيف يصحّ الإختبار بناء على تعاليم فيها لبس؟ كيف يصحّ البناء فوق رمال متحرّكة؟ 
لو قاربنا المسألة بمدرسة عليا تحترم نفسها وروادها، الدّروس فيها والمعلومات تكون بيّنة جليّة دون لبس أو تناقض حتّى ولو كانت فيها صعوبات، والإمتحانات تحتوي ربّما على حيل وفخاخ وحواجز. في المستوى الإلهي المعجز، لا حياد عن المبدأ: المعلومات والتّعاليم أي القرآن أوّلا وأساسا لايحتمل غموض الإلتباس فهو حجّة اللّه على عباده. أمّا صعوبة فهم بعض الآيات والمعاني فهذا أمر مختلف تماما وعلى الإنسان أن يجتهد في اكتشاف القرآن إلى يوم يبعثون. كيف تخامر أذهاننا فكرة أنّ خالق هذا الكون اللاّمتناهي في الكبر والصّغر والتّنوّع والتعداد، والمحكم في التّوازن والتّناسق والانسجام إلى أبعد من حدود خيالنا، كيف تخامر أذهاننا فكرة أنّه يرسل رسالة مرتبكة الرّموز والشّفرات؟ 
الزّاعمون مبدأ النّسخ في القرآن الكريم يركّزون خصوصا على الآية : ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾(1). وحتى لا أطيل وأكرّر كلاما قيل من طرف البعض ممّن أشاطرهم الرّأي، أريد أن أركّز على كلمة «آية». 
المعنى الأصلي والمتجذّر لكلمة «آية» هو البرهان والمعجزة والحكمة والأحكام. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(2). وقال أيضا:﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾(3).وقال أيضا:﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً * قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا * وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾(4)، والأمثلة عديدة . 
وكلمة آية التي تعني آية قرآنيّـة هي في الحقيقـة استعمـال فرعي وثانـوي لكلمـة آية .﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَـةٍ﴾ ليس المقصـود بها الآية القرآنيّة بل المعجزات والأحكام الواردة فيما سبق من كتب وديانات، بما معناه أنّ رسالة الإسلام نسخت الرّسالات السّابقـة، فغيّرت بعض ما فيهـا وحافظت على  البعـض الآخر.  
ومن الأمثلة المتداولة والمثيرة للإهتمام من الآيات التي نسب إليها النّسخ، قوله تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾(5)...  لقد بقيت معاني الآية عالقة بين مطرقة من يريدون التّشكيك في حرمة تناول المسكّرات وسندان من يحاولون ترسيخ فكرة النّسخ في القرآن، وليعذرني هؤلاء وهؤلاء إن خيّبت أمانيهم،مع أنّي لاأرجّح أنّني أوّل من تطرّق لهذا المعنى على الأقل لبساطة الفكرة:   
الآية المذكورة تتحدّث عن الصّلاة حصريّا ومن منظور الصّلاة حصريّا. فليس من معانيها أنّ السّكر محرّم وقت الصّلاة ومباح في الأوقات الأخرى. 
واستنتاج مثل هذا المعنى الأخير ربّما كان يمكن أن يكون له تبرير لو أنّ في الآية «لا تتناولو المسكرات قبل الصّلاة» فعندها يمكن أن يتبادر إلى ذهننا أنّ الآية ترمي إلى حكم تناول المسكّرات قبل الصّلاة، ويمكن حينذاك أن نسمح لأنفسنا باستنتاج أنّ حكم تناول المسكّرات في غير أوقات الصّلاة ربّما يكون مختلفا، ولكنّ الآية تذكر السّكر كحال وليس كفعل وهي لا تُعنى البتّة بحكم تناول المسكّرات ولكنّها تبيّن الأطر المحيطة بالصّلاة من حضور ذهني وطهارة بدنيّة ومعنويّة.
إنّ الاجتهاد والتّفاني في تقصّي معاني القرآن بصفة عامّة يفترض منّا بالتّأكيد الغوص إلى عمق المعاني ولكن دون تحميل النّصّ معنى خارجا عن موضوعه.
إذن أعود وأقول ببساطة وقوّة المنطق هاته الآية حصريّا وقطعيّا لاتُعنى إلاّ بالصّلاة وليس فيها حكم ولا تلميح لحكم يخصّ الخمر. ومسألة النّسخ مسألة تعنى بالأصول فهي تعرض أداة خاطئة للتّفسير فيكون لها صدى وتبعات خطيرة وهي تتداخل مع المعاني البيّنة، فتعتّم وتشوّش عليها وتساهم في انحراف التّفاسير، والأدهى والأمر هو الحصول على آليّة عمياء يمكن أن تدّعي نسخ أيّ آية قرآنيّة يعيّنها البعض وهو التّحريف بعينه، وهذا ما يفعله المتطرّفون التّكفيريّون الذين «يحذفون» ما يخطر لهم من آيات بدعوى أنّها نُسخت. باختصار، ننطلق من اختلاف يبدو بسيطا ونصل إلى انحرافات تساهم أيّما مساهمة في ولادة ونموّ التّطرّف والإرهاب بأبشع أشكاله.