حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الأولى : مقدّمات
 مقدّمة أولى
التّفقّه في الدّين واجب تكافليّ لا مناص لأمّة الإسلام منه. ليس مطلوبا من كلّ مسلم أن يتفقّه في الإسلام، عدا ما هو معلوم منه بالضّرورة. إذ ليس هو بفقه. ولكن مطلوب منه أن يبذل ما يستطيع ليكون عدد المتفقّهين متكافئا مع الحاجات، بمثل ما هو الحال مع التّخصّصات الأخرى من طبّ وسياسة وإعلام وفلاحة وهندسة وغير ذلك. 
التّفقّه في الدّين يحتاج إلى نفير وسعي ونذر وقت وجهد ومال. كمن ينفر إلى تحرير وطن محتلّ أو إلى تأسيس مشروع في أيّ تخصّص. التّفقّه في الدّين ليس غاية في حدّ ذاته، إنّما هو لبثّ العلم الدّينيّ الصّحيح وتوعية النّاس بقيم الإسلام والدّعوة إلى الخير وبيان الحقّ أو الحكمة والصّواب فيما يخترم حياة النّاس. ذلك أنّ إستنباط الأوفق للنّاس مهمّة تحتاج إلى علم. قال سبحانه ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(1). 
رحلة التّفقّه في الدّين تؤهّل النّافر إليها والصّابر عليها إلى حكمة الإستنباط. الإسلام ليس مستوى واحدا في تعليماته. منه المستوى العامّ الذي لا يحتاج إلى فقه أو إستنباط، من مثل توحيد اللّه سبحانه والإيمان باليوم الآخر والإتيان بالعبادات الرّكنيّة العظمى والقيم الأخلاقيّة الكبرى كبرّ الوالدين والإحسان إلى النّاس ونبذ القهر والكبر. ومنه المستوى الخاصّ الذي لا مناص له من علماء أو فقهاء يستنبطون الأوفق للنّاس بحسب حاجاتهم وضروراتهم. إذ أنّ الحياة لا تسير على منوال واحد، بل هي معركة ضارية وساحة إبتلاء واسعة. 
ومن ذا يختلط الخير بالشّر في كثير من دروبها. ولا يتفرّغ كلّ النّاس لمعرفة ذلك، كما لا يتفرّغ كلّهم لعلم الأبدان فيحتاجون إلى أطبّاء. الصّحابة أنفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من العلم والفقه والحكمة، بما فيهم أولئك الذين كانوا يلازمون النبيّ محمّدا ﷺ في الصّبح والعشيّ. ومن ذا بنى سبحانه كونه وخلقه وإجتماع النّاس على أسّ التنوّع وقانون الإختلاف وناموس التعدّد ليكون بعضهم لبعض سخريّا وخدما وليتفرّغ كلّ واحد منهم إلى ما تسنّى له، ومن ثمّ يكون التّكامل.
مقدّمة ثانية
الإسلام دين مركّب على معنى أنّه يجمع بين الدّين والدنيا، وبين الدّنيا والآخرة، وبين الإنسان فردا وأسرة وجماعة، وبين الرّوح والجسم، وبين التّاريخ والحاضر، وبين الظّاهر والباطن، والشّكل والمقصد. هو دين مركّب على معنى أنّه دين موضوعيّ جامع لا يهمل جانبا ولا يورّم آخر أو يجعله ضامرا. وما كان كذلك إلاّ لأنّه يعالج واقعا هو بدوره مركّب على معنى أنّه يخترمه الضّعف والقوّة، والقلّة والكثرة، والضّيق والسّعة، واليسر والعسر، والخوف والأمن. ولا تستوي الحياة على نظم وتريّ واحد، بل هي مثل قطعة موسيقيّة تغشاها أصوات كثيرة. 
ولمّا كان الإسلام المركّب يعالج واقعا مركّبا مثله فإنّه لا مناص من آلة العلاج (العقل) أن تكون مركّبة كذلك حتّى تنسجم الصناعة التّحريرية وتفضي إلى مآلاتها. ومن ذا كان العقل الإنسانيّ ذاته كائنا مركّبا على معنى أنّه يجمع بين الفطرة والتّجربة، وبين الميراث والكسب، وبين التأهّل لإستقبال علم الغيب وعلم الشّهادة، وبين القابلية للإرتكاس إلى البهيمية والإرتقاء إلى التّألّق والتّحضّر. ومن ذا فإنّ القيم الثّلاث التي تصنع الحياة وتفعل التّغيير (الإسلام والعقل والواقع) ما كان ينبغي لها إلاّ أن تكون مركّبة لتتجانس ولا تتنافر.
مقدّمة ثالثة
صناعة الحكمة في الحياة الإسلاميّة هي حصيلة تفاعليّة بين الإسلام بنصوصه وتعليماته وتوجيهاته بحسبانها الحقّ المطلق (فهي الشّريعة) وبين المقاصد والغايات والحكم التي تدور مع تلك النّصوص والتّعليمات دورانا عجيبا، فلا يتصوّر وجود هذه بدون تلك وبين المحالّ الواقعيّة التي يمكن أن تكون محطّات لإستقبال ثمرات تلك الصّناعة. تلك هي المراحل الثّلاث لتلك الصّناعة التي تشبه الصّناعة المادّية التي يقترفها النّجار ـ مثلا ـ إذ تقع عينه على قطعة خشب كانت ستأوي إلى النّار حطبا فيلتقط منها في خياله صورة جميلة لمنضدة أو عرش، ثمّ يبدأ عمله. وما هي إلاّ سويعات معدودات حتّى تستحيل قطعة الخشب مصنوعا جميلا يتنافس النّاس في بذل السّعر فيه. فلا نصوص الشّريعة وحدها كافية لصناعة تديّن حيّ إيجابيّ، ولا مقاصدها منزوعة من نصوصها، ولا المحالّ الخاوية. إنّما تحيا النّفوس وتزدان الأرض عدلا بإجتماع تلك المركّبات الثّلاثة وإلتآم شملها، مثل النّبات والشّجر : لا يؤتي أكله الغضّ الطّريّ إلاّ من بعد نزول ماء ووقوعه على أرض تحتضن ذلك النّبات والشّجر. 
الحياة القيمية في ظلّ الإسلام شبيهة بالحياة المادّية من حيث قيامها على فكرة التّراكب والجماع وإنتظام الحلقات. وليس على فكرة الأحادية والتّجزئة وإكتظاظ الأشياء أو الأمور بلا ناظم معقول.
مقدمة رابعة
أحكام الإسلام مفهومة معقولة معلّلة مقصّدة تحمل معانيها في أرحامها وتغشى مغازيها أحشاءها غشيانا عجيبا. ومن ذا كان الإسلام دين العقلاء الذين لا يتديّنون به طاعة للّه ورسوله ﷺ فحسب. إنّما متعة عقليّة ولذّة ذهنيّة مع ذلك. ولذلك يقدّم المقاومون على الموت وبذل النّفائس من كلّ شيء. ولو لم يفقهوا أنّ هذا العمل الذي يراه النّاس مغامرة غير مأمونة العواقب يحمل في فؤاده حكمة غالية عظمى لما أقدموا على ذلك. 
تتفاوت دسمات المعقولية في مستويات الإسلام إذ ليست كلّها على صورة واحدة. ولكنّها لا تفارق التّشريع الإسلاميّ في أيّ من جوانبه. تكون تلك الدّسمات المعقولة في الإعتقاديات عامّة غير مفصّلة ولكنّها حقيقية واضحة. حتّى صدع بها الفقيه الثّائر إبن حزم فقال : «لا يقبل إيمان المقلّد». وقبل ذلك جاء القرآن الكريم يعرض علينا مسيرة خليل الرّحمان إبراهيم عليه السّلام من الشكّ إلى اليقين. وما كان ذلك كذلك وبذلك التوسّع فيها إلاّ ليعلّم النّاس أنّ الإعتقاد كسب إنسانيّ في جزء منه. ومشيئة اللّه سبحانه فوق كلّ ذلك. فهو الذي يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. كما تكون تلك الدّسمات المعقولة في التّعبّديات بمثل ذلك أي عامّة غير مفصّلة ولكنّها حقيقية جليّة. ألم يقل سبحانه عن الصّلاة أنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ وعن الزّكاة أنّها وسيلة تطهير وتزكية؟ وعن الصّوم أنّه طريق إلى الشّكران؟ وعن الحجّ أنّه لشهود منافع دنيويّة وأخرويّة؟ لا شيء يندّ إذن عن النّكهة المعقولة في الإسلام حتّى لو كانت العقائد ذاتها، وهي غيبية المصدر ولكنّها معقولة الحكمة أو العبادات. وما ندّ عنّا هنا في تفاصيل العبادات (عدد الرّكعات مثلا أو وجهة الطّواف وغير ذلك) إنّما معقوليته في الإيمان بالغيب والطّاعة بالغيب. وأكرم بهما من مقاصد عظمى وحكم كبرى. 
أمّا الأعمال (خارج دائرة الحقول الإعتقاديّة والتعبّديّة) وهي الدّائرة الكبرى والأوسع في الحياة، فإنّما شيّدت على أساس واحد عبّر عنه الأصوليّون بهذه القاعدة العظمى : يدور الحكم مع علّته وجودا وعدما. فلا وجود لحكم عمليّ شرعيّ في الإسلام إلاّ وهو مقرون بحكمته قرن النّفس بالجسم. فلا يوجد هذا إلاّ بذاك ولا ذاك إلاّ بهذا. 
بهذا الفقه الدّقيق للمنظومة الإسلاميّة في بنيتها التّشريعيّة سار عمل الصّحابة من بعد وفاته ﷺ. فكان للفاروق فيهم نصيب الأسد في معالجة الحياة السّياسيّة والماليّة والعلاقات الخارجيّة والدّستوريّة الإداريّة بمقاصد الإسلام وحكم شريعته. ثمّ قيّض اللّه للأمّة من بعده رجالا من مثل إبي حنيفة ومالك. ثمّ جاء الدّور على طائفة أخرى منهم الجوينيّ والقرافيّ والغزاليّ والعزّ وإبن تيمية وإبن القيمّ. ثمّ إنتهى الأمر إلى الشّاطبيّ ثمّ إلى إبن عاشور وعلاّل الفاسي ثمّ إلى الريسونيّ والنّجار والقرضاويّ. 
هي قافلة طويلة أصلها ضارب في التّعليم الإسلاميّ ذاته من كتاب وسنّة وفرعها مفتوح لكلّ آنس في نفسه ملكة الفهم أو الإستنباط على أساس موضوعيّ لا موضعيّ ومقاصديّ لا وسائليّ وجامع لا جزئيّ وإستصلاحيّ لا تنكيليّ
مقدّمة خامسة
ممّا يخطئ فيه كثير من المتأخّرين هنا هو أنّهم يضعون الحكمة (المقصد أو المصلحة بحسب إختلاف التّعابير) في مقابل النّص. هذا الأمر شوّش على كثير من الأذهان التي إنتحلت العلمانيّة طريقا داخل الدّائرة الإسلاميّة ذاتها ظنّا منهم أنّ المقصد والنّص في حالة تقابل وليس تكامل. هذا خطأ شنيع وبيّن، ذلك أنّ الحديث عن المقصد أو الحكمة إنّما هو حديث عن نصّ أو تعليم أو توجيه (بأيّ صيغة تشريعيّة كان) هو أصل ذلك النّظر المقاصديّ الإستصلاحيّ. أمّا فصل النّص عن مقصده أو الدليل الجزئيّ عن حكمته فهو عبث معبوث. شريعة الإسلام جامعة موضوعيّة تتميّز مركّباتها (نصّ ومقصد ومآل) ولكنّها لا تختصم. ربّما تكون بعض ردّات الفعل من هذا القبيل ناشئة عن عقم العقل السّلفيّ المعاصر الذي إستبعد الأبعاد الإستصلاحيّـة، فجاء بفجاجة سقيمة سمّاها فقها. ولكنّ العقلاء لا يعالجون السّوء بسوء مثله، والحقّ أحقّ أن يتّبع. إنّما يكون المقصد (أو الحكمة والمصلحة) في مقابل الوسيلة. وليس في مقابل النّـص. الوسائـل التي وردت في الوحي بشقّيـه (القرآن والسنّة) هي محـلّ التغيير والتحـوّل.
مقدّمة أخيرة
ربّما يثور السّـؤال : وأيّ حاجة لإستنطاق النّصوص والتّعاليـم وإستكشاف عللهـا ومقاصدهـا وحكمها؟ السّؤال مشروع، ولا جواب عليه سوى أنّ النّصوص متناهية كما قالوا في القديم ولكنّ الأحداث غير متناهية. ومن ذا فإنّ التّنقيب عن الحكمة يغني عن تشريع جديد أوصدت أبوابه بعد نبوءة محمّد ﷺ كما يغني عن القول بالهوى ويحقّق صلاحيّة الشّريعة لكلّ زمان ولكلّ مكان ولكلّ إنسان ولكلّ حالة. 
وقبل ذلك وبعده فإنّ تلك الأبعاد المقاصديّة تثري الشّريعة وتجعلها شريعة مفهومة معقولة تغري العقول بها وتدفعها إلى البحث والعلم والمعرفة والدّراسة، وهو لعمري تكريم للعقل الإنسانيّ في آخر رسالة إلهيّة إليه. 
الحاجة إلى المقاصديّة تكمن كذلك في الفيئة إلى أيلولة تنفيذ إلى مرادات ذلك النّص نفسه. إذ لو عدم النّظر المقاصديّ، فإنّ تنزيل الأحكام قد لا يحقّق ما يريده اللّه منها. ومن ذا يعبث بالشّريعة بدعوى (تطبيقها) وقديما قال المناطقة : «أعمال العقلاء مصونة عن العبث». 
كما تكمن تلك الحاجة في مواجهة الطّارئات ومقاومة الحاجات والضّرورات والإستثناءات التي لا تنفكّ عنّا وعن حياتنا بما يليق بالإنسان في ظلّ شريعة عنوانها الرّحمة لا التّنكيل والعدل لا القهر والحكمة لا التّقليد.