ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة الأولى: سفر التّكوين
  إنّ حديث النّفس في القرآن الكريم حديث طويل عجيب. ومن الواضح أنّ النّفس ليست من المعطيات الهيّنة. أمّا على المستوى المعرفي فهي ليست من المعقولات والمفاهيم السّهلة. إنّها على المستوى المعرفي كما على المستوى الوجودي من الموجودات الجامحة الطّامحة المهتزّة المرتجّة التي تكشف في كلّ لحظة وحين عن نبإ عجيب وحديث أغرب من الغريب. إنّ النّفس والإنسان يندمجان ويتخالطان  ويتخاصمان ويتعارفان ويتباعدان. وقد يصدق أن تقول إنّ هذا الإنسان هو نفسه، كما يصدق أن نقول إنّ هذا الإنسان الآخر عدوّ نفسه.  فما هي النّفس حينئذ ؟
يقول اللّه تعالى :﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(1). في لحظة غيبيّة من غيب اللّه الكبير الذي لا يعلمه إلاّ هو، خلق اللّه تعالى أنفسنا نحن البشر ولم يشهدنا هذا الخلق ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾(2). وقد يكون هذا الخلق متزامنا مع خلق السّماوات والأرض،وقد يكون بعده. إنّ هذه المعلومات تدخل ضمن كهف الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى.
فقد أخذ اللّه الذّريّة وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم؟ وهؤلاء الذّريّة هم النّاس (الخلق)، وهم بعد مطويّون في غيب اللّه لم يزاولوا حياة الابتلاء فوق ظهر الأرض. فالإنسان أصلا ذرّة قابلة للطّي والنّشر، حيث كان مطويّا في ظهور آبائه واحدا فواحدا، ثمّ بعد مدّة وفي زمن محدود معدود ينشر فيظهر. ففيمَ يظهر؟ إذا كان الإنسان في مرحلة من حياته مطويّا في ظهور آبائه، فإنّ وجوده حينئذ يكون محضا أي أنّه هو هو بدون أي اعتبار آخر، أمّا فوق الأرض فإنّه يظهر بنفس. وهنا قد تبدأ معلوماتنا عن النّفس ومعانيها وحقائقها من خلال القرآن الكريم. 
وقد يكون معنى الكلام أنّه تعالى أخذ الإنسان في محض ذاته وأشهده على نفسه (وهي وجسده الذي سوف يلبسه)، ألست بربك. فشهد الإنسان حينئذ أنّ اللّه ربّه، وأنّه لا يماري في هذه الحقيقة ولا يكذّبها. وقد فعل اللّه تعالى هذا، واستخلص هذه الشّهادة من الإنسان على نفسه قبل أن يقارفها مقارفة فعليّة لكي يعطيه السّيادة عليها بالشّهادة عليها. فالإنسان عندما كان مفصولا عن جسده (كونه الطّيني التّرابي )، لم يكن يرى حرجا البتّة في الاعتراف الحقيقي المطلق والكامل باللّه الحقّ الذي يراه ولا ينكره. وكذلك قال ذريّة بني آدم بلى لمّا أشهدهم على أنفسهم أنْ «بلى» وهي الاعتراف بألوهيّة اللّه تعالى وربوبيّته اعترافا كاملا واضحا، وهي فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها لمّا شق ظهور آبائهم وأخرجهم منها لكي يشهدوا أنّه ربّهم الواحد لا إله إلاّ هو.
جاء في لسان العرب: «فطر الشّيء يفطره فطرا فانفطر وفطره: شقّه، وتفطّر الشّيء: تشقّق والفطر: الشّقّ (...) وأصل الفطر : الشّقّ ومنه قوله تعالى إذا السّماء انفطرت.. وفطر اللّه الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم. والفطرة: الابتداء والاختراع. وفي التنزيل العزيز : الحمد للّه فاطر السّماوات والأرض، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: ما كنت أدري ما فاطر السّماوات والأرض حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأت حفرها (...) والفِطرة بالكسر الخلقة (...) والفطرة : ما فطر اللّه عليه الخلق من المعرفة، وقد فطره يفطُره، بالضمّ فطرا أي خلقه (...). 
وقال أبو الهيثم : الفطرة الخلقة التي يخلق عليها المولود في بطن أمّه، قال وقوله تعالى : الذي فطرني فإنّه سيهدين، أي خلقني، وكذلك قوله تعالى : ومالي لا أعبد الذي فطرني. قال وقول النّبي ﷺ : كلّ مولود يولد على الفطرة ، يعني الخلقة التي فطر عليها في الرّحم من سعادة أو شقاوة(...) قال إسحاق: ومعنى قول النبي ﷺ، على ما فسّر أبو هريرة حين قرأ: فطرة اللّه، وقوله: لا تبديل يقول : لتلك الخلقة التي خلقهم عليها إمّا لجنّة أو لنار حين أخرج من صلب آدم كلّ ذريّة هو خالقها إلى يوم القيامة ، فقال هؤلاء للجنّة وهؤلاء للنّار(...)
قال أبو منصور : والذي قاله إسحاق هو القول الصّحيح الذي دلّ عليه الكتاب ثمّ السّنّة. وقول أبي إسحاق في قول اللّه عزّ وجلّ: «فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها»: منصوب بمعنى اتبع الدّين القيم، اتبع فطرة اللّه أي خلقة اللّه التي خلق عليها البشر قال: وقول النبي ﷺ : «كل مولود يولد على الفطرة»، معناه أنّ اللّه فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث: إنّ اللّه أخرج من صلب آدم ذريّته كالذرّ  وأشهدهم على أنفسهم بأنّه خالقهم، وهو قوله تعالى : «وإذ أخذ ربّك من بني آدم»...إلى قوله: «قالوا بلى شهدنا»، قال وكلّ مولود هو من تلك الذّريّة التي شهدت بأنّ اللّه خالقها، فمعنى فطرة اللّه أي دين اللّه الذي فطر النّاس عليه.
قال الأزهري والقول ما قال إسحاق بن إبراهيم في تفسير الآية ومعنى الحديث، قال: والصّحيح في قوله : فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها، اعلمْ فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها من الشّقاء والسّعادة، والدليل على ذلك قوله تعالى:«لا تبديل لخلق الله»، أي لا تبديل لما خلقهم له من جنّة أو نار. ابن الأثير في قوله كلّ مولود يولد على الفطرة، قال الفطر: الابتداء والاختراع ، والفطرة منه الحالة كالجلسة والرِّكْبة، والمعنى أنّه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدّين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنّما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتّقليد. ثمّ مثّل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم على مقتضى الفطرة السّليمة ، وقيل: معناه كلّ مولود يولد على معرفة اللّه تعالى والإقرار به فلا تجد أحدا إلاّ وهو يقرّ بأن له صانعا وإن سماه بغير اسمه، ولو عبد معه غيره(...) وفي الحديث: عشر من الفطرة ، أي في السّنة يعني سنن الأنبياء، عليهم الصّلاة والسّلام التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها»(3).
ففطرة الإنسان حسبما نرجح هي الإيمان، رغم أنّ بعض من ذكرهم ابن منظور يذهبون إلى أنّها ما خلق له الإنسان من خير أو شرّ. وقولنا إنّها الإيمان خاصّة أخذناه من قوله تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا* فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا* لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ* ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(4). فقوله «أقم وجهك للدّين حنيفا» واضح في الدّلالة على أنّ الفطرة هي هذا الدّين الحنيف، وهو دين إبراهيم ودين الإسلام.  وهذا الدّين الحنيف هو فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها والتي لا تتبدّل «لا تبديل لخلق اللّه». فالدّين القيّم هو الدّين الذي يصل الإنسان عبر سلوك مسالكه وإقامة وجهه له إلى إظهار فطرته وهي ذاته العميقة المتمثّلة في تلك الذّرّة منه والتي قالت «بلى شهدنا» بدون مواربة وبدون تلجلج. وهذه الذّات العميقة هي الإنسان من حيث هو روح اللّه تعالى الذي نفخه في الجسد. هذا الرّوح من معدن إلهي خالص لا مراء فيه ولا خلاف، وهو لا يَعرف له أصلا ولا نسبا إلاّ إلى ربّه، فإذا ما أشهد فإنّه يشهد أن اللّه ربّه، بل إنّ معلومته الشّفريّة الوحيدة هي كلمة لا إله إلا اللّه، وهي أعمق رسالة شفريّة توجد في باطن الإنسان وآخر غيب هذا المخلوق. 
فآخر غيب الإنسان باب يفتح على اللّه تعالى، وبيت موحّد يذكر فيه اسم اللّه تعالى فقط لا سواه. إنّ روح اللّه لا يمكن أن ينكر ربّه وأصله ومعدنه على الإطلاق، وهو على التّحقيق الإنسان العميق والإنسان الكامل الذي سعى كثير من البشر عبر التّاريخ الإنساني إلى اكتشافه ومعرفته.
فالرّوح الإنساني ذرّة واحدة موحّدة بسيطة لا تركيب فيها، وهو لا ينتسب لشيء ولا يزيد ولا ينقص ولا يتبدّل ولا يتغيّر، وهو على ما هو عليه من لحظة نفخه في الجسد الإنساني إلى لحظة ظهوره في الجسد إلى لحظة فناء الجسد إلى لحظة البعث. إنّه من معدن إلهي ثابت واحد أزلي أبدي حقّ لا يعرف الاعتبارات ولا التلوّنات ولا كلّ التّعليمات. وهو يعرف ربّه مباشرة وبدون طريق وتعليم وتربية. وباختصار، إنّه رسالة فيها كلمة واحدة «لا إله إلاّ اللّه». وهو دقيق في الحجم والمقدار لا تطاله اعتبارات الكمّ والزّمان والمكان والكثافة، ولذلك فهو على الرّاجح نور لا وزن له ولا شكل، ولا يمكن التقاطه إلاّ من قبل سره وأصله وجاذبه الأوحد الأحد أعني اللّه الفرد الواحد الصّمد تعالى اللّه وتقدّس وتنزه. 
هذا الرّوح هو الإنسان عبد اللّه المكرّم المستخلف الموعود بالجنّة. ووجوده على ما هو عليه دليل على أنّ جوهر الوجود الإنساني شهادة، وعلى أنّ أعمق الكلام في ذات الإنسان أنّه كائن شاهد وشهيد. شاهد على أنّ اللّه واحد. وأنّ رسالة الإنسان في جوهرها هي رسالة الوحدانيّة والتّوحيد، وأنّ بلوى الإنسان في جوهرها ابتلاؤه بإمكان الكفر والشّرك والنّفاق. وأنّ الإنسان لم يضيع شيئا إذا شهد، وضيّع كل شيء إذا لم يشهد. لمّا أشهد اللّه الأرواح (الذريّة) على أنفسهم قالوا بلى شهدنا بدون لبس ولا تردّد ولا مواربة. فعلام أشهدهم على أنفسهم؟  لقد أشهدهم  على أنفسهم ألست بربكم؟ 
تلك هي حقيقة الرّسالة حينئذ، وذلك هو جوهر المطلوب، وهذا هو سبب وجودنا فوق الأرض نعاني ونكابد ونشقى ونسعد. فالشّهادة المطلوبة ليست للإنسان ولا لسواه من الخلق، إنّها للّه: ألست بربكم؟ ليس وجود الإنسان من أجل أن يثبت ذاته، ولا من أجل أن يعترف بغيره؛ إنّه وجود من أجل الاعتراف بشيء واحد : أنّ اللّه واحد ربّ الإنسان، وأنّه لا ربّ للإنسان سوى اللّه تعالى.
وهنا، نحن أمام آخر وأصل حقائق الوجوديّة الإيمانيّة التي تقوم على الشّهادة والاعتراف باللّه الواحد الأحد. هاته الشّهادة التي إذا تمّت نتج عنها حضور الإنسان وظهوره بكلّ معانيه وأبعاده، ونتج عنها استحقاقه الانضمام إلى الوجود المطلق الكلّي الذي لا عدم يعروه.
فالله هو باب الإنسان إلى ذاته، وعلى الأصحّ فاللّه هو تأويل الإنسان ومنتهاه. فإذا وصل الإنسان إلى ربّه وصل إلى كلّ شيء، وصل إلى آخر معانيه وحقائقه(عبوديّته المحضة)، ووصل إلى أقصى سعادته (الجنّة): ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(5).
إنّ مسار الإنسان مفصولا عن اللّه هو العدم نفسه، يتخيّل أنّه موجود وما هو كذلك، وهو الوجود الإسمي الباطل من أساسه، وهو العوض الشّيطاني الفاسد الذي يعوّض أولياءه عدما (أسماء)، مقابل الوجود الحقّ الذي لا يتبدّل. لذلك لا يلبث أولياء الشّيطان في ضلال مبين، ولا يفتؤون يبحثون عن المعنى حيث لا معنى أصلا، ولا تزال الأسماء تغريهم و«المعابد» تتخايل أمام أعينهم، وكلّما اتجهوا إلى صنم ازدادوا فراغا وشعورا بالهوان والغبن حتّى يقضوا بدون طائل ولا فائدة. إنّها المأساة أن يحيا الإنسان مفصولا عن اللّه، وأن يتصوّر أنّ له وجودا منفصلا عن اللّه. فمن اتجه إلى اللّه، وشهد أن لا إله إلاّ اللّه بكلّ الطّاقة وبكلّ الوسع وبكلّ الإمكان، كان من أهل اللّه ومن أهل الوجود الحقّ الذي لا يتبدّل. ومن بقي يتأمّل نفسه في محض الفراغ، فإنّه لا يجد إلاّ العدم وكلّ ما عدا اللّه فراغ وإن ظنّناه وجودا. وقد نشأت الشّبهة أصلا عن الأسماء. فلمّا ظهرت الأسماء واستقلّت عن المسمّيات والتبست بها دخلت الشّبهة العلم، وأصبح صاحب الأسماء يتصوّر نفسه على علم وما هو كذلك، لأنّ علم الأسماء هو علم الوهم، والعلم الحقّ هو علم المسمَّيات أو العلم بالمسمّيات. أمّا الأسماء في ذاتها فأوهام لا تدلّ على شيء، ولا تهدي إلاّ إلى الباطل، وأمر صدقها موكول إلى من يقوم عليها حفيظا وكيلا. ألم تر إلى الشّيطان لمّا قام على الأسماء أفسد نظامها وجعلها فخّا للإنسان؟ ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾(6)، فأغراهما بالوجود الملكي وبالخلود من خلال الاسم. أمّا الحقيقة فهو لا يقدر على التّصرّف في أكثر من الإسم. وهذه نقطة ضعف الشّيطان الرّئيسيّة: أنّ حدوده حدود الأسماء، أمّا الوجود الفعلي فلا نصيب له فيه بحال. فمن رفع عنه حجاب الأسماء،فقد رفع عنه حجاب الشّيطان. ولا يرفع حجاب الأسماء إلاّ بظهور المسمّى وتجلّي الوجود المباشر بدون خطاب، وهو التّوحيد الخالص. أشهده اللّه على نفسه فشهد.
الهوامش
(1) سورة الأعراف: 172 - 174 
(2)  سورة الكهف: 51
(3) ابن منظور، لسان العرب ، بيروت ، دار صادر، مجلد 5، مادة فطر، ص ص : 55 _ 58_ 
(4) سورة الروم - الآية 30