بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة الأولى: مقدّمة
إذا دار المعنى اللّغوي حول مادّتيْ «سَفَرَ» و»فَسَرَ» حول إزالة اللّبس والخفاء والكشف والبيان، فإنّ المعنى الاصطلاحي الّذي استقرّ في الأذهان هو علم يُفهم به كتاب اللّه المنزّل وبيان معانيه واستخراج أحكامه واستمداد ذلك من علم اللّغة والنّحو والتّصريف والبيان وأصول الفقه والقراءات. وهو علم يحتاج إلى معرفة أسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ، بغض النّظر عما علق بهذيْن المدخليْن من أفهام وما حام حولهما من مرويّات. وقد اُختلف في ضبط العلاقة بين التّفسير والتّأويل هل هما مترادفان أم متطابقان في المعنى أم أنّ التّفسير عليق بالمفردات والتّأويل بالنّص، وهل أنّ التّفسير يكون قاطعا والتّأويل مكتفيا بالتّرجيح اعتبارا أنّ لهذا النّص ظاهرا وباطنا. والمهمّ من كلّ ذلك هو ملاحظة أنّ الفعل التّفسيري يخرج من محض المعرفة إلى المجادلة الّتي يغذّيها التّنافي المذهبي. فمن المذاهب مجسّد ومنزه وقائم على الحرف ملتزم به، ومتجاوز لذلك آخذ بالمجاز. وكلّها طرائق ترغب في الظّفر بمراد اللّه الجاري في الخطاب القرآني.
 وليس خافيا على ذي لبّ أنّ مراد اللّه لا يدركه إلاّ اللّه ذاته، وعليه يظلّ عزيزا متفلّتا على المفسّر. بالإضافة إلى أنّ ورود عبارة المراد الإلهي على صيغة الإفراد يضيّق واسعا ويطبع الوعي الدّيني بالاكتفاء بالمعنى الواحد. وتتعمّق هذه الواحديّة من خلال ربطها بوحدانيّة صاحب الخطاب. وتدريجيّا ترسّخ هذا المعنى الّذي توصّل إليه المفسّرون عبر التّاريخ فاكتسب صفتيْ الشّموليّة والإطلاقيّة. وفرَضيّة هذا البحث تدور حول محاورة تخليص  النّصّ القرآني من ظلّ علاقته بمؤلفه إلى فضاء علاقته بقارئه. وتخليصها من الارتهان إلى المذهب والعمل على إبراز الكفايات اللّغوية الحاملة لأكثر من دلالة واعتبار أنّ الفهم النّسبي هو المرشّح لتعويض فلسفة المعنى الكلّي. 
تلك هي الرّحلة الّتي نروم قطعها متوسّلين بالمنهج المُقارني، مُنطلقين من عوالم التّفسير، الّتي يكاد الدّارس لا يظفر فيها باتّفاق واحد حول ظاهرة تفسيريّة واحدة، لا من حيث النّوع ولا من حيث العدد إلاّ بشقّ النّفس، وصولا إلى عوالم التّفكير الّتي عمادها التّواضع العلمي بالتّركيز على مراد القارئ حسب مقتضيات النّصّ بدلا من الجري وراء مراد اللّه. وبالاكتفاء بقضيّة واحدة يتمّ التّركيز عليها تأكيدا أنّ فعل التّفسير في صورته التّقليديّة المتجشّم لتناول السّور كافة بالشّرح والتّوضيح بدءا من الفاتحة وانتهاء بسورة النّاس، ما عاد ممكنا لكثرة المواضيع العلميّة وتشعّبها، ما يعجز المجهود الفردي عن الاضطلاع بها. وقد ورد فعل التّدبر في المصحف في أربعة مواضع مسنَدا إلى الفاعل في صيغة الجمع تنبيها إلى ضرورة تضافر الجهود باختلاف تخصّصاتها . 
ولا يذهبنّ الظّنّ إلى أنّ ثنائية التّفسير والتّفكير هي ثنائيّة متضادّة ينفي حضور أحد طرفيْها الطّرف الآخر. وعندئذ يقدَّم التّفسير على أنّه خال من كلّ تفكير، وأنّ التّفكير في قطيعة مع التّفسير. وإنّما القصد هو أنّ التّفسير قد جرى على سُنن متّبعة كاعتماد أدوات محدّدة كأسباب النّزول، والنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وكلّ العناصر المشكّلة لما  عُرف بعلوم القرآن. وأمّا التّفكير فعموده الانفتاح على المعارف المستجدّة والتّوسّل بالمناهج الحديثة في فهم النّصّ تحقيقا لآفاق أوسع وسعيا للظّفر بأبعاد نظريّة أرحب. وهذه الرّحلة تُحيل على الأسئلة التّالية: هل لهذا النّهج نتائج مغايرة لما توصّل إليها المفسّرون الأوائل؟ وهل تسمح اللّغة وتتسّع آفاقها لإفادة معان غير مألوفة في المدوّنة التّفسيرية؟ وأين تتجلّى الإضافة المعرفيّة النّاجمة عن المناهج الحديثة؟
وفي هذا الإطار نعمد إلى ذكر أحداث قصّة أصحاب الفيل كما وردت في التّاريخ رصدا لأوجه التّشابه بينها وما ورد في التّنزيل، ثمّ نورد القصّة كما جاءت في المدوّنة التّفسيريّة مع مراعاة التدّرج التّاريخي بين المفسّرين كي يسهل على الدّارس ملاحظة ما يطرأ على هيكل القصّة من إضافات وتعزيزات دالّة على الصّناعة القصصيّة في بناء المعنى وبلورته. فقد يشعر اللاّحق بخلّل في منطقيّة الأحداث لدى السّابق فيحاول تلافيه. وقد يضيف تحسينات بغض النّظر عن الدّوافع والمقاصد الّتي قد تلوح من خلال المقول وقد لا تلوح. وما من شكّ في أنّ التّكرار الحاصل لدى المفسرين يدلّ على أنّ للقصّة نواة صُلبة استقرّ عليها الضّمير الدّيني فهضمها وأضحت لديْه من قبيل المسلّمات الرّاسخة الّتي تحوّلت إلى جزء من الدّين ذاته.   
إنّ سورة الفيل قدّمها التّفسير على أنّها أكثر السّور غرابة وإعجازا لذلك طال فيها الكلام وتشعّب القصّ وتزايدت فيها التّفاصيل، ممّا جعلها جامعة لأكثر من رأي في نطاق العنصر الواحد من قبيل تحديد وقوعها وضبط السّبب الدّاعي إليها وشكل العصافير وأحجامها وألوانها وعدد الفيلة المستخدمة فيها. ولمّا كان النّصّ لا يُفهم إلّا على وجه يرتضيه العقل، فإنّ «محمّد عبده» قد هزه ما أفاض فيه المفسّرون من تهويل لا يُرضي العقل حتّى وإن كان هذا التّهويل موظّفا لتمجيد قدرة اللّه وإعلائها. وذهب في تفسير السّورة مذهبا يستجيب لمقتضيات العصر وما أنتجه العقل من كشوف في المجاليْن البيولوجي والطّبي. 
ولمّا كانت المعرفة الإنسانيّة لا تعترف بالجمود غاية ولا بالثّبات نهاية في شتّى مجالاتها، فإنّ ثورة المناهج وتطوّر المعارف اللّغويّة قد فتحا آفاقا جديدة ولاسيّما بربط السّياقات المعنويّة الواردة في الآيات المتفرّقات لإنتاج سياق دلاليّ عامّ يكشف عن معطيات حواها القرآن في ثناياه ممّا حدا بالسّورة عند «محمّد عبده» إلى أن تفضيَ إلى تخوم معنويّة أكثر تدليلا على واقعيّتها ومصداقيّتها، وهي عند الباحث «قصي هاشم فاخر» متعلّقة بقوم لوط الّذين أكثروا الفساد في البلاد فعمّهم اللّه بعذاب أليم. ومقصد هذا الضّرب من الفهم منصبّ على أنّ كلام اللّه كلّما تقدّم به الزّمن إلاّ وتعمّقت صدقيته وبانت حقيقته.
إنّ النّصوص الدّينيّة المقدّسة تستعمل لغة رمزيّة تتكثّف فيها الدّلالة لأنّها تقوم أساسا على ضرب المثل لتوسيع آفاق النّظر والتّخيّل حتّى يجد النّصّ له مصاديق مناسبة في كلّ وجه من وجوه الأعصر المتحوّلة والأمكنة المتغيّرة. ويبدو أنّ سمة الإعجاز الرّاسخة في النّصوص المقدّسة تتمثّل في اتّساع آفاق هذه النّصوص وهو ما يجعلها منسجمة مع الكشوف العلميّة على اختلاف مجالاتها.
ولعلّ البدء بعرض المنطلقات التّاريخيّة، كما وردت في الكتب، من شأنه أن يوسّع الرّؤية إزاء قصّة الفيل وأصحابه، إذ يجد الدّارس لهذه القصّة جذورا في بعض الثّقافات السّابقة على تنزيل القرآن وبعض الحضارات المتقدّمة عليه في التّاريخ. 
وهذا ما سنتعرّض إليه في الحلقة القادمة إن شاء اللّه...