شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
المجاهد محمد الدغباجي
 قبل 98 سنة، وفي صبيحة غرّة مارس 1924، اجتمع حشد كبير من سكّان الحامّة في ساحة سوق البلدة ينتظرون قدوم البطل ليزفّوه شهيدا للوطن. اقتاده الجنود مكبّل اليدين واتجهوا به نحو المنصّة، خيّم السّكون على المكان، تقدّم الضّابط الفرنسي نحو السّجين ذي الأربعين سنة بعاصبة ليضعها على عينيه لكنّه رفضها بشدّة متوجّها بكلمات ثابتة نحو زوجة أبيه التي كانت بمثابة أمّه قائلا:«لا تخشي عليّ يا أمّي، فإنّي لا أخاف رصاص الأعداء، ولا أجزع من الموت في سبيل عزّة وطني..اللّه أكبر وللّه الحمد..»  كلمات نزلت كالصّاعقة على آذان الجنود الذي اصطفّوا ليمطروا جسده بالرّصاص، لكنّها كانت بردا وسلاما على الحاضرين، زغردت زوجة الأب لمشهد موت السّجين وهو يكبّر وهتفت عاليا، مباركة شجاعته والشّرف الذي نالها منه. إنّه الشّهيد البطل «محمد الدغباجي» أحد زعماء المقاومة الباسلة التي أَقَضَّت مضجع الاستعمار الفرنسي في تونس والاستعمار الإيطالي في ليبيا. 
هو محمد بن صالح الزغباني الخريجي من بني يزيد، أمّا الدغباجي فهي كنية خاصّة به لا بأسرته. ولد الثّائر التّونسي الشّهير وبطل الجنوب في العام 1302 هجريا (1885ميلاديا) بوادي الزّيتون الواقع على مسافة 30 كم من بلدة الحامّة من ولاية قابس. نشأ «الدغباجي» في وسط بدوي فتمرّس بمصاعب الحياة. وتعوّد على احتمال المكاره وما تقتضيه البداوة من شظف عيش وتجلّد واحتمال للمكاره، وعُرف منذ صغره بكرهه وحقده على المستعمر شأنه شأن الكثيرين من أبناء تونس، فرفض الخنوع والخضوع للسّياسة الاستعماريّة الفرنسيّة.
ولمّا بلغ سنّ الثّانية والعشرين تمّ تجنيده(1907)، فقضى بالجنديّة الاستعماريّة ثلاث سنوات عاد إثرها الى موطنه حيث تزوّج ثمّ أجبرته الحاجة والحرمان على العودة بعد ثلاثة أعوام إلى ثكنات الجيش للعمل كمتطوّع. لم يكن الدّغباجي مرتاح البال وهو يحمل بندقيته ليدافع عن العلم الفرنسي خاصّة مع وصول أنباء عن نضالات الثّوار اللّيبييّن ومواقفهم البطوليّة في وجه المستعمر الإيطالي. أنباء أثارت في الدّغباجي الحميّة وأشعرته بالنّخوة وأجّجت فيه مشاعر العداوة للمستعمر. فقام بالفرار في سبتمبر 1915 إلى ليبيا صحبة خمسة من رفاقه، مستغلّا تواجده ضمن الجيش الفرنسيّ قرب الحدود التّونسية اللّيبيّة ليلتحق بصفوف المقاومة بقيادة البطل اللّيبي خليفة النالوتي ويقاتل إلى جانبه في وقائع ضدّ الطّليان حينا وضدّ الفرنسيين حينا آخر. وعلى إثر دخول الثّوار اللّيبيين مرحلة الهدنة مع الاستعمار الايطالي سنة 1919، قرّر الدغباجي العودة إلى موطنه بمنطقة بني زيد ليواصل كفاحه ضدّ المستعمر الفرنسي ويرسم ملحمة تاريخيّة لبطل فذّ أقلق المستعمر وكبّده خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد لا تحصى ولا تعدّ.
لم يكن الدّغباجي مخطّطا سياسيّا ولا منظّرا أو مستهديا بنظريّة ثوريّة، يحسب للمعارك كلّ حسابها. كان ثائرا ومثالا للفدائي الذّائد عن العزّة والكرامة. خاض خلال الفترة ما بين  1919 و1924 معارك عديدة في الجنوب التّونسي تحدّى فيها قوّة الاستعمار أهمّها معركة «خنقة عيشة»، و«المحفورة»، وواقعة «المغذية» من ولاية صفاقس، وواقعة «الجلبانيّة».
كان يعبّئ رفاقه في الجهاد بروح المقاومة وحبّ الوطن ببعده المغاربي الكبير، ولعلّ ما جاء في رسالته لأحد العملاء الذي أراد استدراجه وتسليمه للمستعمر لدليل قاطع عن هذا الإيمان القويّ حيث جاء فيها:«أنتم تطلبون منّا الرّجوع إلى ديارنا لكن ألسنا في ديارنا؟ إنّه لم يطردنا منها أحد، فحركتنا تمتدّ من فاس إلى مصراتة وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا.. ونقسم على أنّنا لو لم نكن ننتظر ساعة الخلاص لأحرقنا كلّ شيء، والسّلام من كلّ جنود الجهاد».
تمت محاكمة الدّغباجي غيابيّا في 18 شعبان من عام 1339 هـ الموافق ليوم 27 أفريل1921م وقُضي بإعدامه مع جمع من رفاقه، الذين التحقوا بالتّراب اللّيبي، ولكنّ الطّليان لم يتأخّروا في القبض عليهم وتسليمهم لسلطات الاستعمار الفرنسي.
هذا هو محمد الدغباجي أحد أبرز المناضلين وشهيد الحركة الوطنيّة التّونسيّة إبّان الاستعمار الفرنسي، جسّد وحدة المغرب العربي من خلال مقوامته للمستعمر في تونس وليبيا ورفض الاستسلام للعدوّ حتّى وافاه أجله، ليغادر وطنه شهيدا من أجل الحرية والانعتاق. ورغم سنوات نضاله التي بلغت 11 سنة كاملة كان يقاوم فيها المستعمر بشراسة لا مثيل لها ورغم بطولاته، فقد  تعمّد النّظام «البورقيبي» ومن بعده «النّوفمبري» تغييب هذا البطل عن تاريخ الحركة الوطنيّة وتشويه تاريخه النّضالي، لكنّ الضّمير الشّعبي بقي يتذكّر الدّغباجي ويتداول بطولاته مشافهة وعبر الشّعر الشّعبي، خاصّة من خلال أغنية «الخمسة اللّي لحقوا بالجرّة وملك الموت يراجي، لحقوا مولى العركة المرّة المشهور الدّغباجي»...
رحل الإستعمار وبقي الدّغباجي شامخا في ذاكرة التّونسيين رمزا للشّجاعة والفداء وملهما للأجيال التي ستبني الوطن اعترافا له ولأمثاله بالجميل واحتراما للمناضلين  والمجاهدين الذين لم يبخلوا بدمائهم من أجل تونس.