حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
وريثة قرطاج نحو إرساء وعي استراتيجي جديد
 كان المقال تحت عنوان «تونس، كيف تكون وريثة قرطاج؟» ولكن بعد تفكير استقر الأمر على العنوان التالي «وريثة قرطاج، نحو إرساء وعي استراتيجي جديد» وذلك لسببين اثنين؛ أحدهما أن العنوان الأول ينطلق من الماضي محاولا العودة إلى المجد القديم وهو ما يشبه الفكر الرّجعي المنتشر لدى فئة واسعة من العامّة، بينما العنوان الثّاني ينطلق من الماضي بفخر واعتزاز محاولا النّظر في المستقبل عبر غرس وعي جديد يمثّل حاجة أساسيّة للدّولة ابتداء وللمجتمع انتهاء.
أمّا السّبب الثّاني فيقتصر البحث في العنوان الأول على سؤال كيف؟ بما هو سؤال يكون مناط بحثه في كيفيّة الوصول إلى الأمور وذلك من خلال النّبش في الوسائل المعتمدة لتحقيق الهدف المنشود. أمّا البحث في العنوان الثّاني فيشمل قسمين هامّين هما سؤال ماهو؟ بما هو سؤال يكون مناط بحثه عن ماهية الشّيء وذلك لفهمه فهما صحيحا والسّؤال الأهم وهو سؤال لماذا؟ بما هو سؤال يبحث في المقاصد والحكمة من الأمر، وهو ما يسهّل النّظر في باقي عناصر البحث.
لن تكون الدّولة التّونسيّة وريثة للحضارة القرطاجيّة بعظمتها وجبروتها وقوّتها إلاّ إذا ما سارت على نهجها وحقّقت عاملين رئيسيين هما؛ الاستقرار السّياسي وذلك من خلال بناء نظام سياسي يضمن تشريك جميع الفئات الفكريّة والسّياسيّة في عمليّة اتخاذ القرار السّياسي من جهة. والاستقرار القانوني وذلك من خلال إرساء منظومة قانونيّة قائمة على قيم العدل وتضمن للجميع (نخبة وعامّة) التّعايش تحت سقف القانون.
تكمن أهمية الموضوع في معرفة ماهية الوعي الاستراتيجي الجديد وذلك من خلال الإطار النظري أو التفكير الاستراتيجي (الجزء الأول) ثم معرفة مقاصد الوعي الاستراتيجي وذلك من خلال الإطار التطبيقي أو التخطيط الاستراتيجي (الجزء الثاني).
الجزء الأول:
الإطار النظري / التفكير الاستراتيجي 
يقوم الإطار النظري أو التفكير الاستراتيجي على مقومات عديدة يمكن إجمالها في نوعين؛ التشخيص السليم (العنصر الأول) وخارطة الطريق (العنصر الثاني). 
العنصر الأول: التشخيص السليم
• الرسالة: (1)
لا يكون التشخيص سليما إلا من خلال معرفة الرسالة التي تصدر من الأوضاع الحالية. والرسالة هي تفاعل العوامل الداخلية للدولة (نقاط القوة + نقاط الضعف) مع العوامل الخارجية للدولة (الفرص المتاحة + التهديدات المتوقعة) وهو ما يساهم في معرفة أهم المحاور التي يمكن للدولة استثمارها سواء نقاط القوة أو الفرص المتاحة. وكذلك المحاور التي يمكن للدولة تطويرها سواء نقاط الضعف أو التهديدات المتوقعة. 
يمكن القول بأن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوطني والإقليمي والدولي هو من بين أهم العوامل التي من شأنها أن تؤثر على الرسالة إما بالإيجاب أو بالسلب وهو ما يدعّم قانون النسبية في جميع الظروف الداخلية أو الخارجية.
•الرؤيا: (2) 
هناك قاعدة في علوم الاستراتيجيات تقول «لا توجد رؤيا دون قاعدة تاريخية». فلو تدبر نخبة الفكر في تونس ذلك لحددوا عديد القواعد التاريخية التي تتوافق مع الشخصية التونسية من ذلك مثلا «عدم قبول الشعب التونسي الضرائب المرتفعة وكنتيجة لعدم القبول تتولد فيه مشاعر الغضب المفجر للثورة» والأمثلة على ذلك عديدة.
يمثل حسن التّشخيص عند الرّسالة نسبة 80% من نجاح الرّؤيا، ولذلك فإنّ التّشخيص الجيّد يساهم في بلورة رؤيا طموحة ومتوافقة مع التّطلّعات التي اتفق عليها أغلب مكوّنات نخبة الإرادة والفكر وذلك من خلال ميثاقين؛ أحدهما سياسي قانوني يتمثّل في الميثاق السّياسي (الدّستور) وثانيهما اقتصادي اجتماعي يتمثّل في الميثاق الاجتماعي (القانون).
العنصر الثاني: خارطة الطريق
• الأهداف (3)  
لتحقيق الرؤية ينبغي التخطيط لمجموعة من الأهداف التي ينبغي تقطيعها إلى أهداف بالاستناد إلى معيار الوقت وهو ما يتمّ تقسيم الأهداف إلى ثلاثة أنواع؛ أهداف قصيرة المدى (إرساء الاستقرار السّياسي مثلا) وأهداف متوسّطة المدى (إرساء نموذج تنموي جديد) وأخيرا أهداف بعيدة المدى (الازدهار الاقتصادي والاجتماعي). 
لا يكون الهدف قابلا للتّحقيق إلاّ من خلال الاتصاف بخمس صفات؛ أن يكون الهدف المحدّد بوقت معين قادر بالفعل على التّنفيذ كما ينبغي أن يكون قابلا لتحديد مدى الإنجاز في هذا الهدف ومدى التّقدّم فيه وإليه.. كما أنّه قابل لأن يكون على أرض الواقع فيكون حقيقيّا ذا وجود فيزيائي مادّي. ولا يستثنى الهدف السّياسي منها.
• السّياسات
تعبّر السّياسات العامّة عن فعل جهاز الدّولة، وكيفما تدخل الفاعل في إقرار السّياسات العامّة، فإنّ هذه الأخيرة تتّخذ وتتحدّد على أنّها صادرة عن جهاز قويّ، وهو جهاز الدّولة. والسّياسات العامّة من الاختصاصات التي تهتمّ بها الأجهزة العلميّة الرّسميّة وشبه الرّسميّة المرتبطة بالدّولة الحديثة. وحيث أنّ مسار عقلنة الدّولة في القرن الواحد والعشرين حمل طموحا مشروعا طرح نفسه، يتمثّل في البحث عن السبّل الكفيلة لتحقيق خدمة الدّولة، وبالتّالي خدمة الإنسان وتوفير الظّروف المادّية والمعنويّة لعيشه، فإنّ التّغييرات والتّطوّرات ذات الطّبيعة الدّستوريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي مسّت الدّولة كانت تسعى، ممّا كانت تسعى إليه، منح الدّولة الإمكانيّات الكفيلة والفعّالة لتحقيق أهدافها (4). 
الجزء الثاني: الإطار التطبيقي / التخطيط الاستراتيجي
يقوم الإطار التطبيقي أو التخطيط الاستراتيجي على مقومات عديدة يمكن إجمالها في نوعين؛ الحلقة المفقودة (العنصر الأول) والأدوات المستعملة (العنصر الثاني)
العنصر الأول: الحلقة المفقودة
• المشاريع (5) 
المشروع هو مسعى مؤقّت يتّخذ من أجل الوصول لمنتج أو خدمة أو نتيجة متفرّدة، وتقام المشاريع لتحقيق الأهداف عن طريق الإنتاج(6). والمشروع هو عمليّة أو نشاط مقيّد بزمن، أي له تاريخ بداية وتاريخ نهاية، يتمّ القيام به مرّة واحدة من أجل تقديم منتج ما أو خدمة ما بهدف تحقيق تغيير مفيد أو إيجاد قيمة مضافة. كما أنّه مجموعة من الأنشطة التي تستخدم الموارد (سواء المال أو البشر أو الخامات أو الطّاقة أو المساحة أو التّرتيبات أو الاتصالات أو الجودة أو المخاطر أو ما إلى ذلك) من أجل تحقيق أهداف محدّدة سابقا. وذلك الحال بالنّسبة للمشاريع السّياسيّة والاقتصاديّة. 
• البرامج (7) 
البرامج هي مجموعة من المشاريع المتوافقة والمتلائمة. والبرامج تقود إلى تغيير الدّولة من حالة أولى (وضع حالي) إلى حالة أخرى (وضع مستقبلي) بنتيجة مرغوبة فيها. فالبرامج السّياسية التي لا تتوفّر على دراسة علميّة واستراتيجيّة لا يمكن أن تكون ذات جدوى فعليّة على أرض الواقع. 
إنّ الأحزاب السّياسيّة التي تصوغ برامجها لخوض المعركة الانتخابيّة ولا تعتمد مثل هذه المنهجية، لن تكون جميع برامجها قابلة للتّحقيق على المستويين الواقعي والسّياسي. ولذلك فعلى النّاخب أن يعتمد على جملة هذه المعايير العديدة في اختيار مرشّحه إن كان يريد بالبلاد والعباد خيرا، وإلاّ فإنّ صوته سيذهب هباء منثورا، وهذا هو الحاصل الفعلي.
العنصر الثاني: الأدوات المستعملة
• الإجراءات (8)
الإجراءات هي القوانين والتّراتيب التي تقوم عليها الدّولة. إنّ نجاح قرطاج في تأسيس إمبراطوريّة كبيرة يعود أساسا إلى أمرين إثنين؛ الأول هو استقرار النّظام السّياسي عبر تشريك معظم فئات المجتمع التي يحق لها المشاركة في الحياة السّياسية. ولم يحدث ذلك إلاّ من خلال إحداث «دستور قرطاج» الذي أشـاد به الفيلسوف اليونانـي «أرسطـو». وأمـا الثّاني فهو استقـرار المنظومـة القانونيّـة في الدّولة وذلك عبر سنّ قوانين تقوم بالأساس على احترام العدل بين جميع فئات المجتمع القرطاجـي، وهو ما أدّى إلى إشاعـة قيمة العدل بين الجميــع وخاصّة العدالة الاجتماعيّة ما أدى بالضّرورة إلى قيام إمبراطوريّة نازعت الإمبراطوريّة الرّومانيّة.
•الميزانيات (9) 
نقصد بالميزانيات جملة الموارد الماليّة والمادّية المتاحة التي تسخّر من أجل تنفيذ المشاريع السّياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهو أمر لا يعدّ من الكماليّات في تنفيذ المشروع بل هو من أوكد الأولويّات التي من شأنها أن تؤثّر على البرامج برمّتها. 
خاتمة 
يمثّل التّوجه الاستراتيجي أهمّ عناصر التّطوير ومن أهمّ السّلوكيّات التي تسعى الدّولة لاكتسابها. وكما يتجلّى أنّ هذه التّوجّهات تصلح للدّول كما للشّركات والمؤسّسات، فإنّها تصلح ان التّحدّيات التي تعترض الدّولة تعتمد حلولا تكون قائمة على منهج استراتيجي علمي واضح تعتمد الإصلاح المستمر والايمان بنسبيّة الظّرفيّة الزّمنيّة (التّاريخ) والمكانيّة (الجغرافيا) والتّفاعل بينهما، وهو ما يساهم في اتخاذ قرارات تتوافق مع السّنن التّاريخيّة والتّفاعلات الجغرافيّة ممّا يساهم في التّطور.
الهوامش
(1)  للمزيد من المعلومات،انظر موقع: «e3arabi.com»: الرئيسية/مال وأعمال/إدارة الأعمال/الرسالة الاستراتيجية ونمو المنظمة
(2)  للمزيد من المعلومات،انظر موقع: «e3arabi.com»: الرئيسية/مال وأعمال/إدارة الأعمال/الرُّؤية
(3)  للمزيد من المعلومات،انظر موقع: «e3arabi.com»: الرئيسية/مال وأعمال/إدارة الأعمال/كيفية التخطيط
(4)  للمزيد من المعلومات،انظر موقع: «politics-dz.com»:الرئيسية/دراسات سياسية/السياسات العامة/مفاهيم سياسية: تحديد مفهوم السياسات العامة.
(5) الدليل المعرفي لإدارة المشاريع، الإصدار السادس، صفحة 4
(6) المصدر نفسه، صفحة 4
(7) المصدر نفسه، صفحة 14
(8) المرجع نفسه، صفحة 40
(9) المرجع نفسه، الصفحة 231