همسة

بقلم
رضوان مقديش
بين القرآن والسنة محاولة منطقية لرسم المناطق والحدود
 لننطلق من وجهة نظر من يُسمَّوْن «قرآنيين». هؤلاء يرون عدم اعتبار السّنة أصلا والتّقيّد حصريّا بنصّ القرآن. رأي لو سلّمنا به لوقعنا في مأزق: تفاصيل أركان من الأركان الخمسة للإسلام يرد عن طريق السّنّة. فالقرآن لا يبيّن تفاصيل الصّلوات الخمس ولا تفاصيل الحجّ ولا مقادير الزّكاة. حجّة القرآنيين إذا في طريق مسدود. 
وفي الجهة المقابلة، عند الاعتماد على السنّة تُطرح مسائل عدّة، ويتّسع المجال إلى حدّ تشعّب السّبل. وإذا استثنينا العقول المغيّبة من سذّج ومتعصّبين لمذاهب ومفاهيم ضيّقة، فإنّ الكلّ يطرح ضرورة وضع آليّات إضافيّة للانتقاء حتّى بالنّسبة لصحيح البخاري أكثر المراجع التزاما وتقيّدا بالضّوابط التّاريخيّة. فنحن شئنا أم أبينا أمام نصوص غير قطعيّة الثّبوت.
ولنا أن نلاحظ لمن يكاد أن يوازي بين القرآن وصحيحيّ مسلم والبخاري. هؤلاء يعتمدون على الحجّة التّالية: الصّحابة والتّابعون الذين نقلوا لنا القرآن هم الذين نقلوا لنا الأحاديث والسّيرة النّبويّة، فيحاولون إقناعنا بأنّ التّشكيك في نصوص السّنّة يحتمل التّشكيك في نصّ القرآن. ويتشبّث البعض بالدّفاع عن عدالة الصّحابة وكيف أنّ القرآن كرّمهم وكيف أنّ البعض منهم بُشّر بالجنّة.
وإليكم وجهة نظري:
أوّلا من النّاحية التّوثيقيّة والتّاريخيّة البحتة، فإنّ القرآن كان يحفظ كلّيّا أوجزئيّا من طرف المئات من القرّاء، وهو مدوّن من بدايته، هذا ودون الحديث عن كون نصّ القرآن نزّل مرسوما أي أنّ الحروف المستعملة في كتابته معيّنة حصريّا وتوقيفيّا.
(مايسمّى بالرّسم العثماني: كيفيّة رسم الهمزة، الحروف التي ترسم ولاتنطق، الحروف التي تنطق ولا ترسم بل يشار إليها كالألف الخنجريّة، التّاء المفتوحة والمغلقة…)
أمّا نصوص الأحاديث فلم تكن في جلّها مدوّنة ولم تُجمع إلاّ بعد أكثر من قرن.
ثانيا، من النّاحية العقديّة، فإنّ القرآن -خلافا للكتب السّماوية السّابقة- هو كلام اللّه وهو كذلك قوله تعالى أي أنّ الصّياغة اللّغوية إلهيّة وإعجازيّة. ولقد تكفّل سبحانه بحفظه وهو بقطع النّظر عن كلّ الأحداث وعن كلّ المتدخّلين محفوظ حتما ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(1) وهذا الأمر لا ينطبق على السّنة.
ثالثا، وفي إجابة للمتشبّثين بالدّفاع عن الصّحابة من منطلق التّقديس أوبهدف الإصرار على إثبات عدالتهم، أقول: إنّ محاولة الرّبط بين تقوى الصحابة ومدى الوثوق بهم كشهود ومبلّغين عن الأحداث والأقوال محاولة تفتقد الحكمة والدقّة. فكونهم تقاة أتقياء أو حتّى مبشّرين بالجنّة هذا يدلّ على مكانة معنويّة وأفضليّة دينيّة أكيدة سوف يجازيهم عنها ربّهم الحكم العدل، وهذا لا يعني عصمتهم ومناعتهم من السّهو وقلّة الإدراك أو سوء الفهم والتّقدير. فلا يمكن تبسيط المسألة وتلخيصها في ثنائي الخير والشّر أو حسن النيّة وسوء النيّة.
ومن المفيد إبداء الملاحظة التّالية: 
عند ذكر ثنائي«القرآن والسّنة» نحن نجمع بين كلمتين مختلفتين في الشّكل الاعتباري: القرآن هو نصّ واحد مضبوط ومحدّد بينما السّنّة هي خليط متنوّع من نصوص أخبار السّيرة والأحاديث.
إنّ إيلاء أخبار السّنّة أهمّية دون ضوابط التّجرّد والحكمة يوصل الكثير إلى مغالطات وتشويه للدّين، وتكون النّصوص الموضوعة أو تلك التي فسّرت بعيدا عن الموضوعيّة مطيّة للتّشرذم المذهبي والتّطرّف الدّيني في بعض الحالات.
ولا بد من الإشارة إلى مسألة ذات أهمّية مفصليّة وهي مسألة  معلومة:
عند ثبوت صحّة حديث أو خبر، يبقى علينا التّأكّد من كونه يخصّ التّشريع فمحمد ﷺ لم يكن يتصرّف كرسول ( أي مشرّع ) في كلّ المناسبات، بل كان يتصرّف أيضا كإنسان وكنبيّ وكزعيم سياسي وكقائد عسكري وكقاضي …
 
  والحقيقة أنّ الجهة المقابلة في الطّرف الآخر ليست البتّة أفضل حالا من سابقتها، فبعض القرآنيّين يتعسّفون على النّصّ ويحاولون تطويع القرآن وليّ ذراع الكلمات للوصول إلى نتائج شاذّة وموغلة في التّطرّف وأصدق مثال: «الخوارج» .
ويبقى من أكثر المبادئ عقلانيّة وإقناعا المبدأ الذي يقرّ بأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تتعارض السّنّة مع ما جاء في القرآن، وأنّه يتحتّم ترك كلّ حديث مناقض للقرآن. هذا المبدأ يرتكز على حجّة صلبة دامغة لا يمكن تفاديها، ويغلب على الظنّ أنّ عليها إجماعا أو شبه إجماع في المستوى النّظري؛ ولكن عمليّا وعند التّطبيق تغيب الأغلبيّة فيقع التّبرير وتمرير نصوص لأحاديث مناقضة للقرآن الكريم. 
وسواء تطرّقنا إلى القرآن أو السّنّة هنالك مسألة في غاية الأهمّية تطرح نفسها: إعمال العقل والمنطق في فهم بعض الجوانب من الدّين.
البعض ينكر استعمال العقل بصفة مبدئيّة ومثل العديد من المهتمين أقول إنّ خالق العقل والفكر والمنطق يخاطب العقل بالمنطق: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ﴾(2)، ﴿أَفَلا يَعْقِلُون﴾(3)، ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ﴾(4)،...ولا يمكن إنكار المبدإ بحجّة مواجهة البعض من أصحاب المنطق المعوجّ.
والسّؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: «بين التقيّد الحصري بنصّ القرآن والاندفاع إلى تصديق كلّ النّصوص الموروثة من «السّنّة»، هل هناك موقع نسبي يجعلنا قريبين أكثر ما يمكن من الحقيقة ؟»
أعتقد أنّه لا يمكن تحديد هذا الموقع بطريقة الرّياضيّات والهندسة، ولكن عن طريق مؤشّرات منطقيّة تحاور العقل فتقنعه، وتتمثّل في الآتي :
لو نظرنا إلى أهمّ المواضيع المقترنة اقترانا أكيدا بالسّنّة :كبعض تفاصيل الوضوء والصّلاة، ومناسك الحجّ،ونصاب الزّكاة ومقاديرها، نلاحظ :
أولا ، أنّ الوضوء والصّلاة والحجّ والزّكاة كلّها مسائل معلومة ومذكورة دون شكّ في القرآن بكلّ وضوح.
ثانيا ، المعلومة المنشودة ذات أهمية كبرى، فهي تخصّ أركانا من أركان الإسلام، ولقد وردت عن طريق التّواتر والتّلقين المباشر من الرّسول ﷺ إلى الصّحابة ومن الصّحابة إلى الصّحابة والتّابعين .
ثالثا ،وهذا الأهم، لايمكن أن تحتمل مثل تلك المواضيع شبهة سوء النّية في النّقل أو محاولة التّحريف، لأنّه لا مصلحة أصلا لأيّ كان في التّحريف، فهي عبادات يغلب عليها طابع السرّية ومن شاء أن يمتنع أوينقص أو يزيد فله ذلك. وفي كلّ الحالات حتّى لو ذهبنا إلى أقصى حدود الفكرة وافترضنا أنّه وقع التّصرّف في بعض التّفاصيل، فإنّ النّتيجة لن تكون كارثية .
ولو نظرنا إلى مواضيع وردت مفصّلة في القرآن وأخصّ بالذّكر منها «الميراث» .
لقد وردت مسألة المواريث بالتّفصيل والتّدقيق في سورة النّساء، حيث كان التّبليغ مباشرا ومكتملا. فموضوع الميراث مسألة تنظيميّة علنيّة تعنى بتقسيم الثّروة في إطار العائلة الضّيّقة وشبه الموسّعة، ما من أمر أخطر من ذلك وأكثر تأثيرا على الاقتصاد والعلاقات الأسريّة وعلى السّلم الاجتماعي بصفة عامّة، وهو من أكثر الأمور احتمالا لرغبة التّزوير والتّحريف من طرف غير الثّقات.
ومن الواضح أنّه سبحانه وتعالى -خالق الدّين والعقل والمنطق- يريد أن يؤمّن تفاصيل الميراث في القرآن، ذلك النّص المحفوظ  قطعيّ الثّبوت، كما أنّه بصفة عامّة أمّن رسالة الإسلام بنصّ محفوظ وهو القرآن خلافا للدّيانات السّماويّة السّابقة .
لو نسّقنا بين كلّ ما سلف، لتبيّنت لنا بعض الخطوط العريضة لآليّاتٍ يمكن أن تفيدنا في فهم جوانب من الدّين. هذا وإني لاأدّعي التّأسيس لنظريّة كاملة متكاملة في فهم وتحديد موقع السنّة وعلاقتها بالقرآن، ولكنّي أصرّ على أهميّة تلك الإشارات المنطقيّة وكونها يمكن أن تثير تساؤلات مفيدة وتنير بعض الأركان الغامضة، فتسهم في الاقتراب من الحقيقة. 
الهوامش
(1) سورة الحجر - الآية 9
(2) مثال ذلك قوله تعالى : ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ سورة الغاشية - الآية 17
(3) مثال ذلك قوله تعالى : ﴿وَمَنْ نُعَمِّرهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُون﴾ سورة يس - الآية 68
(4) مثال ذلك قوله تعالى : ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾ سورة محمد - الآية 24