في ظلال آية

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
الجزاء من جنس العمل
 يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(1)
يقـول ابن عاشـور: «وقَدْ شَمِلَتْ هَذهِ الآيَةُ بِمَوْقِعِهــا الِاعْتِراضِيِّ أُصُـولَ الإرْشادِ إلى ما في الِانْتِصارِ مِنَ الظّالِمِ وما في العَفْوِ عَنْهُ مِن صَلاحِ الأُمَّةِ، فَفي تَخْوِيلِ حَقِّ انْتِصارِ المَظْلُومِ مِن ظالِمِهِ رَدْعٌ لِلظّالِمِينَ عَنِ الإقْدامِ عَلى الظُّلْمِ خَوْفًا مِن أنْ يَأْخُذَ المَظْلُومُ بِحَقِّهِ، فالمُعْتَدِي يَحْسَبُ لِذَلِكَ حِسابَهُ حِينَ أُلْهِمَ بِالعُدْوانِ»(2). 
وقد أشار ابن عاشور إلى معنى دقيق في حالة كان الظّلم بين أفراد الأمّة والوطن الواحد: «وفِي التَّرْغِيبِ في عَفْوِ المَظْلُومِ عَنْ ظالِمِهِ حِفْظُ آصِرَةِ الأُخُوَّةِ الإسْلامِيَّةِ بَيْنَ المَظْلُومِ وظالِمِهِ كَيْلا تَنْثَلِمَ في آحادِ جُزْئِيّاتِها بَلْ تَزْدادَ بِالعَفْوِ مَتانَةً» (3).
وذكر ابن عاشور في هذه الآية مسألة: تحليل المظلوم ظالمه من مظلمته، وأشار إلى ما ذكره ابن العربي في كتاب أحكام القرآن من أقوال ثلاثة فيها، وذكر في الوجه الثّالث «أنَّ الرَّجُلَ إذا غَلَبَ عَلى حَقِّكَ فَمِـنَ الرِّفْـقِ بِـهِ أنْ تُحَلِّلَهُ، وإنْ كـانَ ظالِمًا فَمِنَ الحَقِّ أنْ لا تَتْرُكَهُ لِئَلّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَـةُ ويَسْتَرْسِلُـوا في أفْعالِهِـمُ القَبِيحَـةِ»(4). وهـذا القول أورده ابن العربـي في الآية 42 من السّورة نفسها.
ويشير الفخر الرّازي إلى أنّ «هَذهِ الآيَةُ أصْلٌ كَبِيرٌ في عِلْمِ الفِقْهِ، فَإنَّ مُقْتَضاها أنْ تُقابَلَ كُلُّ جِنايَةٍ بِمِثْلِها وذَلِكَ لِأنَّ الإهْدارَ يُوجِبُ فَتْحَ بابِ الشَّرِّ والعُدْوانِ، لِأنَّ في طَبْعِ كُلِّ أحَدٍ الظُّلْمَ والبَغْيَ والعُدْوانَ، فَإذا لَمْ يُزْجَرْ عَنْهُ أقْدَمَ عَلَيْهِ ولَمْ يَتْرُكْهُ، وأمّا الزِّيادَةُ عَلى قَدْرِ الذَّنْبِ فَهو ظُلْمٌ، والشَّرْعُ مُنَزه عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقابَلَ بِالمِثْلِ»(5). 
فالعدل هو ميزان الحياة، و«لا سبيل للعمارة إلا بالعدل»(6) كما يقول ابن خلدون و«أنّ الظّلم مخرّب للعمران، وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاص»(7). لذلك كان صنف الظالمين من الأصناف التي لا يحبّها اللّه سبحانه وتعالى ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، رغم ذلك كما قال الفخر الرّازي، فقد ندب إلى العفو عنهم وفق ما ذكره من إشارات «فالمُؤْمِنُ الَّذِي هو حَبِيبُ اللَّهِ بِسَبَبِ إيمانِهِ أوْلى أنْ يَعْفُوَ..»(8). 
فالعفو خلق حميد ومطلوب بين أبناء الأمّة الواحدة والوطن الواحد. ويجب أن تكون العلاقة البينيّة مبنيّة على العفو المتبادل، لأنّه أدعى لجمع كلمة الوطن، وشيوع السّلم الاجتماعي، والتغلّب على الصّعوبات، ولكن مع وضع حدّ يكبح الظّالم عن التّمادي في ظلمه. 
ويجب أن يمتلك المجتمع من الآليّات ما تمكّنه من ضبط السّلوك العام الصّادر عن العامّة والخاصّة، عن الرّعيّة والفئة الحاكمة، حتى لا يغترّ الحاكم بسلطته، ويكبح نزوعه، وتكون صورة معاقبته وعزله ماثلة عندما تحدّثه نفسه بتجاوز ما لا يجب تجاوزه. وهذا ممّا تقدّمت فيه الأمم المتقدّمة التي بنت حرّيتها، وديمقراطيّتها، وقطعت مع الظّلم وسدّت أبواب الدّولة والمجتمع عليه، وهذا من الدّين.
 
الهوامش
(1) سورة الشورى - الآية 40.
(2) محمد الطاهر بن العاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة الشورى،   40/42/https://tafsir.app/ibn-aashoor
(3) محمد الطاهر بن العاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة الشورى، المصدر نفسه.
(4) محمد الطاهر بن العاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة الشورى، المصدر نفسه.
(5) الفخر الرازي، تفسير الآية 40 ، سورة الشورى ،  40/https://tafsir.app/alrazi/42. 
(6) عبدالرحمان بن خلدون ، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة ،الفصل الثالث والأربعون «في أن الظلم مؤذن بخراب العمران» ص18
(7)عبدالرحمان بن خلدون، المرجع نفسه.
(8) الفخر الرازي، المرجع نفسه.