خواطر

بقلم
محمد المرنيسي‎
الإفادة في الشّحاذة
 تغذّى وتمدّد، واستلقى ثمّ تغطّى،  وتمطّى وتخطّى عالم الشّهادة، فإذا هو بمكتبة السّعادة يقرأ كتاب «الإفادة  في الشّحاذة». قال المؤلف عفا اللّه عنه: «خرجت أطلب الرّاحة في حديقة الاستراحة، وقبل الوصول أصابني الذّهول من منظر خجول: طفل يرمي الأزبال في صندوق القمامة، وشابّ مشرّد يفتّش فيه عن الكرامة التي افتقدها في سوق الكذب والخيانة، في غابات الذّئاب والثّعالب من نماذج القتامة والدّمامة، سألت المشرّد سرّا: ما يغنيك عن صندوق القمامة لاسترداد الكرامة؟ 
تابعت المسير أتعثّر في طريق مكسور، تمّ إصلاحه قبل شهور، زانته الحفر، وكنس وجهه ماء المطر وأقدام البشر. أبصرت عن قرب مقهى،ثمّ مقهى، فمطعم فمحلّ حلوى ثمّ مقهى فملهى،تجمّعت فيها وحولها أصناف من النّاس، وأنواع من الحيوانات الأليفة والمشاكشة،عالم فريد فيه اللّص والشّحاذ والشّيطان، والمعتوه والمغرور والولهان،وبعض الفرسان، يمسحون صدور الهواتف بحثا عن الطّرائف وأخبار الفضائح، وعناوين العلب والمقاصف، وقليل منهم من يبحث عمّا ينفع، كلّ يطلب ليلى، وليلى عجوز حبلى بالفتن والمحن، فمتى يستفيق الغارقون في البلوى ليتداركوا تصحيح المسار قبل أن تفجأهم الأقدار بما ليس منه مفرّ ولا تنفعهم الأعذار؟
وقفت بباب الحديقة أقرأ الخريطة، حدّدت طريقي وهدفي، قطعت المسافة بين المقبل والمدبر في هدوء وسكينة إلى مقعد مريح، في ظلّ فسيح وهواء نظيف، أغمضت عيني لأستمتع بالرّاحة في حديقة الاستراحة، وإذا بشابّ أنيق طويل القامة عظيم الهامة يصافحني مبتسما: «أهلا بك يا أبا الجود والكرم، ومنبع الأفضال والنعم، زادك اللّه من فضله، وأدام عليك ما يسرّك من بره وخيره».
قلت: «مرحبا، اجلس وكلمني بلغة القوم، فأنا لا أجيد اصطياد الفواصل والإيقاعات لأزخرف مقاطع المقامات والنهايات».
قال: «أقدّم لك نفسي، أنا أبو عيسى البدين، مدير مركز التّكوين للكسب والتّسمين».
قاطعته مستفهما: «حدثني عن المركز وأهدافه وبرامجه وآفاقه وشروط الالتحاق به». أجاب بحماس بالغ: «قد يبدو لك حديثي عن هذا المركز غريبا، ولكن إذا قرأت الواقع بتدبّر ستجد أنّ الأمر لا غرابة فيه».
قلت: «أفصح وأرحنا من التّلميح والتّلويح».
قال: «كم أشخاصا تراهم في الشّوارع والأسواق وعلى أبواب المساجد والمقابر والمشافي والملاهي وفي مختلف التّجمعات، فأينما اتجهت أو توقّفت ماشيا أو راكبا يسألك أحدهم عاوني، صدقة لوجه اللّه ..أو يظهر لك علبة الدّواء أو وصل الكراء».. قلت: «وما علاقة هذه الشّريحة من المجتمع بشريحة الشّحاذين والمتسولين بمركزك؟»، قال: «أولئك خرّيجو المركز، وشواهدهم تضمن لهم الدّخل الثّابت والمتغيّر للمؤونة والادّخار،فالمركز يحارب البطالة والكسل، ويحثّ على الحركة والجري لتحقيق المزيد من الرّبح والكسب».
قلت: «ما شاء اللّه،عمل جبار،ومورد مدرار،خال من الرّسوم  وصاف من الأكدار، فما هي مضامين التّكوين في هذا البرنامج العجيب؟»
قال: «البرنامج يتكوّن من شقّين:نظري وعملي. البرنامج النّظري:يحتوي على مدخل لتاريخ الشّحاذة والتّسوّل ومدارسها وأعلامها وتأثيرهم في الحياة الفكريّة والأدبيّة في مختلف العصور. كما يحتوي على أبحاث اقتصاديّة في مجال الكسب السّريع المتنامي دون رسوم، والخالي من سوء العواقب وقرع الهموم، واقتراح الطّرق والأساليب الفعالة في التّأثير على الضّحايا للزّيادة في العطايا، واستدعاء الشّفقة والإحسان من العباد ذخرا ليوم المعاد. 
أما البرنامج العملي فيقوم على تطبيقات ميدانية ينجز فيها طلبة التكوين في شكل مجموعات و فرادى جولات وفق خريطة يعدها المركز لمناطق التسول في الفضاء المفتوح أو المغلق، وتقديم الحساب كل مساء بعد نصف ساعة من صلاة العشاء،مع تقويم شفوي عن المنطقة محل التطبيق بما فيها من جوانب القوة والضعف مع التعليل.ولا تمنح شهادة التخرج إلا بعد إنجاز البرنامج بشقيه النظري والعملي، وتقديم ثلاثة نماذج من أساليب التسول أمام لجنة الامتحان في أهم الأماكن ومنها:محطات النقل المختلفة،الأسواق،المساجد،المقاهي والمطاعم والملاهي والمشافي وفضاءات الأفراح والأتراح،فيعرض المرشح مهارته في الشحاذة بالصوت والحركة لإقناع اللجنة بالموافقة والمباركة».
قلت مستفسرا: «وكيف يعمل المركز على تجاوز النمطية وتجديد الأساليب وتطويرها لتحقيق الإبداع والتميز المستمر؟»
أجاب بثقة واعتزاز: «لدينا برنامج التّكوين المستمر، ومن جملة محاوره معالجة مشاكل المهنة من خلال ورشات وحلقات تقدّم فيها أوراق مركّزة حول تشخيص المشكلة وإبراز الثّغرات التي تمّ رصدها في الميدان، يناقش أفراد الورشة مضمون الورقة ويتبادلون وجهات النّظر في معالجة المشكلة، للوصول إلى الحلول المقترحة التي تجرّب في الميدان لتقويم نتائجها لاحقا».
قلت: «عفوا إن قاطعتك، هل بالإمكان أن تقدّم لي صورة عن الإبداع المنشود؟»
قال مرحبا: «على مستوى الشّكل يدخل فيه الملبس والمظهر المثير للشّفقة مثل ادّعاء الإعاقة، أو نزول البلاء والآفات الطّارئة التي لا تزول ولا تحول... وعلى مستوى المضمون فيكون باختيار صيغ التّأثير من دعاء أو أنات أو اهتزاز أو بكاء أو إظهار وصفات الأطباء أو أحكام قضائيّة بإفراغ السّكن أو أوراق ثبوتيّة لعائلة مهاجرة ...والصّور لا حصر لها، وهي محل الإبداع والتّجديد».
قلت: «لاحظت أنّ حركة الخّريجين وتحركاتهم متنوّعة، فما السّر في ذلك؟»
أجاب مفسرا: «الخرّيجون أنواع؛ منهم الثّابت والمقيم بالبلد، ومنهم المتنقّل بين المدن والقرى، وهذا الصّنف على دراية واسعة بالمواسم والمناسبات مثل أماكن السّياحة والمواسم الدّينية والأسواق وأوقات الحصاد وجني الثّمار، بل إنّ منهم من يرحل خارج الوطن في أوقات معيّنة لتحقيق مردودية أكبر.
ولا تظنّ أنّ المتسوّل هو الذي يلبس الأسمال والرّقاع فقط، فإنّ منهم من يلبس الجميل من الثّياب ويقصد فئة خاصّة من الرّجال والنّساء لعرض حاجته وشرح سوء حظّه بأسلوب مؤثّر جذاب، يقصد أصحاب السّيارات الرّاقية، ويتسلّل إلى مراكز ومؤسّسات إداريّة وتجاريّة محدّدة.وهذا النّوع كثير الإبداع في اختلاق أحداث ووقائع مؤثّرة تثير الشّفقة والتّعاطف».
قلت مداعبا: «وهل لهؤلاء الخّريجين من مركزكم دور في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي والوطني؟»
قال باعتزاز: «بالتّأكيد لهم دور بارز في نموّ الاقتصاد؛ حيث يقوم بعضهم بتشغيل أفراد صغار وكبار من الجنسين لتمثيل المشهد المؤثّر، كالمرأة والرّضيع، المرأة والمعاق، المقعد والمساعد، الأعمى والقائد إلى غير ذلك من الوسائل المدرّة للدّخل، كما أنّ هناك عددا لا يستهان به من أصحاب النّقل السّرّي يقومون بتوزيع المتسوّلين صباحا في أماكنهم المختارة ويعيدونهم إلى أحيائهم مساء».
قلت:«بقي أن توضّح لي إن أمكن مصادر الدّخل لتسيير المركز وتحسين مستوى الجودة في التّكوين الأساسي والمستمر؟»
قال: «ما كلّ ما يُعلم يُقال، للمركز مصادر تمويل يقدّمها أولئك الذين لا يريدون منّا أن نخرج من السّبات ولا أن نتجاوز مناطق الظّل، يريدون منّا أن نظلّ أجراء في مهن بسيطة نتعب ونعرق لنعيش ولا نتجاوز حاجاتنا الأساسيّة، وأنت تعرف الباقي من تنامي هذه الظّاهرة التي لا تعرف حدودا ولا قيودا، تركوها تسيح وتسري كما تشاء بصمت ودهاء، سلمية في الوسائل والأهداف، ولكن، وراء الأكمّة ما وراءها ! فمتى يستفيق القوم ويعالجون هذا الوضع قبل أن يتجذّر ويصعب اجتثاثه؟»  
قلت مداعبا: «هل تقبلني طالبا في مركزك على كبر سنّي وقلّة حيلتي؟»
قال باسما: «لي الشّرف أن تكون كبير المؤطّرين في مركزي، وسيستفيد الإداريّون والمدرّسون من خبرتك في تطوير برامج التّكوين؛ لتحقيق الجودة التي نطمح أن نحصل بها على شهادة التّميّز قاريّا ودوليّا». 
وبينما أنا في نشوة التّحلية والتّرقية سمعت آذان العصر، فانهار البناء وسقط الرّداء، فقمت مسرعا مهرولا،متعوّذا ومبسملا، مردّدا: «اللّهم لك الحمد حتّى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرّضى».