حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
الجيوبولتيك التّونسي أو في فهم العمق الجيو-استراتيجي للدّولة التّونسيّة
 توجد معادلة أساسيّة لصناعة عالم جديد مفادها أنّ الإنجاز لا يتحقّق إلّا من خلال فهم ثلاثة عوامل رئيسيّة وهي المكان، الزّمن، والإنسان. في هذه المعادلة نجد ثابتا وحيدا هو المكان بينما الزّمن متحوّل بتحوّل الإنسان الذي يتأثّر في الزّمن (أو التّاريخ) ويؤثّر فيه إمّا إيجابا أو سلبا. إنّ سؤال التّاريخ عن تأثيره في الجغرافيا هو في حقيقة الأمر سؤال عن فعل الإنسان في التّاريخ. فلو كان الإنسان فاعلا فإنّ التّاريخ يتأثّر به من خلال الإنجاز المحقّق. في المقابل نجد إنسانا مفعولا به (وقعت برمجته من الفاعل الرّئيسي كالمستعمر) فإنّ التّاريخ يؤثّر فيه فيكون حينها مستهلكا لما تمّ انتاجه. ولا يمكن للإنسان (الدّولة) أن يكون فاعلا إلاّ متى اتضحت رؤيته للمستقبل وعرف نقاط قوّته وضعفه (داخليّا) والفرص والتّهديدات التي تعترضه (خارجيّا) ما تمكّنه من رسم خارطة طريق واضحة المعالم.
تكمن أهميّة الموضوع في معرفة الوعي الجيوبولتيكي الذي يحكم الدّول بصفة عامّة وتونس بصفة خاصّة (تاريخا وجغرافيا) في ظلّ تاريخ عريق لجغرافيا صنعت من التّاريخ امبراطوريّة حكمت لمدّة نازعت فيها القوّة الأولى في العالم آنذاك، فما سرّ عبقريّة الجغرافيا؟ (الجزء الثّاني) مع التّركيز على الأسباب التي ساهمت في وهن وريثة قرطاج. فما سرّ غباء الزّمان؟ (الجزء الأول)
الجزء الأول: 
غباء الزّمان؛ أو نقمة الإنسان في الفعل
انطلقت الثّورة السّياسيّة من الوسط الغربي (سيدي بوزيد) على الحدود الجزائريّة ثمّ أعقبتها ثورة أخرى لم تكتمل أركانها بعد في الجنوب الشّرقي (تطاوين) على الحدود اللّيبيّة وذلك في رمزيّة أنّ الثّورة لن تكتمل إلاّ في إطار وحدة المغرب الكبير شرطا لقيام توازن جيو-استراتيجي جنوب المتوسط الذي يكون بدوره شرطا للتّحرر من الاستعمار بشقيه المباشر وغير المباشر. ومن غباء الزّمان على هذه الأرض أن نجدها إلى اليوم قابعة في فخّ اللاّ-استقرار (العنصر الأول) وفي فلسفة اللاّ-قانون (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: فخّ اللاّ-استقرار .. الصّراع على السّلطة 
يمثّل عدم الاستقرار السّياسي آفة الآفات التي قد تطيح بدولة بأكملها، إذ أنّه يساهم بشكل جوهري في ضعف الإرادة السّياسيّة في اتباع نهج واضح في سياستها الاقتصاديّة وتكبيل المستثمر بالتّعطيلات البيروقراطيّة ما يؤدّي بالضّرورة إلى نتيجتين متعاقبتين؛ ركود اقتصادي بسبب غياب منوال تنمية متوافق مع الجيوبولتيك للدّولة وهو ما يتسبّب في انفجار مجتمعي قد يكون في شكل ثورة على النّخبة السّياسيّة الفاشلة (1). فيقوم عامّة الشّعب بالثّورة على النّخبة الحاكمة. ولا تكون الثّورة مكتملة إلّا بتوفّر قانونين رئيسيّين؛ أمّا بالنّسبة للأول فهو قانون تراكم القهر المتسبّب من طرف الحاكم أي أنّه يطنب في تعذيب شعبه واضطهاد حرّيته وقمع رأيه وهو تراكم كمّي يطال جميع رعيّته، سواء كان ذلك في التّطرّف باسم الإله أي الحكم الدّيني أو باسم الطّبيعة أي الحكم الطّبيعي. يكون تراكم القهر من طرف الطّغاة (طغيان السّلطة السّياسيّة) أو من طرف الغزاة (طغيان المستعمر على المستعمر) ولا يمكن البتّة أن يثور الشّعب على هذا الطّغيان إلاّ إذا توفّر تراكم الوعي بالقهر في صفوفه وهو يمثّل القانون الثّاني في معادلة الثّورة أي أنّ الشّعب غير واع بقضاياه.
العنصر الثّاني: فلسفة اللاّ-قانون .. التّسابق في الفساد.
تكمن أهمّية القانون بالنّسبة إلى المجتمع في حفظ استقراره، وحمايته من الفوضى التي قد تحدث نتيجة لتصرّفات بعض الأفراد الذين يمتلكون في شخصيّاتهم قابلية الانحراف والشّذوذ، وهم لا يراعون إلاّ المصالح الشّخصيّة بغضّ النّظر عن مدى تضرّر الآخرين. وكذلك يسعى القانون إلى توفير البيئة المناسبة للقيام بالأنشطة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والسّياحيّة المختلفة وذلك عبر تقنين المجالات المتنوّعة وإكسائها صبغة المشروعيّة. وقد يعمل القانون على فضّ النّزاعات التي قد تحدث بين الأفراد، أو بين المؤسّسات، أو بين الأفراد والمؤسّسات، وبطريقة تحفظ حقوق الجميع، ولا تُضيّعها. 
أمّا في مجتمع أوليغارشي فيعمل القانون على تنفيذ إرادة الأوليغارشيّة. وذلك من خلال اللّوبيّات الموجودة داخل جهاز الدّولة التّشريعي، حيث يتمّ سنّ القوانين على مقاس أرباب المال والأعمال حتى يكون متوافقا مع مصالحهم الشّخصيّة الخاصّة، وهنا يكون حكم الأكثريّة مسرحيّة سيئة الإخراج، دون اكتراث للمصلحة العليا للدّولة ولا لحاجيّات المجتمع الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ومتى وُجدت مثل هذه العوامل في مجتمع، وُجد في المقابل تفشّ للفساد ينتج عنه إضرار بالأرض (أصل الكساد) وظلم للإنسان (معطّل للإعمار) الأمر الذي ينتج عنه مجتمع اللّا-قانون، أو مجتمع الفوضى.
في مجتمع اللّا-قانون يكون القانون سيفا مسلّطا على رقاب المستضعفين بحيث تجده لا يتوافق مع جملة الظّروف والمعطيات التي تحكم المجتمع الإنساني في سياق زمني وتاريخي معيّن.
الجزء الثاني: عبقرية الجغرافيا؛ أو نعمة الله في المكان 
لئن كان التّاريخ صنع الإنسان في الأرض، فعلا وقولا، فإنّ الجغرافيا تمثّل صنع اللّه في الأرض، خلقا وإبداعا، وقد دأب الإنسان منذ فجر التّاريخ أن يستثمر الجغرافيا ليتفاعل إيجابا مع التّاريخ، وقد فهم الإنسان ذلك فشنّ الحروب عسكريّا (قوّة العنف) وتفنّن في الدّبلوماسيّة تفاوضا (قوّة ناعمة). وقد فهم الفينيقيّون عظيم نعمة اللّه على جغرافيا إفريقيّة فاتخذوا من قرطاج عاصمة للإمبراطوريّة القرطاجيّة منذ فجر التّاريخ، لكونها منفتحة على العالم (العنصر الأول) ولكونها فاتحة على العمق الافريقي بما يمثّله من فرص في اقتصاد المستقبل (العنصر الثّاني).
العنصر الأول: الانفتاح على العالم 
اكتسب البحر المتوسّط أهمّية إستراتيجيّة كبيرة منذ فجر التّاريخ، وظلّت مضائقه (جبل طارق والبوسفور والدّردنيل) موضع صراع بين الدّول والأمم السّاعية للسّيطرة على العالم، فكانت ممرّات حيويّة للجيوش وللهجرات عبر العالم، وهو ما يُفسّر التّنوع العرقي واللّغوي والدّيني والثّقافي والحضاري الهائل لحوض المتوسّط، ممّا جعل مؤرخين وعلماء اجتماع يسمّونه «مركز العالم»(2). 
ولا تزال أهمّية المتوسّط الإستراتيجيّة قائمة رغم تطوّر وسائل النّقل وازدهار أرجاء العالم البعيدة مثل الأمريكيتين وآسيا وأستراليا. فأكثر من 30 % من السّفن الموجودة في بحار العالم تُبحر في حوض المتوسّط و40 % من حاملات النّفط تمرّ عبره، بسبب جواره لمنطقة الشّرق الأوسط التي تُصدّر أكثر من 70 % من النّفط والغاز العالمي. 
في هذا السياق، تقع تونس عند تقاطع الأحواض الشّرقية والغربيّة للبحر الأبيض المتوسّط، حيث يفصلها مضيق صقليّة عن أوروبا بحوالي 140 كيلومترا. لعبت تونس أدوارا هامّة في التّاريخ القديم، إذ يعود تاريخ تونس إلى أكثر من 3000 سنة وقد تعاقبت عليها العديد من الحضارات كالبربريّة، والبونيّة والرّومانيّة والبيزنطيّة والعربيّة والإسبانيّة والتّركيّة والفرنسيّة، منذ عهد الفينيقيّين في قرطاج ثمّ ما عرف باسم مقاطعة أفريقيّة  إبّان الحكم الرّوماني، وكانت تسمى مطمور روما . شكّل التقاء الحضارات الثّقافة التّونسيّة وميّزها بروح التّسامح والانفتاح.
هذا الموقع الجغرافي الذي جعل من تونس مفترق طرق الحضارات في الماضي، يجعل منها اليوم مركزا للأنشطة الاقتصاديّة الدّوليّة.  
العنصر الثاني: العمق الافريقي واقتصاد المستقبل
قديما اتخذت تونس من إفريقيا اسماً قديما لها (إفريقيّة) فهي تعدّ بوابة القارة الإفريقيّة الأولى، إذ تقع في أقصى شمالها، بل إنّ أعلى نقطة في خريطة إفريقيا توجد في محافظة بنزرت التّونسيّة، وتُسمّى «رأس إنجله» والتي يقابلها «رأس أقولاس» الموجود في دولة جنوب إفريقيّا ويُعتبر أدنى نقطة في القارة الإفريقيّة.
يمثل العمق الإفريقي أحد الحلول الأساسيّة لمستقبل الاقتصاد التّونسي، والذي يمكن أن يفتح أبواب جديدة تُخرج تونس من الحصار الذي فرضته على نفسها بتعاملها مع شريك وحيد هو الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من أزمات مزمنة لعلّ أهمها افتقار الخيال السّياسي في عمليّة تسويق المنتوجات التّونسيّة.
إنّ التّوجّه لإفريقيا هو توجّه استراتيجي تفرضه تحدّيات عدّة، لعلّ أهمّها ضيق السّوق التّونسيّة، والسّعي إلى فتح أسواق جديدة للتّصدير والاستثمار في الخارج بعيدا عن تبعيّة الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من أزمات متتالية من جهة وفرضه لشروط مجحفة على المنتوج التّونسي من جهة ثانية، وإيجاد موطئ قدم للمؤسّسات التّونسيّة في أسواق إفريقيّة ذات معدّلات نموّ عالية.
فرضت أزمة كورونا على الدّولة التّوجّه نحو القارة الإفريقيّة، نظراً للتغيّر الجذري الذي يقع الآن في التّموضع الاقتصادي على الصّعيد الدّولي، إذ يعتبر أنّ المجال الطّبيعي والاستراتيجي لتونس هو المجال المتوسّطي والقارّة الإفريقيّة التي باتت تتداعى إليها كلّ القوى الاقتصادية في العالم.