في ظلال آية

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
ِإنَّهُ بِعِبَادهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
 يقول الحق تبارك وتعالى ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (1)
ذهب الفخر الرّازي إلى أنّ هذه الآية مختصّة بالعرب، وأظنّه قد سبق ابن خلدون في بعض أحكامه على العرب من خلال ما أشار إليه من أنّ العرب «كُلَّما اتَّسَعَ رِزْقُهم ووَجَدُوا مِنَ المَطَرِ ما يَرْوِيهِمْ ومِنَ الكَلَأِ والعُشْبِ ما يُشْبِعُهم أقْدَمُوا عَلى النَّهْبِ والغارَةِ» (2). 
والقصد هنا لا يتعلّق بأن هذه الآية مختصّة بالعرب أو عامة، وإنما هي إشارة إلى أن البناء المعرفي متراكم بين الأجيال، فيمكن أن يلتقط اللاحق من السابق ما يبني عليه بناء معرفيا متكاملا، بعد أن كان منثورا وموزّعا، وهذا يتطلّب التحقيق والنظر من أهل الاختصاص. 
واستخرج الفخر الرازي من هذه الآية بعض الإشارات في البناء النفسي والعقلي للإنسان منها:
1. «أنَّ الإنْسانَ مُتَكَبِّرٌ بِالطَّبْعِ، فَإذا وجَدَ الغِنى والقُدْرَةَ عادَ إلى مُقْتَضى خِلْقَتِهِ الأصْلِيَّةِ، وهو التَّكَبُّرُ، وإذا وقَعَ في شِدَّةٍ وبَلِيَّةٍ ومَكْرُوهٍ انْكَسَرَ، فَعادَ إلى الطّاعَةِ والتَّواضُعِ» (3).
2. «أنَّ النَّفْسَ إذا كانَتْ مائِلَةً إلى الشَّرِّ لَكِنَّها كانَتْ فاقِدَةً لِلْآلاتِ والأدَواتِ كانَ الشَّرُّ أقَلَّ، وإذا كانَتْ واجِدَةً لَها كانَ الشَّرُّ أكْثَرَ، فَثَبَتَ أنَّ وِجْدانَ المالِ يُوجِبُ الطُّغْيانَ»(4).
ويشير العلامة ابن عاشور «أنَّ اللَّهَ أسَّسَ نِظامَ هَذا العالَمِ عَلى قَوانِينَ عامَّةٍ ولَيْسَ مِن حِكْمَتِهِ أنْ يَخُصَّ أوْلِياءهُ وحِزْبَهُ بِنِظامٍ تَكْوِينِيٍّ دُنْيَوِيٍّ ولَكِنَّهُ خَصَّهم بِمَعانِي القُرْبِ والرِّضا والفَوْزِ في الحَياةِ الأبَدِيَّةِ» (5)، وهذا درس عظيم أشار إليه العلاّمة ابن عاشور، فالكون مبني على أسس وقواعد، وهذه الأسس والقواعد تسري على الجميع، وقضت حكمته سبحانه وتعالى أن منع الإنسان من قدرة اختراقها، ولكن منحه قدرة التكيّف وتذليل ما يمكنه تذليله من داخل القوانين المنظّمة وليس من خارجها، وفي هذا يستوي المؤمن وغير المؤمن، لذلك على المؤمنين النّظر والتّدقيق، وهي دعوة إلى فقه قوانين العالم. فلا محاباة داخل قوانين الكون. وما على الإنسان إلّا النّظر واكتشاف النّظام، وبقدر نظره وتعمّقه، يكتشف القوانين وكيفية سيرها وتوظيفها. 
يقول ابن عاشور « ومَعْنى الآيَةِ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ جَمِيعَ النّاسِ في بَسْطَةٍ مِنَ الرِّزْقِ لاخْتَلَّ نِظامُ حَياتِهِمْ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ لِأنَّ بَعْضَ الأغْنِياءَ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالبَغْيِ لِتَوَفُّرِ أسْبابِ العُدْوانِ كَما عَلِمْتَ فَيَجِدُ مِنَ المَبْغِيِّ عَلَيْهِ المُقاوَمَةَ وهَكَذا، وذَلِكَ مُفْضٍ إلى اخْتِلالِ نِظامِهِمْ» (6). 
وهذا ينبّهنا إلى ما يمكن أن يقوم به أصحاب المال إذا طغوا مع التّنبيه إلى أنّ بسط الرزق لبعض العباد لا يفضي بالضّرورة إلى الفساد «لِأنَّ الغِنى قَدْ يُصادِفُ نَفْسًا صالِحَةً ونَفْسًا لَها وازِعٌ مِنَ الدِّينِ فَلا يَكُونُ سَبَبًا لِلْبَغْيِ» (7). 
ولكن إذا صادف نفسا خبيثة ففي القوانين وإرادة الأمّة في تحقيق العدل، ما يُقوّم ذلك، إذا كانت الإرادة حقيقيّة ومتجرّدة في العمل الى مقاومة الفساد والطّغيان، وإذا وفّرت الإرادة العامّة المؤسّسات التي تسهر على ذلك ومكّنتها ممّا يساعدها على إنجاز عملها وتحقيق أهدافها في كنف القوانين والشّفافية، وهذا هو منطوق الدّين.
الهوامش
(1)   سورة الشورى - الآية 27.
(2) الفخر الرازي، تفسير الآية 27 ، سورة الشورى ،  27/https://tafsir.app/alrazi/42. 
(3) الفخر الرازي، المصدر نفسه. 
(4) الفخر الرازي، المصدر نفسه. 
(5) محمد الطاهر بن العاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة الشورى،   27/42/https://tafsir.app/ibn-aashoor
(6) محمد الطاهر بن العاشور ، المصدر نفسه. 
(7) محمد الطاهر بن العاشور ، المصدر نفسه.