بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الإعجاز القرآني: المفهوم والإشكالات (الحلقة التاسعة :مآزق القول بالإعجاز البلاغي 1-2 )
 المنطلق الأصليّ الدّاعي إلى القول بالإعجاز في القرآن هو أنّ اللّه صاحب علم مطلق كاشف، وعلم الإنسان نسبيّ، وقدرة اللّه على احتواء الدّلالات والمعاني هي المعجزة لطاقة الإنسان على استنباط هذه المعاني فلا منطق، حينئذ،  في تحدّي الخالق لعباده وقد خلقهم وأودع فيهم قدرة محدودة بحدود الزّمان والمكان. ولعلّ المقصد الأوفى، من وراء هذا التّحدّي، هو شحذ الأذهان إلى الإقناع بالطاقة الإيحائيّة والاقتناع بما ورد في كلام اللّه من تعاليم انطلاقا من العلامات اللّغويّة، لأنّ معرفة يرد بها الكلام هي أرقى أنواع المعارف وألطفها، واللّغة هي الضّامنة للوصف والتّعبير والدّفع بالذّهن إلى إدراك المقاصد والمرامي. فالمعاني الّتي تدرك بالعقول هي غالبا ما يتسنّى للمرء أن يعبّر عنها بجلاء ووضوح. أمّا ما تعلّق بالإعجاز، فهو يندّ عن ذلك ولكنّ علامته وإن استحلاها الذّوق فإنّ المرء لا يستطيع تحديدها لأنّها من لطائف الكلام ومحاسنه الخفيّة(1). 
وفي هذا المستوى، نشير إلى أنّ لطائف الكلام وغوامضه تمثَل  دعوة ملحّة لمزيد التدبّر وإعمال النّظر، وهو ما ورد في أربع آيات تدعو إلى هذا التّدبّر. وقد وردت صيغ فعل التّدبّر في المُضارع لتُحيل على أنّه فعل مفتوح على الصّيرورة الزّمنيّة كشْفا لغوامض الكلام وتقليصا لدوائر الإعجاز وإضعافا لمدارات العجز. 
ومن هذا المُنطلق يتجلّى للدّارس، أنّ قدرة المرء على إدراك أسرار البلاغة، مع مرور الأيّام تجعل صاحبها يحيط بقوانين الإعجاز، وتفضي به إلى التّخلّص من الإحساس بعجزه عن اكتناه أسراره، وهو المقصد الأساس من تنزيل الكتاب. أمّا قضيّة التّحدّي الماثلة في الإتيان بالمثل فهي مسألة جزئيّة وطارئة تعلّقت بثُلّة عارضت الرّسالة الجديدة وناوأت صاحبها. 
وبالإضافة إلى تضخيم ظاهرة الإعجاز وجعلها جانبا مهمّا في الدّين الجديد، فإنّ الوعي الدّيني الّذي أنتجه المفسّرون الأوائل لم ينتبه إلى هذا البون بين القول القرآني والقول الشّعري. وما تخبّطه في هذا الخلط إلّا نتيجة لعدم الانتباه إلى الفوارق النّوعيّة بينهما. 
والجدير بالملاحظة، هو أنّ المسألة تتجاوز المصطلح إلى طريقة الأداء وأساليب التّفكير لإنتاج رؤية يختلط فيها المعنى القرآني بأدوات إنتاج المعنى الشّعري، علما بأنّ العالم الدّلالي الّذي يشيّده القرآن بعيد عن عالم الشّعر، ولاسيّما من جهة القصد. ويبدو أنّ أبا بكر الباقلاّني قد أدرك هذا المعنى وعبّر عنه بقوله:«إنّ الّذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لأضلّ من حمار أهله وأحمق من هبنّقة»(2).
والحاصل من الرّؤية التّراثيّة إزاء مسألة الإعجاز، أنّ القرآن متميّز من جهات عديدة: من جهة مصدره، ومن جهة نظمه، وطريقة تأليفه ومعانيه. وكلّ ذلك يكشف عن مظاهر تفرّده وخروجه عن حدود المألوف من الوقائع الكلامية والخطابيّة، وهذه السّمات اعتبرها القاضي عبد الجبّار دليل نبوءة وعلامة على أنّه من اللّه(3)، وهو أمر لا غبار عليه. فبان حينئذ، أنّ الفرادة ماثلة في الخروج عن حدود أحسن مستويات الفصاحة التّعبيريّة وأساليب البلغاء، ممّا يؤكّد أنّ الإعجاز إبداع باللّغة داخل اللّغة. 
ومع هذه المحاولات للإحاطة بالإعجاز، بما هو طاقة في القول ترفع سلاح التّحدّي، فإنّ هذه الظّاهرة اللّغوية، لا يمكن الإحاطة بحدودها. فغاية المرام، حينئذ، هي الإقرار بوجودها والتّسليم بسلطتها في عذوبة الخطاب وتأثيرها في النّفوس. فالكلام المعجز هو كلام ليس كغيره من الكلام. وإذا كانت وظيفة البلاغة تقف عند وصف الخطاب، فإنّ ماهية الإعجاز تفوق مستوى الوصف لتطال طبيعة النّظم والأسلوب(4).
إنّ الطّريف، فيما ذهب إليه الباقلاّني، هو اعتباره أنّ حصر الإعجاز الوارد في القرآن في مجرّد البلاغة وأساليبها يعدّ مدعاة إلى إمكانية الإتيان بمثله بفضل الدّربة والتّمرين. في حين أنّ الإعجاز لا يكون إعجازا إلاّ إذا أعجز غيره على تقليده والإتيان بمثله، فلابدّ أن تكون هذه الطّاقة في البلاغة طاقة مضافة وغير مقدور عليها، يقول: «وقد قدّر مقدّرون أنّه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب وأنّ ذلك ممّا يمكن الاستدلال به عليه. وليس كذلك عندنا لأنّ هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصّل إليها بالتدرّب والتعوّد والتصنّع لها، وذلك كالشّعر الّذي إذا عرف الإنسان طريقه صحّ منه التعمّل له وأمكنه نظمه. والوجوه الّتي نقول إنّ إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس ممّا يقدر البشر على التصنّع له والتوصّل إليه بحال»(5).
وقد ذهب السّكّاكي، في هذا الإطار، إلى أنّ «الإعجاز يُدرك  ولا يمكن وصفه كما يُدرك طيب النّغم العارض لهذا الصّوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة السّليمة»(6).
والمهمّ، هو أنّ الإعجاز ظاهرة تلد في رحم  النّصّ ضمن ما يُعتمد من الأساليب في علم البيان وعلم المعاني ما يجعل اللّغة تتجاوز وظيفتها الأولى إلى تحقيق وظائفها الفنّيّة والتّأثيريّة. وقد تظافر في صياغة البيان القرآني إيقاع منسجم ونغميّة متدفّقة ومشاكلة بين المعاني مع معجم مخصوص على درجة من الفصاحة وأسلوب بليغ غير مسبوق. 
ولعلّه من المفيد الإشارة إلى موقف الرّمّاني المتصدّي للمشكّكين في فصاحة المعجم القرآني انطلاقا من بعض السّياقات القرآنيّة من قبيل لفظة «أكل» فقد اقترحوا افترس بدلا منها، وفي «الكيل اليسير» قالوا: لا يكون اليسر مع الكيل، وكذلك لفظة «مشى» الّتي يرون أنّ مضى أبلغ منها. وأنّ فعل «هلك» لا يكون مع الأشياء وإنّما الأبلغ أن يكون مع الأشخاص. وإزاء هذه الطّعون  يتوسّع الرّمّاني في الإبانة عن أفضليّة الاستعمال القرآني لإصابة المعنى المقصود(7). 
لقد كان اللّه تعالى متعالياً في بيانه الّذي سحر الألباب، فتميّز بذلك عن الكلام البشريّ في أسلوبه ومعانيه. والإشكال المطروح يتمثّل في التّلاقي الحاصل بين هذا النّوع من الكلام المتعالي والذّهن البشري النّسبيّ. والسّعي المبذول وراء استخراج المعنى من هذا النّصّ وما يتسنّى للعقل البشري أن يستنبطه منه مسألة تهمّ كلّ النّاس المخاطَبين به. علماً بأنّ كلّ مباشرة للنّصّ، قراءةً وتفسيراً، إنّما هي في جوهرها عمل تأويلي، حتّى وإن اعتبرت اللّغة مجرّد أداة لبلوغ المعنى وليست جزءا أساسيّا مركوزا في العمل التّأويلي. 
إنّ الشّحنة التّأويليّة تتلبّس بالمعنى اللّغوي ذاته، فالصّوت واللّفظ والعبارة كلّها تتلوّن بألوان الذّوق والفكر، على اختلاف المراجع والمنطلقات الذّهنيّة والعقديّة، وعلى هذه الصّورة يصبح «النّصّ، في الشّرح اللّغوي، سلطانا وليس خادما»(8). وهذا التّفسير اللّغوي، وإن بدا شديد الارتباط بالمسألة اللّغويّة، فإنّه أشدّ التصاقا بمذهب صاحبه وشخصيّته وعلاقته بعصره والمجتمع من خلال اختياره للأصوات والألفاظ والتّراكيب. والتّساؤل الّذي يظلّ قائماً في ذهن الدّارس، هو حول مدى إلمام المفسّر بحدود هذا الكلام المعجز ومدى إدراكه للمقصد المراد الّذي تُستنبط الأحكام والتّشريعات منه في ضوء فهمه؟
وعموماً فإنّ المفسّر المعتمد على اللّغة يحرص على الانضباط بالنّصّ وحدوده وإن أقام جدلاً بين اللّغة وسياقها التّاريخيّ والثّقافيّ. يقول نصر حامد أبو زيد في هذا السّياق: «إنّ المصدر الإلهيّ لتلك النّصوص لا يُلغي إطلاقاً حقيقة كونها نصوصاً لغويّةً تملك ما تعنيه اللّغة من ارتباط بالزّمان والمكان التّاريخيّ والاجتماعيّ. وأيّ حديث عن الكلام الإلهيّ خارج اللّغة من شأنه أن يجذبنا، شئنا أم أبيْنا، إلى دائرة الخرافة والأسطورة»(9). والدّارس لا يجد بُدّا في هذا المجال من أنْ يُشير إلى أنّ إهدار السّياق الثّقافي وإهدار مقام القول هما اللّذان سهّلا على الضّمير الدّيني القبول بأنّ الحوت غير اللّاحم، بإمكانه أنْ يلتقم الإنسان، وأنّ عمر المرء من الممكن أنّ يمتدّ ويطول إلى عدّة مئات من السّنين، وأنّ شمّ رائحة قد يُعيد البصر للأعمى. وأنّ السّمكة النّاضجة، المُعدّة للأكل بإمكانها أنْ تنُطّ وترمي بنفسها في البحر. وأنّ الطّير بإمكانه أنْ ينطق وما ذلك إلّا عجيب مسقط على سياق الآيات وما تضمّنته من معان لا علاقة لها به. ولكنَّ التّصديق به دخل من باب الإعجاز. 
ودعما للمركزيّة الّتي تحتلّها المؤسّسة اللّغوية في فهم النّصّ القرآني، فقد انكبّ أوائل المفسّرين على تذليل الغريب من المعجم ومحاورة طرائق التّأليف بما يسمح به السّقف المعرفيّ المتاح. ولمّا تطوّرت طرائق الشّرح البلاغيّ والنّحويّ، عُدّ المتأخّرون من أمثال الرّمّاني والزّمخشري من أصحاب التّفسير البيانيّ، حيث يُوظَّف النّحو وتُستخدم البلاغة لبيان المعنى المراد من القيل القرآني. إلاّ أنّ اللاّفت للانتباه في حصر الإعجاز القرآني في حدود البيان يجعل التّفكير الدّيني في مضيق يتمثّل في أنّ هذا الإعجاز متعلّق، بطريقة مباشرة، بأصحاب اللّسان العربي دون غيرهم. وهو أمر يتعارض رأسا مع عالميّة الرّسالة الّتي نزلت على محمّد وخاتميّتها. وقد بدت هاتان السّمتان في صريح ما نطق به الخطاب القرآني. 
الهوامش
(1) يمكن العودة في هذا المجال إلى محمّد الطّاهر بن عاشور، التّحرير والتّنوير، ج1، الدّار التّونسية للطباعة والنّشر، د ت، ص ص95،96.(2)  أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، م س، ص65. ولعلّ من المفيد  التنبيه إلى وجهة نظر عائشة بنت الشاطئ، وإنْ لم نُشاطرها الرَأي، وهي المتمثّلة في أنّ القرآن لم يتهجّم على الشعراء وإنّما حقيقة الأمر تدور حول تنزيه المعجزة البيانيّة التي أوتيها الرّسول من القول الشّعريّ. انظر عائشة بنت الشاطئ، الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دار المعارف، مصر، 1971، ص86 وما بعدها.(3)  انظر القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التّوحيد والعدل، ج16، إعجاز القرآن،  م س، ص183.(4) V. Roman André, L’Expression du  JE  dans la langue arabe révélée , institut français de Damas, Bulletin d›Etudes Orientales, volume27, 1974, p14.(5)  أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن، م س، ص34.(6) انظر جلال الدّين السيّوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، م س، النّوع الرّابع والسّتون: في إعجاز القرآن،  ص153.(7) انظر الرّمّاني،  النّكت في إعجاز القرآن،  م س،  ص75. (8)  محمد الهادي الجطلاوي، قضايا اللّغة في كتب التّفسير، م س، ص31.(9)  نصر حامد أبو زيد، إهدار السّياق في تأويلات الخطاب الدّينيّ، القاهرة، يناير، 1993، ص5.