من المهجر

بقلم
محمد بن نصر
العدوانيّة الفرنسيّة تجاه المسلمين: أسبابها وسبل مواجهتها
 كثير من المتابعين للشّأن الفرنسي يصعب عليهم فهم ما يسمّى بالاستثناء الفرنسي البائس المتعلّق بالعلاقة بالإسلام والمسلمين. الصّعوبة تتأتّى من صورة فرنسا المخياليّة، بلد الأنوار والحرّية والدّيمقراطيّة ومن جهل بتاريخها الصّليبي والاحتلال المغتصب للثّروات والمهندس للعقول والنّقوس. نحاول في هذا المقال أن نتعرّض إلى الأسباب العميقة للعدائيّة الفرنسيّة وكيفيّة الحدّ منها وتجفيف منابعها. 
في البدء نحتاج إلى تنسيب للأشياء. متى كانت فرنسا في علاقة ودّية مع الإسلام والمسلمين؟ إنّ المستعرض لوقائع التّاريخ يلحظ دون أدنى عناء هذا المنسوب القويّ من العدائيّة للإسلام والمسلمين. مع الملاحظة أنّه بالرّغم من كثافة الصّخب الإعلامي الذي نشهده اليوم فإنّ هذا المنسوب في تقديري في انخفاض مستمر. بعد هذه الملاحظة العامّة نمر إلى الحديث عن الأسباب العميقة لهذه العدائيّة، سنتوقف عند خمسة أسباب رئيسيّة:
السّبب الأول:
مازالت فرنسا تتعامل مع المسلمين باعتبارهم رعايا لبلدان محتلّة (indigènes). بمعنى أنّ فرنسا مازالت محكومة ذهنيّا وليس واقعيّا بمنطق الاحتلال بخصوصيّته الفرنسيّة القائمة على تدمير ثقافة الآخر.
السّبب الثاني:
فرنسا تشعر بأنّ ظهرها محمي، فمهما صعّدت من سياستها مع المسلمين فإنّها ستجد من النّخبة المستلبة في البلدان الأمّ لمسلمي فرنسا من أصول غير فرنسيّة دعما لا مشروطا بل منوالا تستند إليه لإعطاء مشروعيّة لسياستها ضدّ المسلمين. طبعا من حقّ أئمّة الحداثة المغشوشة أن يدخلوا التّراب الفرنسي متى شاءوا وكيفما شاءوا لدعم سياستها ولكن يمنع ذلك على أئمّة المسلمين من العالم الإسلامي باعتبار ذلك من وجهة نظرها تدخّلا أجنبيّا.
السّبب الثّالث:
فرنسا تنتقم من نفسها لأنّها فشلت في سياسة الاستلاب التي راهنت عليها. فلم يقطع المسلمون الوافدون مع هويّتهم الدّينيّة والثّقافيّة. واختار أغلبهم التّعايش مع قيم الجمهوريّة. ولهذا مازالت تعتقد أنّ ما لم يحصل طوعا يمكن أن يحصل كرها.
السّبب الرّابع:
على خلاف ما هو شائع، مشكلة فرنسا ليست مع التّطرّف الإسلامي بل إنّ التّطرّف الإسلامي، إن لم يوجد كان من الضّروري إيجاده، إنّما مشكلتها مع الإسلام المعتدل. وعليه فإن البعض وخاصة من الأجيال غير الشبابية، يعمل على تغذية هذه العدائيّة لخلق حالة من التّلبيس التي تأمل فرنسا أن تؤدّي إلى التّخويف من الإسلام.
السّبب الخامس:
تعتبر فرنسا نفسها المدافعة عن هويّة المجتمع اليهوديّة/المسيحيّة وتعيش حالة من الهستيريا أمام واقع متغيّر سيفضي لا محالة إلى تغير نوعي في طبيعة المجتمع بحيث يصبح من طبيعة ذات أبعاد ثلاث، مسيحي، يهودي، إسلامي. لا ننسى أنّ السّياسة العدائيّة التي نشهدها اليوم ضدّ المسلمين في فرنسا مورست وبشكل لعلّه أفظع مع اليهود قبل حقبة الثّقافة المسيحيّة/اليهوديّة.
ما العمل؟ وكيف يمكن الحد ّمن هذه العدائيّة
 لا شكّ أن قدرة المسلمين على التّأثير إعلاميّا لمواجهة هذه الظّاهرة ضعيفة، على الأقل حاليّا. وقدرتهم على التّأثير سياسيّا تكاد تكون منعدمة، وعليه لم يبق أمامهم إلاّ إمكانيّة التّأثير الاجتماعي في العلاقة بالآخرين، والتّأثير القانوني في العلاقة بالدّولة والتّأثير الدّيني في علاقة بالمسلمين أنفسهم.
التأثير الاجتماعي:
في هذا العالم المعولم، يكاد الافتراضي يصبح هو المعبّر عن حقيقة واقعنا. بمعنى آخر العولمة جعلت القريب المادي بعيدا والافتراضي البعيد قريبا افتراضيّا وهذا أدّى إلى إخراج الواقع المحسوس من دائرة الاهتمام. الأمر الذي أنتج تضخّما في وسائل الاتصال وضعفا كبيرا في قيمة التّواصل وخاصّة مع المحسوس القريب. فتجد من يتواصل افتراضيّا مع العشرات والمئات وحتّى الآلاف ولم يفكّر في التّواصل مع جاره بالجنب. ولكنّ التّواصل الافتراضي الرّقمي تواصل بلا روح، وأحيانا بلا طعم سيخلف حالة من الشّعور بالعزلة عن عالم البشر وهي لعمري مفارقة من أنكد مفارقات هذا العصر. وعليه فإنّ المسلمين لو يعوا بأهمّية هذا الأمر في تعاملهم مع محيطهم الاجتماعي ويعطوه هذا الدّفء الذي يفتقده سيغيّرون وبسرعة الانطباع الذي يريد أن يرسّخه الخطاب العدائي ضدّهم. هذا الأمر لا يحتاج إلى أموال كبيرة ولا إلى إعلام، يحتاج فقط إلى قلوب مفعمة بالحبّ للإنسان. لا يمكن أن نتخيّل تأثير الانتشال النّفسي لكثير من النّاس فقدوا الإحساس بالوجود. ذلك من السّبل التي تساعد على إزالة هذا الانطباع السّلبي عن المسلمين. لا يحتاج إلى جهود كبيرة، يحتاج فقط إلى وعي بأهمّيته وبعد ذلك يمكن لكلّ فرد أن يفعّله بالطّريقة التي يراها مناسبة.
أمر آخر في المجال الاجتماعي على قدر من الأهمّية. تعوّد المسلمون في أوروبا على الخروج إلى الشّارع في قضايا تهمّ العالم الإسلامي وأساسا القضيّة الفلسطينيّة أو قضايا تتعلّق بالطّقوس الدّينيّة وهكذا يثبتون عمليّا وخلافا لما يعتقدون أنّهم علمانيّون. لا تهمّهم قضايا الفقر والتّهميش التي يعاني منها كثير من الفرنسيّين، لا تهمّهم قضايا الصّحّة وقضايا البيئة. من واجبهم ومن مصلحتهم أن يكونوا إلى جانبهم. كثير من قضايا هذا البلد قضاياهم ولها تأثير مباشر على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. خاصّة وأنّ الدّفاع عن قضايا العدالة من صميم دينهم ولكن في الوقت نفسه هو البوابة التي يدخلون منها إلى قلوب الآخرين. إذا لم يجد ضحايا الرّأسماليّة المتوحّشة والنّاعمة وما أكثرهم، المسلمين إلى جانبهم، ولم يشعروا بأنّ آلامهم واحدة وهمومهم واحدة، فسيصدّقون كلّ ما يقال عنهم.
الجانب القانوني
احترام القوانين وتغييرها بالأساليب التي يجيزها القانون علامة تحضّر الشّعوب. يقول الضّعفاء القوانين وضعها الأقوياء فلماذا نحترمها؟ ولكن بدل أن يعملوا يدا واحدة على تغييرها يعمدون إلى التحيّل عليها متفرّقين وفي أغلب الأحيان بكثير من الغباء ولذلك كثيرا ما يسقطون في شرّ أعمالهم. صحيح أن الأقوياء يتلاعبون بالقوانين ولكن بحرفيّة عالية تجعل القانون نفسه عاجزا عن متابعتهم. سادت للأسف عند بعض المسلمين فكرة التّصادم و التّحيّل على القانون بعضهم بدعوى لا حكم إلاّ للّه وبعضهم بدعوى احترام القانون مكبّل للضّعفاء، وآخرون بدعوى قوانينهم تحمي مسروقاتهم، دمّروا بلداننا وسرقوا باسم القوّة ويريدوننا أن نستسلم لهم باسم القانون. فنحن عندما نتحايل على القانون في الحقيقة نسترد بعض الفتات من حقوقنا المسلوبة. لا يسع المجال هنا لمناقشة هذه التّبريرات الواهية، الذي يهمنا هي الصّورة التي ترسخها هذه الممارسات في أذهان الآخرين. الإنسان بالقيم التي يحملها وليس بالمنافع التي يتحصّل عليها بالطّرق الملتوية. احترام القانون في حدّ ذاته قيمة أخلاقيّة، الالتزام بها يبعد الإنسان عن الشّبهات خاصّة عندما يكون تحت مجهر يشتغل على مدار السّاعة، ولا يجب أن ننسى أن ما يرتكبه المسلم من صغائر يصبح عند الإعلام المتأهّب لكلّ زلّة كبائر. الالتزام بالقانون، فضلا على كونه، ضرورة أخلاقيّة هو سبب من الأسباب المهمّة التي تساعد على إزالة الانطباعات السّيئة عن المسلمين والتي يستثمرها الخطاب العدائي بنجاح. الالتزام بالقانون يُدخل المسلم في عالم المنافسة المفتوحة ويفرض عليه الإتقان في كلّ أعماله.
على المستوى الفكري والتّعليمي:
من المهام التي يجب أن تعكف عليها النّخبة المسلمة، بكلّ جرأة وشجاعة، المراجعة الفكريّة والنّقدية، إنّها من أعقد المهمّات وأخطرها. في تراثنا الحضاري أفكار ومواقف وممارسات، لا تشرّف المسلمين. هي لا تختلف حقيقة عن مثيلاتها في الحضارات الأخرى، الفرق الوحيد في الحضارات الأخرى أنّهم جعلوها جزءا من التّاريخ وربطوها بسياقاتها الاجتماعيّة والتّاريخيّة وفي حضارتنا جعلوها فوق التّاريخ، وثيقة إدانة يحاسب عليها المسلم في كلّ مكان وزمان. لا شكّ أنّ عدم النّزاهة العلميّة لعب دورا مهمّا في ذلك ولكنّ المسلمين لهم أيضا مسؤوليّة كبيرة في ذلك لأنّ تاريخهم مازال يتحكّم في حاضرهم. لم يشتغلوا عليه بالشّكل العلمي المطلوب، لم يقوموا بالمستخلصات الضّروريّة منه ويعيدون جزئيّاته التي أنهكتهم إلى سياقاتها التّاريخيّة والاجتماعيّة. التّاريخ إن لم تتحكم فيه يتحكم فيك ويستخدمه الآخرون لخنقك به. ولكن ما يهمّنا هنا تحديدا تاريخ الفقه الإسلامي، مقاصد الدّين كثيرا ما تمّ تغيبها في الثّقافات السّائدة فأعاقت النّفاذ إليها، بل أحيانا تصادمها. وبما أنّ أفهام الدّين من كسب الإنسان، فكلّ كسب بشري يجب أن يعرض على محكّ العلم من حين لآخر، فلا يصحّ القول بقائله ولكن يصحّ بمتنه حين يصمد أمام النقد.
المقرّرات الدّراسيّة المعتمدة في المدارس والمعاهد الإسلاميّة مليئة بالأقوال والأحكام، وحتّى بعض الأحاديث التي اجتهد العلماء في تصحيحها فجعلوا منتجات عقولهم البشريّة وحيا إلهيّا منزّهة عن الخطأ ويجب تحرير الدّين منها. هذا عمل ضروري وللأسف تأخّر كثيرا ولكنّه لا يكون مثمرا إلاّ عندما يكون نابعا من إرادة ذاتيّة وليس استجابة لنزوات خارجيّة مفروضة.