خواطر مشروع مواطن

بقلم
فيصل العش
المرآة العجيبة

 كان جدّي يواعدنا كل ليلة أحد في بيته المتواضع ليروي لنا إحدى حكاياته المعبرّة . وكنت وإخوتي ننتظر تلك السهرة  في شوق كبير فهي وسيلة ترفيهنا الوحيدة في زمن كان التلفاز فيه حكرا على أكابر القوم وأغنيائهم . أتذكر أنني كنت أحفظ  حكاياته عن ظهر قلب بكل تفاصيلها لأرويها لأصدقائي في وقت الرّاحة حتّى غدوت "حكواتي" المدرسة . 

حكى لنا جدّي ذات مرّة عن طاغية جبّار ترعرع في ظل عرش السلطان وشبّ في خدمته وتسلّق سلّم الرتب ضمن حاشيته حتّى غدا وزيره المبجّل و لمّا هرم السلطان افتّك العرش منه وأعلن نفسه ملكا على البلاد وأخضع رقاب الناس لحكمه بقوة السيف.ورث هذا الطاغية عن السلطان مرآة عجيبة تتكلّم كما يتكلم الناس ، إذا وقف أحد أمامها وسألها عن رأيها فيه أجابته بصراحة وعددت خصاله وكشفت عن نواقصه. قرر الطاغية أن يستفيد منها فطلب منها أن تمدحه ولا تذكر مساويه أمام الناس فرفضت بادئ الأمر ولكنه هددها بالتهشيم ومارس عليها أنواعا شتّى من الترهيب فخافت ورضخت ووافقت مكرهة. 
دأب الطاغية على جمع الناس في ساحة القصر كل مساء  ليشاهدوا بأعينهم مرآته العجيبة وهي تمدحه وتسرد خصاله. يقف أمامها  ويسألها عن نفسه فتجيبه بأنه خير الملوك وأفضلهم فإذا سألها عن خصاله نعتته بأحسنها وكالت له المدح بأرقّ الكلمات و أحلاها. 
تتالت السنون وراء السنين ، والملك يتفنن في قهر الناس وإذلالهم وكلّما زاد جوره ارتفعت كل مساء عبارات المدح و الاستحسان من المرآة العجيبة . ولمّا اشتدّ بأسه وضجر الناس منه ثاروا وقاموا عليه قيمة رجل واحد ففرّ هاربا واحتمى بأحد السلاطين. 
فرح الناس واستبشروا بفوزهم واختاروا للعرش ملكا جديدا متواضعا كان قد رآى الويل من الطاغية الهارب وذاق الأمرّين من زبانيته.  
استبشرت المرآة العجيبة بهروب الطاغية وقررت استرداد حريتها وزيادة فأصبحت لا تعرف للمدح طريقا بل أنها أضحت تكشف أخطاء الحاكم الجديد وتكرر مساويه على مسامع الناس من دون ذكر فضائله . فضجر منها الحاكم الجديد وقرر أن يرميها جنوده من أعلى الجبل لتتكسّر على صخوره فيرتاح منها . لكنّ حكماء المملكة أقنعوا الملك أن حكمه لن يكون صالحا بدون مرآة تطلع الناس على خصاله وتكشف لهم عن نواقصه ثم جلسوا إلى المرآة العجيبة يصلحون من شأنها ويذكرونها بأن الحرية الحقيقية لا تعني التهور وقلب الحقائق  وأن واجبها نقل ما تراه للناس من دون زيف ولا نفاق . فعادت المرآة إلى رشدها وأصبحت مزارا للملك وحاشيته وجميع الناس ينظرون إلى أنفسهم فيها فيصلحون خطاياهم ويضاعفون مزاياهم وانتشر العدل وتآلف الناس مع حكّامهم وعاشت البلاد زمنا طويلا في السّلم والأمان... والفاهم يفهم...