حوارات

بقلم
محمد بن الظاهر
مع الدكتور يوسف بن عدي: فلسفة تدريس الفلسفة أو الفلسفة داخل الحجرة
 (1) مرحبا بك دكتورنا يوسف، ابتداء أودّ طرح سؤال ماهويّ كحدٍّ مؤسّس لنقاشنا:
من هو مدرس الفلسفة؟ وأين تتجلّى مهمّته؟.
أهلاً بك. أنا أسعد بهذا اللّقاء الذي يسرُني أنْ أتحدث عن تجربتي التّدريسيّة سواء في التّعليم الثّانوي أو كأستاذ مكوّن سابق بالمركز الجهوي لمهن التّربية والتكوين؛ فالحديث في هذا المعرضِ لن يكون عن التّجربة في حدّ ذاتها لكنّهُ حديث سوف أشيرُ من خلاله إلى بعض اللّحظات التّدريسيّة والبيداغوجيّة لبيان وتوضيحِ أسئلتكم وبالتّبعيّة إفادتي الزّملاء والزميلات المقبلين على التّدريس. أعتقد أنّ سؤال «من هو مدرس الفلسفة؟» لا يعني أنّنا سنحفر عن فلسفة هذا المدرّس وخلفياته أو مقروءاته وإنّما سؤال من هو المدرس في سياق العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة والذي لن يكون سوى ذاك الذي يتحمّل مسؤوليّة تدريس مادّة الفلسفة في التّعليم الثاّنوي مسؤوليّة بيداغوجيّة ومسؤوليّة تنويريّة. وهما وجهان لا يفترقان في المشغل الفلسفي، فلا فلسفة من دون نقد وإعمال العقل ثمَّ لا بيداغوجيّة من دون إفساح المجال للمتعلّم للإدلاء برأيه أو التّعبير عن مواقفه كيفما كانت سلبيّة أو إيجابيّة. فمدرّس الفلسفة يكون المشرف على النّقاش الفلسفي الذي يكون في الفصل. وبهذا الاعتبار، يكون درسُ الفلسفة درسًا لترسيخِ الفكر النّقدي والمحاورة، ونبذ كلّ قراءة أحادّية الجانب لا تتيحُ فرصة الإصغاء للآراء والتّصوّرات المغايرة. ولعلّ هذا لن يتمّ وفق رأيي من دون مظلمة بيداغوجيّة تكون من جنس هذا الدّرس الفلسفي وهي بيداغوجيّة مفتوحة تدفعُ المتعلّم والمدرّس إلى آفاق هائلة من الابداع والابتكار. وفي هذا الأمر شواهد كثيرة وحسبنا أن نسوقَ القول بالقول إنّ درس الفلسفة في ثمانينات القرن الماضي كان درساً في الأيديولوجيا والتّأدلج، وأنا لستُ من الذين يزعمون أنّ ذلك الدّرس لم يكن فلسفيّاً وإنّما أقول إنّ تلك الفترات التّاريخيّة من تجربتنا قد مكّنتنا من معرفة الفلسفة والأيديولوجيا وطرق اشتغالهما وآلياتهما فضلا عن ذلك أنّ تطور المجتمع المغربي ومنطق العالم الحديث قد «فرضا» هذا النّوع من التّعلّم والتّدريس بل أكثر من ذلك كان السّؤال الأهم هو ماهي الأيديولوجيا التي يجب أن يتبنّاها المتعلّم؟ ولم يكن السّؤال ماهي الطّريقة البيداغوجيّة الملائمة لتدريس تاريخ الفلسفة؟. إنّنا كنّا أمام تاريخ الأيديولوجيّات وليس أمام تاريخ الفلسفات. أليس تاريخ الفلسفة هو تاريخ الأنساق الأيديولوجيّة؟ هذا سؤال قد يخرجُ عن موضوع هذا اللّقاء والحوار.
(2) موضوعات الفلسفة مألوفة لدى المتعلّم، كيف إذن يمكن إثارة إنتباهه إذا ما أخذنا في الحسبان النظريّة السّلوكيّة في التّعلّم القائلة أنّ التّعلّم سلوك حاصل للمتعلّم بسبب مثير أو محفّز(مبدأ المنعكس الشّرطي)؟.
لاشكّ أنّ تدريس الفلسفة في التّعليم الثّانوي تدريسٌ يخضعُ لاعتبارات وجدانيّة وذهنيّة وجسميّة، فالنّمو العقلي لدى المتعلّم شرط لازم وعتبة ضروريّة كيْ يستطيع أن يفكّر مع مدرّسه(ته) في إشكالات وتساؤلات تكاد تكون عويصة بالنّسبة له. لذلك هناك مسألة هامّة في التّوجيهات التّربويّة لمادّة الفلسفة وهي مسألة التّدرّج . التّدرّج في الأفكار والتّدرّج في تناول القضايا الفلسفيّة العامّة والتدرج في قراءة النصوص الفلسفية والثقافية أو الشذرات أو الرسالة... شيئاً فشيئاً يكون في وسع هذا المتعلم أن يكتسب صوراً مختلفة عن قضايا الفلسفة: الحرية والشك والنقد والمنهج...إلخ. وأعتقد أن تحفيز المتعلم  وإحداث زوبعات ذهنية تحدث في وجدانه وعقله حقلا كبيراً من التساؤلات... فهو ينخرط معك - سواء اتفق معك أو اختلف- بيقظة وانتباه وإن لم يكن كلاسيكيّا إن جاز القول في حديثك عن مفاهيم الفلسفة ومشكلاتها. التّحفيز هنا قد لا يثمر في كثير من الأحيان من خلال النّظريّة السّلوكيّة أو الجشتالطيّة، ولكنّه قد يكون خلاّقاً وذا أثر واضحٍ عن طريق نظريّات تعليميّة وببيداغوجيّة تكون مفتوحة على الحدث واللاّمتوقّع.
(3) لكانط قولة مشهورة: «لا نتعلّم الفلسفة، بل نتعلّم كيف نتفلسف»؛ من منظوركم هل يمكن تعليم الفلسفة أم تعليم التفلسف؟
وما السبيل إلى تعليم التفكير الفلسفي؟.
طبعاً لا ينبغي أن يكون تصوّرنا مقيّداً بعبارة الفيلسوفين الألمانيين ايمانويل كانط وفريدريش هيغل بين التّفلسف والفلسفة، إذ هما يخدمان معاً التّعليم الفلسفي أكثر من افتراقهما وإنْ كان الأمر يتعلّقُ بالاختلاف المذهبي بين رؤية كانط للعقل وأدواته وحقوله ورؤية هيغل للعقل وعلاقته بالتّاريخ والسّياسة وتطوّر الوعي. ومن ثمّة، فإنجاز الدّرس الفلسفي أو درس الفلسفة هو منوط بالمنجز وشروط الانجاز بطبيعة الحال.، وقد لا نكون في منأى عن هذا القول إذا قلنا إنّ المزاج كما يقول جالينوس شرط مهمّ في اعتدال درس الفلسفة ونجاحه. والنّجاح لا يقابله عندي الفشل بل يقابل الخلل في نقطة لم يتمّ تطويرها في سياق التّدريس أو غموض أحاط بمفهوم أو مصطلح لذلك وقع التباس في ذهن المتعلّم...وهكذا. ثم إنّ الرّتابة والتّكرار هما العدوّان اللّدودان لدرس الفلسفة في التّعليم الثانوي. الحلّ في رأيي أنّ تنويع النّصوص أو الشّذرات أو القضايا التي ينتقيها المدرّس أو يثيرها المتعلّم تكون باباً مشرعاً للحوار الفلسفي ومناسبة كبيرة لترسيخ قدرات وكفايات. وإذا كانت هذه الرّتابة هي السّائدة في درس الفلسفة، سنعثر عليها بوضوح شديد في منجزات المتعلّمين بحيثُ يغيب لديهم الحسّ النّقدي أو على الأقل التّعبير عن مواقفهم. كلّ ما نجده هو سرد للأطروحات التي تخفي هشاشة المتعلّم وضَعفه الفكري!
(4)هل يمكن الحديث عن خصوصيّة الدّرس الفلسفي في المغرب وما واقعه في المدارس عامّة والجامعات خصوصا؟وهل تنتج عندنا في الجامعة كفاءات قادرة على خلق تنمية مستدامة للدّرس الفلسفي والإبداع في تقديمه؟.
أنا لا أرى أنّ درس الفلسفة في المغرب تراجع وتقهقر إلى الوراء قياسا بلحظات زمنية من تاريخ المغرب المعاصر، كما أني لا أرى أن درس الفلسفة في السبعينات والثمانينات كان درساً أيديولوجيا لا فلسفة فيه، ودرس الفلسفة في الألفية الثالثة درساً في الفلسفة لا ايديولوجية فيه. أعتقد أنهما معاً متعالقان ومتلازمان مع الفروق التي تبدو في منطقهما، منطق الفلسفة ومنطق الأيديولوجيا. أقول هذا الكلام لأن بعض الباحثتين يُمعنون في احداث القطع التام بين الفلسفي والأيديولوجي في درس الفلسفة بل صار مناسبة لتاريخ لمراحل الدرس الفلسفي في المغرب مرحلة الأيديولوجيا ومرحلة الفلسفة بين ظُفرين. والحال أن الأمر لا يستقيمُ بهذا الشكل ولا يقبل بهذه الصيغة. خصوصية الدرس الفلسفي ترجع في نظري إلى قدرته على ترسيخ النزعة النقدية في التعليم المغربي ضد الجمود والتقليد والتبعية. قد تكون هذه النزعة النقدية ذات طابع أكاديمي صرف لكنني أرى أثَرَها كبيرا وهائلا في درس الفلسفة بالتعليم الثانوي  من حيث طبيعة النصوص الفلسفية والثقافية التي يتم تقديمها من عصور مختلفة وفلسفات متنوعة تستند إلى مرجعيات حداثية وما بعد الحداثة. فالمثقف المغربي حامل المشروع الفكري قد أسهم برؤيته النظرية والتاريخية والتأويلية في إضفاء المنحى النقدي على درس الفلسفة في التعليم الثانوي والجامعي. وأكيد أن الكتابات والمؤلفات التي تصدر في الفلسفة وعلوم الإنسان والنقد والآداب دليل على تلك النزعة النقدية المنتشرة هنا وهناك. ومهما اختلفنا في مضامين هذا النقد ومصادره ومآلاته، فهو اختلاف يؤسس لمدى حيوية درس الفلسفة في المغرب المعاصر.
(5) أيمكن القول أن البيداغوجيا تقيد إبداع مدرس الفلسفة وأيضا روح التفلسف؟ وهل يمكن الاستغناء عنها في تدريسية الفلسفة؟.
ربما يكون هذا السؤال من افتتاحية الدروس في ديداكتيك الفلسفة، هل الفلسفة تحتاج لخطاب بيداغوجي أم في الفلسفة بداغيوجية خاصة بها؟.
وهكذا ينتجُ عن هذا القول وجود تيارات في هذا الباب منها النزعة البيداغوجية والنزعة الفلسفية «اللابيداغوجية». وأعتقدُ أنّ المشكل الحقيقي هو منطق الهيمنة المضاد لماهية الفلسفة ومضاد أيضاً لماهية البيداغوجية. فجعلُ كلّ تيار أو مدرسة تنافحُ عن أسبقيتها أو قدرتها على إخضاع المجال لصالحها هو منطق غير مقبول. وربما يساهمُ في عرقلة  تطور التفكير النقدي أكثر مما يرسم معالمه وملامحهُ. أرى أن الحل لهذه المعضلة قد يكون في الطرف الثالث المغيّب وهو النقد. فالقول إن الفلسفة لا تحتاج إلى بيداغوجيا أو خطاب بيداغوجي هو قول غير صحيح لأنّ الفلسفة منذ الإغريق تسعى إلى بيان أفكارها والدفاع عنها والبرهنة  والتدليل من خلال تمثيلات أو استعارات أو أقيسة...وأما القول بأن البيداغوجية تقيد الإبداع والابتكار هو أمر يحتاج إلى شواهد، إذ لا يكفي أن نسوق عمليات التنميط أو طرق التعلم وصيغ تعليمية وتعلمية كي نحكم على الوضع بالتقييد. فالبيداغوجية منها من ساهمت في حرية التفكير ومنها أيضا من ساهمت في تحويل المتعلم إلى ذات سلبية. الحل يكمن في وظيفة الفلسفة ووظيفة البيداغوجيا، ألا وهو النقد والارتقاء بالفرد إلى مراقي الحرية والاستقلال الفكري.
(6)كيف نصل إلى أرضنة بيداغوجيّات توائم خصوصيّات المجال بعيدا عن «متابعة موضاتيّة» 
إن صحّ التّعبير، للمناهج الغربيّة ونأيا لكلّ أشكال الإسقاط واللّصق العقيم أحاديّ الرّؤية؟.   
طبعاً لا يمكننا إنكار ما ينتجهُ الغرب الحديث والمعاصر من مناهج وأدوات ووسائل للتفكير النقدي أو القفز عليها، ذلك أن أي إنكار لها يعني حتماً أننا سنكون خارج التاريخ ولن يكون للعالم العربي أي إضافة في العلوم. فملاحقة الإنتاج الغربي في البيداغوجيات والعلوم التدريسية  والتفنن في إسقاطها قد يكون هنا موضع الخطأ، لأن الصيحة والموضة هي الموجهة للتفكير وليس التفكير هو الذي قرر ما يلائمهُ من عدمه. إذاً، محاولات عربية ومغربية كثيرة في هذا الباب تعمل بصدق على تجاوز القراءة الإسقاطية نحو القراءة التفاعلية التي تأخذ من الغرب خبراته البيداغوجية والعلمية وتحاول استغلالها في التفكير في مشكلات التعليم في المغرب.
(7) في الأخير أود يا دكتور يوسف أن تقدم بعض النصائح التوجيهية
إلى مدرسي مادة الفلسفة؟.
تدريس الفلسفة في التّعليم الثّانوي فرصة مهمّة وكبيرة للمدرس لاختبار كفاياته وقدراته على الإصغاء للمتعلّمين والمتعلّمات، وفتح المجال للحوار الفلسفي، إذ يكون هاجس الكثير منّا  إنهاء المقرّرات الدّراسيّة وهذا أتفهمهُ وضغط الزّمن المدرسي ...إلخ. هذا كلّه لا يمنعُ من استثمار المدرّس لطاقات المتعلمين واستفساراتهم عن طريق استغلال مواقف فلسفيّة أو نصوص أو وضعيّات... كلّ ذلك يعطي لدرس الفلسفة حيويّته ونشاطه النّقدي.