حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
القانون والسّلطة أو متى يكون للقانون سلطة؟
 يعدُّ مفهوم السّلطة من أكثر المفاهيم السّوسيولوجيّة استخداماً في علم الاجتماع بصفّة عامّة، وعلم الاجتماع السّياسي بصفة خاصّة. تعرّف السّلطة بكونها الاستخدام الشّرعي للقوّة بطريقة مقبولة اجتماعيًّا، وهي القوّة الشّرعيّة التي يمارسها شخص أو مجموعة على الآخرين. ويعدّ عنصر الشّرعيّة عنصرًا هامًّا لفكرة السّلطة، وهو الوسيلة الأساسيّة التي تتمايز بها السّلطة عن مفاهيم القوّة الأخرى الأكثر عموميّة. ويمكن فرض القوّة قسرًا أو باستخدام العنف. وتعتمد السّلطة في المقابل على قبول المرؤوسين منح الحقّ لمن فوقهم من رؤساء بإصدار الأوامر أو التّوجيهات(1) . 
يمكن القول إنّ «السُّلْطَة» في معناها الاصطلاحي تعني «قدرة شخص على فرض إرادته على الآخرين أو التّأثير فيهم عن طواعيّة منهم بغية فرض نظام مخصوص»، ولقيام الدّولة يلزم وجود سلطة عليا يخضع لها جميع أفراد الجماعــة. والسّلطة السّياسيّــة هي أهمّ العناصر في تكوين الدّولة وحجر الزّاويــة في كلّ تنظيم سياسي، حتّـى إنّ بعضهم يُعَرِّف الدّولة بالسّلطــة، ويقول إنّها «تنظيم لسلطـة القهــر». ويشير رجال الفقه عموماً إلى أنّ المجتمعات الإنسانيّة البدائيّة عرفت بذور ظاهرة السّلطة حتّى قبل أن تنشأ الدّول بالمعنى المتعارف عليه حاليّاً؛ فالسّلطـة كانت أسبق في الظّهور من الدّولة، وكانت تمهيداً لها.
وقد انبثق من العلاقة القائمة بين القانون والسّلطة مبدأ دستوري يعرف بمبدأ سلطة القانون الذي يعني أنّ سلطات الحكم وجميع المواطنين في الدّولة خاضعون للقانون الذي سنّته بطريقة ديمقراطيّة سلطة تشريعيّة منتخبة ديمقراطيّا من قبل الشّعب. 
لسلطة القانون معنيان؛ الأول شكلي يحدّد الأحكام التي سّن القانون بناء عليها وفرض على المواطنين، فالمعنى الشكلي يتناول أحكام عمليّة سّن القانون وفرضه في الدولة الدّيمقراطيّة. وعلى سبيل المثال نجد تحديد حقوق وواجبات الفرد والسّلطة، المسموح والممنوع وتقييد سلطات الحكم بنّص القانون ويسمح للفرد عمل أي شيء ما عدا ما يمنعه القانون. وأما الثاني فهو المعنى الجوهري الذي يتناول مضمون القانون ومدى ملاءمته لقيم الدّيمقراطيّة.
فإلى أيّ مدى يمكن الإقرار بسلطة القانون وسيادته بالنّظر إلى ارتكازه على المبادئ العامّة من جهة وعلى الشّعب كصاحب للسّلطة من جهة أخرى؟
الجزء الأول: سلطة القانون: سلطة مستمدّة من المبادئ العامّة
يكون للقانون سلطة على الشّعب عامّة وعلى المواطن خاصّة حينما يستمدّ شرعيّته من المبادئ العامّة، وفي هذا السّياق يمكن تقسيم هذه المبادئ إلى قسمين؛ مبدأ الشّرعيّة (العنصر الأول) ومبدأ المساواة أمام القانون (العنصر الثاني)
العنصر الأول: مبدأ الشّرعيّة
إن الحديث عن مبدأ الشّرعيّة في نطاقها الواسع هو سيادة القانون أي خضوع جميع الأشخاص سواء كانوا أشخاص قانون خاصّ (ذوات خاصّة) أو أشخاص قانون عام (ذوات عامّة) للقواعد القانونيّة السّارية المفعول في الدّولة. والشّرعيّة هي فكرة تحمل في طياتها معنى العدالة وما يجب أن يكون عليه القانون(2). 
ويعتبر مبدأ الشّرعيّة أحد المكونات الأساسيّة لدولة القانون، فهو سيادة حكم القانون في الدّولة أو هي الخضوع إلى القواعد القانونيّة القائمة في المجتمع. وبهذا يمكن القول بأنّ مبدأ الشّرعيّة بما هو مبدأ دستوري يكرّس خضوع جميع السّلط داخل الدّولة للقانون، إذ لا يقتصر فقط على النّصوص التّشريعيّة بل يتعدّاها إلى النّصوص المكتوبة وغير المكتوبة. ويهدف هذا المبدأ إلى حماية الحقوق والحرّيات من جهة وإلى الحفاظ على النّظام العام من جهة أخرى.
العنصر الثّاني: مبدأ المساواة أمام القانون
إنّ مبدأ المساواة أمام القانون لا يقتصر أبداً على وجود تشريعات وأنظمة تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ولا تفرق بينهم على أُسس مثل الجنس والدِّين أو المذهب أو اللّون أو العنصر وغيره، بل لابدّ أن تترجم المساواة أمام القانون من النّاحية الواقعيّة. فيشعر المواطنون أنّهم بالفعل متساوون في الحقوق والواجبات، مثل المساواة في استخدام المرافق العامّة: فما دام المرفق العام نشاطاً تمارسه جهة عامّة في سبيل إشباع حاجة من الحاجات التي تحقّق المصلحة العامّة، وطالما كان المرفق العام بطبيعة وجوده خدمة للمجتمع ولمصلحة الجميع، فمن الطّبيعي لذلك أن يتساوى في استخدامه الجميع من غير تمييز أيّاً كان سببه (3) .
يجمع فقهاء القانون أنّ هناك نوعين من المساواة أمام القانون؛ الأوّل يتمثّل في المساواة العامّة في الحقوق والواجبات، ومن ذلك الحقّ في الحياة والحقّ في الأمن الشّخصي وغيره، فمثل هذه الحقوق يجب أن يتمتّع بها النّاس بصورة متساوية، بينما النّوع الثّاني يكون في المساواة بين فئة من النّاس وذلك على حساب الفئة المهنيّة أو الطّبقيّة، إذ ليس من العدل أن يكون الفقير ملزما بدفع نفس قيمة الضّرائب الذي يطالب بدفعها الغنيّ، أو نحو ذلك من الأمثلة التي يفترض أن يتعامل معها المشرّع بصفته صائغ للقانون على أساس مبدأ التّمييز الإيجابي (الأخذ بمعيار الفوارق الاجتماعيّة) .
الجزء الثّاني: سلطة القانون: سلطة مستمدّة من الشّعب
يكون للقانون سلطة على الشّعب حينما يستمدّ شرعيّته منه بصفته صاحب السّيادة الأصليّة، وفي هذا السّياق، نجد أن سلطة القانون لا يوجد لها تكريس في الواقع المعيش للمجتمع الإنساني إلاّ في صورة ما إذا كان القانون يعبّر عن إرادة الشّعب (العنصر الأول) وقابليّة خضوع الشّعب للقانون. (العنصر الثاني)
العنصر الأول: تعبير القانون عن إرادة الشّعب
إذا نظرنا إلى الدّيمقراطيّة بنوعيها السّياسيّ والاجتماعي نجدها تقوم أوّلا على الإرادة الشّعبيّة، وتجسّدها ميدانيّا. فهي تتيح للأفراد فرصة المشاركة في الحكم من خلال مجالس مختلفة وممارسة الرّقابة على المسؤولين الذين فوّضهم الشّعب لإدارة شؤونه، كما تضمن للأفراد الحرّية بمختلف أنواعها والمساواة القائمة على الكفاءة والاستحقاق، ويرى «جون جاك روسو» في العصر الحديث أنّ الإنسان خيّر بطبعه، لكنّ المجتمع والحضارة أفسدتا طبيعته الخيّرة، و ظهر ما يسمى بمفاسد المجتمع؛ ولإصلاح هذه المفاسد وجب على أفراد المجتمع التّعاقد فيما بينهم والتّنازل عن بعض حقوقهم فقط مقابل حقوق أخرى، وهذا التّنازل يكون لصالح الأمّة، أو ما يسمّيه «روسو» بـ « الإرادة العامّة la volonté générale» والتي تتمثّل فيما تقره وتريده الأغلبيّة السّاحقة من أفراد الأمّة، وهذا التّعاقد يكون طوعيّا ومدّة الحكم وفق ما تحدّده الإرادة العامّة لأفراد المجتمع، وإرادة الشّعب هي في نهاية المطاف القانون الذي يجب الخضوع له وإطاعته.
فالدّيمقراطيّة إذًا، بما هي تعبير عن إرادة الشّعب، ليس لها أساس واحد بل عدّة أسس، وتكامل هذه الأسس هو الذي يحقّق الغاية من الحكم الجماعي، والمتمثّلة في تجسيد إرادة الشّعب وضمان تفتّح أفراده. وبهذا، فالنّظام الذي يستمدّ سيادته من إرادة الشّعب هو أفضل نظام سياسي.
العنصر الثاني: قابلية خضوع الشّعب للقانون
يشمل الخضوع للقانون ثلاث دعائم أساسيّة:
- الالتزام بعدم الإتيان بما تمّ منعه من طرف القانون.
- استناد العمل للقانون.
- اتخاذ واجب المبادرة متى اقتضت النّصوص ذلك.
لكي يتحقّق أكبر قدر من الإرادة العامّة وفق القانون في ظلّ وجود نظام ديمقراطي يجب أن يتحلّى هذا القانون بمقدار عال من الشّفافيّة والاستقلاليّة وأن يتّسم بمفهوم الرّقابة والمساءلة لأنّ أساس القانون هو الشّعب وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الدّولة، فهو الذي اختار طواعيّة العقد الاجتماعي المناسب بين أفراده من أجل تحقيق مصلحتهم العامّة، ولذلك نجد أنّ مكوّنات السّلطة الحاكمة في الدّولة تقوم بواجبها في خدمة الشّعب وتحقيق مصالحه، وفي حالة فشلها فإنّ حقّ استبدالها يعود أساسا إلى الشّعب عبر الآليّات المتفق عليها.
في الختام يجب على القانون أن يستخدم وفق ضوابط معيّنة تضمن تكريس الإرادة العامّة وتحقيق أكبر قدر ممكن منها في الدّولة الديمقراطيّة. ولا وجود لسيادة الدّولة إلاّ من خلال القانون، الذي يجب أن يتمتّع بمبادئ سيادة القانون واحترام مبدإ الفصل بين السّلطات واحترام مبدإ التّدرّج في القواعد القانونيّة وإلزاميّة وجود حقّ الرّقابة على دستوريّة القوانين.
الهوامش
(1) Anthony Giddens, Sociology. London: Polity Press, 1997:581.
(2) ألفة العجمي، كتلة المشروعية في فقه قضاء المحكمة الإدارية
(3)  للمزيد راجع الرابط : https://www.balagh.com/article/حقّ-المساواة-أمام-القانون