الأولى

بقلم
فيصل العش
الشّعائر التعبّدية غاية أم وسيلة؟
   (1)
إنّ الانسان خليفة اللّه –سبحانه- في عمارة الوجود، ومن ثمّ فإنّ حريته هي حريّة الخليفة، وليست حرّية سيد هذا الوجود، إنّه حرّ في حدود إمكاناته المخلوقة له، وهو حرّ في إطار الملابسات والعوامل الموضوعيّة الخارجيّة التي ليست من صنعه، والتي قد يستعصي بعضها على تعديله وتحويره وتغييره، وهو حرّ في إطار أشواقه ورغباته وميوله التي قد لا تكون دائما ثمرات حرّة وخالصة لحرّيته وإرادته، وإنّما قد تكون أحيانا ثمرات لمحيط لم يصنعه، ولموروث ما كان له إلّا أن يتلقاه. لهذا فإنّ هذا الخليفة (الإنسان) في حاجة ماسّة إلى ربط مسيرته باللّه المطلق(المستخلِف)، يستمدّ منه قوّته وتوازنه، ويحقّق تكامله ويتجاوز ضعفه ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾(1) ومن ثمّ يتصدّى للمعيقات التي تسعى إلى تحديد حرّيته، لذا هو في حاجة مستمرّة للتّواصل مع اللّه. 
الاستمراريّة في التّواصل مع اللّه تتحقّق بذكر اللّه في كلّ وقت وحين، وانقطاع هذا التّواصل يؤدّي بالإنسان إلى الانحراف عن مساره الصّحيح في تحقيق الخلافة. يقول اللّه تعالى:﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾(2)، وكذلك قوله:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾(3). 
ولكي يستمرّ  التّواصل الغيبي للإنسان مع المطلق، خصّ اللّه عبده بمناسك وشعائر تعبّديّة متنوعة ومختلفة في طبيعتها وشكلها، وفي توزّعها الزّماني والمكاني، وأمره بالقيام بها والمحافظة عليها. قال تعالى:﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾(4)  وقال أيضا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(5) ولعلّ القصد من تنوع تلك الشّعائر من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وتوزّعها الى شعيرة يوميّة وأخرى أسبوعيّة أوسنويّة، إنّما للتّجديد المستمر للعقد بين الإنسان وربّه؛ والى تفعيل ذلك العقد بشكل لا انقطاع فيه ليبقى مستمرّا إلى أن يلقى الإنسان ربّه. 
هذه الشّعائر التّعبدية بكلّ أنواعها هي وسيلة هدفها ربط مباشر للمستخلَف بالمستخلِف لتمتين العلاقة بينهما؛ وكلّما كان الرّابط سليما كان النّجاح حليف المستخلَف في مسيرته، وكلّما كان التعبّد خالصا للّه كلّما ازدادت حكمة المستخلَف وقدرته على القيام بوظيفته الاستخلافيّة على أكمل وجه. إنّها وسيلة يستعين بها الإنسان في كدحه إلى اللّه ومسيرته الصّعبة والشّاقة نحو تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله، لهذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(6). 
وقد شرّع اللّه سبحانه هذه الشّعائر وجعل لمن يحافظ عليها ويخلص فيها أجرا عظيما لما لها من دور في تعميق الإيمان باللّه والقرب منه، والحثّ على طاعته وترك نواهيه، كما يبرز ذلك جليّا في إقامة الصّلاة ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(7) فالفائدة من إقامة هذه الشّعائر لا تعود إلى اللّه (الغنيّ عنها) بل إلى الإنسان نفسه الذي هو في حاجة إليها لتثبيت علاقته بخالقه والرفع من مستوى تقواه﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ ﴾(8)
  (2)
هذه الشّعائر رغم أهمّيتها لا قيمة لآدائها لدى الخالق إلّا بمدى مساعدتها المؤمن في مسيرته لإنجاز ما جاء في عقده مع اللّه من نفع للنّاس وإعمار للأرض وتحقيق لصفات مستخلفِه فيها من عدل ورحمة وانتصار للمستضعفين. هي لا تساوي شيئا عند اللّه إذا ما تمّ عزلها عن حياة الإنسان ومشاغله وعن كدحه المتواصل وهمومه. لهذا جاء في حديث رسول اللّه ﷺ أنّ «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من اللّه إلاّ بعدا»(9) وقوله ﷺ : «من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (10)  
هناك من يسعى إلى فصل الدّين عن الدّنيا والعبادة عن العمل بتعلّة أنّ لدى الإنسان من الوسائل والإمكانيّات ما يجعله قادرا على فكّ الإرتباط مع اللّه وتسيير أموره بكامل الاستقلاليّة وتحقيق ما تسمو إليه البشريّة من رقيّ وتقدّم. هؤلاء واهمون، لأنّ فكّ الارتباط مع اللّه يعني خلق ارتباط جديد بمطلق آخر لكنّه مصطنع، فمن فطرة الإنسان البحث عن مطلق يستند إليه في مسيرته الشّاقة الطّويلة المدى، ويستمدّ من إطلاقه وشموله العون والمدد، ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون وبالوجود كلّه. «فالتّحرك الضّائع بدون مطلق تحرّك عشوائي كريشة في مهبّ الرّيح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثّر فيها، وما من إبداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مرّ التاريخ، إلاّ وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق، والالتحام معه في سير هادف»(11) 
أمّا الذين يحصرون علاقة الإنسان بربّه في إطار ضيّق من العبادة ويعتقدون أنّ كثرة الصّلاة والصّيام والقيام كافية للتّقرب من اللّه ونيل رضاه، فهم أيضا واهمون، لأنّهم فرّطوا في عقد الاستخلاف الذي يربطهم بربّهم، فالفصل بين الوسيلة وغايتها يفقد الوسيلة قيمتها، وعدم ربط الشّعائر التّعبديّة بغاية إعداد الإنسان للنّجاح في تحقيق الخلافة في الأرض يحوّلها إلى طقوس وعادات لا نفع فيها في الدّنيا ولا جزاء لها في الآخرة.
إنّنا في زمن تاه فيه الإنسان المسلم بين اتجاهين، أحدهما يسير به نحو الانغماس في مادّية تبعده عن عبوديّة اللّه وتغمسه في عالم تسوده عبوديّة الشّهوات والسّلطان والمال، وتحكمه الصّراعات والمصالح، والثّاني يسير به نحو ما يسمّى بالخلاص الفردي، يحصر العبادة في شعائر وأذكار ويتعامل مع اللّه تعامل التّجار، لاتأثير لتعبّده على حياته الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة أو على علاقاته بالنّاس من حوله. هذان الاتجاهان لا يؤهّلان الإنسان لممارسة خلافته في الأرض على النّحو الذي يرضاه المستخلِف (اللّه). المطلوب إذن العمل على إبراز خصائص اتجاه ثالث يدعو إلى نظام تعبّدي ينظّم علاقة الإنسان باللّه بطريقة تحقّق التّوازن والانسجام بين العبد وخالقه في المقام الأول، وبين مطالب الرّوح والعقل والنّفس والجسد في الإنسان ذاته في المقام الثّاني، وبين الإنسان ومحيطه وسائر محتويات الكون في المقام الثالث. 
 (3)
إن ما يميّز الطّقوس والعبادات من صلاة وصوم ودعاء هو المكوّن الرّوحي الإيماني الذي يهذّب النّفس ويمنح الإنسان - إذا ما أخلص في تأديتها - القدرة على تجاوز شرط التّناهي والفناء والضّعف (الطّبيعة البشريّة)، ويجعل التّواصل مع المطلق مستمرّا، الأمر الذي  يمنح الإنسان القدرة على معانقة الإلهي والرّوحي، وبالتّالي تتولّد لديه القدرة على الفعل الإيجابي باستمرار وبالطّريقة التي يرتضيها الخالق (المستخلِف). جاء في فتح الباري «قال اللّه تعالى: ما تقرّب لي عبدي بشيء أحبّ إلي ممّا افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطينّه، وإذا استغفرني لأغفرنّ له وإذا استعاذني أعذته»(12) فالإنسان إذا أخلص في صلاته أو صومه أو دعائه وسعى من خلالها إلى التّقرب إلى اللّه وربط الصّلة به، قرّبه ربّه إليه، ويسّر له طريقه وكان سندا له وعونا في تحقيق الأمانة التي يحملها. 
لكن انتفاء المكون الرّوحي من الشّعائر التّعبديّة  يجعلها مجرّد شعائر اجتماعيّة عرفيّة، سرعان ما تتحوّل إلى عادات وتقاليد يطغى عليها البعد الاحتفالي الاستعراضي.
ولعلّ ما نلمسه في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من تناقض ومفارقات في علاقة بالشّعائر التّعبديّة يجعلنا نفهم ما سبق ذكره. فلا تكاد تلج فضاء من فضاءاتها إلاّ وتجد من فيه يتحدّثون في الدّين وباسمه، يدافعون عن هويّتهم الدّينيّة، وهو دفاع يتحوّل أحياناً إلى القتل باسم الدّين وباسم اللّه؛ وأنت تلج السّوق، تسمع القرآن، كما تسمعه في معظم المحلات التّجاريّة وفي سيارات الأجرة. وفي أيام الجمعة كما في رمضان بعد الإفطار، تتحوّل الشّوارع والأزقّة إلى مساجد مفتوحة لعموم المصلّين، ناهيك عن انتشار المساجد والكتاتيب وجمعيّات تحفيظ القرآن والفقه والعقيدة، وفي المقابل تصنّف هذه المجتمعات في أدنى سلّم التّنمية والشّفافيّة وتتميّز عن غيرها من المجتمعات بقلّة العمل والإنتاج وارتفاع نسبة  الفساد الأخلاقي والانحطاط والتّخلّف والتّطرّف والغلوّ. فهل الحلّ في ترك تلك الشّعائر ما دامت لا تحقّق الهدف الذي شرّعت من أجله؟ طبعا لا، إنّما الحلّ في المحافظة عليها وتحريرها من الطّابع الاستعراضي مع وجوب النّفاذ إلى معانيها العميقة ومقاصدها التّربوية وآثارها الرّوحيّة التي أصبحت بمرور الزمن منسيّة وغير ذات أهمّية مقابل الافراط في الاهتمام بالرّسوم المتمثّلة في الأحكام الفقهيّة. 
إنّ الشّعائر التّعبديّة هي ضمان ارتباط الإنسان بالخالق المطلق والسّير نحو تحقيق صفاته من علم وعدل وقدرة، وتحرّرا من سراب كلّ مطلق مصطنع يعطّل مسيرة الإنسان نحو الكمال. لذا وجب علينا - نحن المسلمين- أن نهتمّ بالمكوّن الرّوحي للتلك الشّعائر من جهة، ونبرز من جهة أخرى ما يمكن أن تتضمّنه وتحقّقه من قيم إنسانيّة هي عماد مهامه الاستخلافيّة كالأخوة والتّسامح والتّعاون والتّضامن والتّفاني في العمل والنّظام والعدل والكرامة والحرّية.