حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
القانون والدّين أو في التّفريق بين اللاّديّانية والديّانيّة والائتمانيّة
 تمثّل الأنظمة السّياسية بدساتيرها وقوانينها والأحزاب ببرامجها وأيديولوجياتها، كيانات اجتماعيّة سياسيّة، خاضعة للسّياسة بقواعدها وللبشر بطبائعهم المتنوّعة، ولموازين القوى بتغيّر الظّروف وتطوّر مجريات الأحداث وطنيّاً ودوليّاً، وهذا ما يميّز الدّنيوي عن الدّيني الذي هو عبارة عن الدّيانات المقدّسة المُنزلة والمستمدَة من مخيال جمعي قاهر، ولذلك فالحكم على الأنظمة والكيانات السّياسيّة ينطلق من مدى تفاعلها مع المجتمع والتّجاوب مع احتياجاته بدءاً من حاجات النّاس العاديين من مأكل ومشرب ومسكن إلى بناء المؤسّسات الاجتماعيّة الكبرى ومؤسّسات الدّولة حسب خصوصيّة كلّ مجتمع، وحماية الحرّيات  الدّينيّة عامّة للمواطنين جزء من مسؤوليّة الدّولة.
تكمن الأهمّية المتعلّقة بموضوع كهذا في دراسة العلاقة التي يمكن أن تقوم بين الدّين، بما يحتوي من نظام تشريعي منزّل ينظم العلاقة بين النّاس الذين تربطهم الرّابطة الدّينيّة، أي المؤاخاة. وبين القانون، بما يمثّل من نظام تشريعي متّفق عليه ينظّم العلاقة بين النّاس الذين تربطهم الرّابطة السّياسيّة أي المواطنة. فإلى أيّ مدى يمكن الاتفاق على نمط جديد للعلاقة القائمة بين الدّين والقانون في ظلّ دعوات الوصل بينهما من جهة ودعوات أخرى تطالب بالفصل بينهما؟
وللإجابة على هذه الإشكاليّة ينبغي تقسيم الموضوع إلى جزءين؛ الصّدام الحاصل بين ثنائيّة الفصل والوصل (الجزء الأول) والاتساع الوجودي بين الدّين والقانون (الجزء الثّاني)
الجزء الأول: الصّدام الحاصل بين ثنائيّة الفصل والوصل 
عقب الثّورة التّونسيّة، تصدّرت المشهد السّياسي قطبيّة فكريّة متعارضة في طرحها لمسائل إيديولوجيّة حساسة ودقيقة أحدهما يدعو للوصل بين الدّين والدّولة أو بين الدّين والقانون (العنصر الأول) مرتكزا على التّجارب الشّرقية الإسلاميّة أساسا، ومعليّا من سقف التّديّن سبيلا لتحقيق الأمن والسّلام، والثّاني يدعو للفصل بينهما، الدّين والقانون (العنصر الثّاني) مرتكزا على التّجارب الحديثة الغربيّة أساسا، ومعليّا من سقف الحرّيات سبيلا لتحقيق التّقدّم.
العنصر الأول: الديّانيّة، أو دعاة الوصل بين الدّين والقانون
أقصد بالديّانية الأصوليّة، والأصوليّة في الأصل نشأت مشكلات اقتصاديّة وإداريّة وتنظيميّة جديدة كان لابدّ معها من مرونة حاذقة في التّشريع وفق الأسس المتداولة في الخلافة الإسلاميّة لتصبح الأصوليّة هي وصل الدّين بالسّياسة والتّشريع وقد اتّخذت أشكالا تطبيقيّة متعدّدة تراوحت بين التّوازن كنموذج أحزاب الإسلام السّياسي وبين التّطرّف كنموذج تنظيم الدّولة (نموذج عنيف) وحزب التّحرير (نموذج ناعم).
للأصوليّة أطروحة مركّبة، قائمة على نموذج استنتاجي يمكن تلخيصها في النّقاط التّالية:
- المقدّمة: الدّنيا مزرعة الآخرة، والدّين، بهذا الاعتبار، مرشد الدّنيا، يعين لنا نواميسها الخلقيّة والتّشريعيّة وغير ذلك من الأحكام؛ 
- الواسطة: الحياة المدنيّة في الدّولة هي الجانب الأوفر من الدّنيا؛ 
- الاستنتاج: فالدّين والدّولة توأمان أو، كما قيل: «الدّين أسّ والملك حارس»(1) .
شكلت هذه الأطروحة النّموذج الرّئيسي للحياة الدّينيّة في العالم الإسلامي وللحياة السّياسيّة في الحضارة الإسلاميّة، وبهذا المعنى يمكن الإقرار بأنّ الأصوليّة تحاول دمج الأوهام المتراكبة؛ من ذلك وهم المطابقة بين التّأويل والنّصّ المؤسّس سواء كان قرآنا أو سنّة، إذ أنّهم يصلون إلى المطابقة بين التّأويل ومقصود صاحب النّصّ، فيضفي ذلك قدسيّة لا على النّص فحسب، بل على تأويل بشري للنّص المقدّس. وكذلك نجد وهم الانتقائيّة في فهم النّصوص والاعتماد على الفهم الإجتزائي.
العنصر الثّاني: اللاّديّانية، أو دعاة الفصل بين الدّين والقانون
المقصود باللاديّانية هي العلمانية، وكما بيّنا سابقا فإن العلمانية في الأصل نشأت إثر مخاض عسير وصراع دموي مع الكنيسة فالعلمانية في نشأتها الأولى إنما هي فصل السلطة الكنسية عن الخوض في الشأن العام، ثمّ تطوّرت مفهوميّا عبر الزّمن لتصبح العلمانيّة فصل الدّين عن السّياسة والتّشريع، وقد اتّخذت أشكالا تطبيقيّة متعدّدة تراوحت بين التّوازن كالنّموذج الألماني وبين التّطرّف كالنّموذج الفرنسي، ولعلّ منهجيّة السّرديّة الخطابيّة التي ارتكز عليها دعاة الفصل في دعواهم لتدعيم أطروحتهم على أنّه: 
- يتأثّر الدّين الإسلامي كغيره من الأديان تحت ضغوطات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وبالتّالي فإنّه من غير المقبول أن يدّعي حزب امتلاكه لشرعيّة القول باسم الإسلام؛
- ضرورة النّأي بالإسلام باعتباره دينَا مقدّسا عن كلّ التّجاذبات باعتبارها شأنا دنيويّا مدنّسا؛
- تفرض الأحكام الدّينيّة نفسها على اتخاذ الحكم السّياسي ممّا يجعل هذا الأخير حكما غير مشرّع؛
- امتداد المفاهيم ومرونتها وقدرتها على التّأقلم مع الظّروف والحالات، إذ أنّ العلمانيّة كمفهوم يمكن لها الخروج من مناخها الأصلي إلى فضاءات جديدة أخرى، تكتسي معان أخرى ودلالات محليّة. 
الجزء الثّاني: الاتساع الوجودي بين الدّين والقانون 
لو تدبّر الطّرفان في أطروحاتهما تحت سقف الحوار للوقوف على أرضيّة مشتركة قصد تبديد مخاوف كلاّ الطّرفين (العنصر الأول) وذلك تمهيدا لنظرة تقوم على الاتساع الوجودي والتّماثل بين الدّين والقانون عبر البديل الائتماني (العنصر الثّاني).
العنصر الأول: تبديد المخاوف 
يكون تبديد المخاوف عبر مقاربة تفاهميّة تكشف الإجابة عن التّساؤل في كيفيّة تفكير الغير من الدّاخل وذلك من خلال المبادئ المشتركة بين الوصل والفصل وبالاستناد إلى العلوم المختلفة.
بالاستناد إلى علم الأنثروبولوجيا، بما هو علم يهتمّ بالثّقافات المتعاقبة، تبيّن أنّه ليس هنالك حضارة خلت من الفعل السّياسي بما هو تدبير للمجتمع الإنساني، وبهذا المعنى يكون المسجد النّبوي مؤسّسة سياسيّة إذ أنّ الرّسول ﷺ اتخذ منه دار حكم وإدارة لشؤون المجتمع الإنساني القائم على وثيقة الصّحيفة التي جمعت بين المسلمين(مهاجرين وأنصارا) واليهود وقبائل الأوس والخزرج، مكرّسا بذلك طابع المدنيّة في الدّولة. وقد لعب المسجد دورا في الدّين والدّنيا في نفس الوقت.
بالاستناد إلى علم التّاريخ، بما هو إما دراسة منهجيّة تطوّر «التّاريخ» ، أو مجموعة من الأعمال التّاريخيّة بشأن موضوع متخصّص، تبيّن أنّه ليس هنالك فترة في التّاريخ غاب فيها الدّين عن تدبير شأن النّاس، باستثناء الكنيسة التي تحوّلت من دين إلى سلطة بينما الإسلام لم يتحوّل إلى سلطة، إذ أنّه ومنذ أن بعث تميّز بكونه دين سيكولومي أو زماني يؤثّر في الواقع ويتأثّر به.
بالاستناد إلى علم السّياسة، بما هو علم الدّولة والسّلطة في مفهومها الضّيق القدرة أو القوّة وهو علم المتعلّق بالإمكانيّة التي تتحوّل إلى قدرة على التّمكين والتّأثير ثمّ تتنقل إلى الحالة والمكانة (إرادة وإدارة) يأتي بعد ذلك فنّ الممكن أو فنّ صناعة البدائل، ومن خلال تعريف العلم يتّضح أنّ مجال السّياسة هو مجال دنيوي بامتياز ولا دخل للدّينى أو المقدّس فيه باعتبار أنّ المقدّس غير قابل للتّعقل، فالدّين ليس له دور تشريعي في الحياة السّياسيّة وإنّما دوره تحفيزي إرشادي.
العنصر الثاني: طرح البدائل الائتمانيّة 
تتبنى الائتمانيّة مبدأ الاختيار، إذ تعتبر أنّ القانون الإلهي محلّ اختيار للإنسان، كما يكون القانون الإنساني محلّ اختياره، وعموما فإنّ الاختيار أصل في حين أنّ الوضع فرع؛ من ذلك أنّه كلّ موضوع مختار، فلا يختار المرء إلاّ ما يعرض عليه، في حين ليس كلّ مختار موضوعا، ولذلك فإنّ مبدأ الاختيار هو الأصل بينما يكون مبدأ الوضع هو الفرع. وما يترتّب عن مبدأ الاختيار توسّع الوجود الإنساني ولعلّ ذلك يتجلّى في الظّواهر التّالية:
- تضطرّ السّلطة التّشريعيّة لاختيار قوانين خارجة عن السّياق التّداولي الدّاخلي وذلك بالاستئناس بتجارب مقارنة وبهذا يتمّ الاختيار بين المبادئ والقيم سواء الوضعيّة أو العليا.
- الاختيار متى كان ائتمانيّا، يُخرج السّلطة التّشريعيّة من دائرة التّسلّط إلى دائرة التّدبير التّعبّدي وهو ما يوسّع الوجود على قدر الاختيار.
- الاختيار الائتماني يحدّ من الشّعور بالغلوّ النّاتج عن قدسيّة القانون كما يحدّ من الشّعور بالمركزيّة الذّاتية النّاتجة عن وضعه للقانون بسبب فعل النّفس الحاجبة للعالم الرّوحي.
- الإختيار الائتماني هو الإختيار الذي يجلب الخير المحض سواء كان الخير القاصر وهو الصّلاح المحصور في الوجود المرئي (يوصّل إليه الوضع العلماني) أو الخير المتعدّي وهو الصّلاح الذي يورّث السّعادة في الوجود الماورائي.
- الوضع العلماني لا يستلزم من المسؤوليّة قدر ما يستلزم الاختيار الإئتماني؛ إذ أنّ الواضعين للقوانين لا يقدّرون آثارها على الوضعيّة العامّة للمجتمع الإنساني سواء بالإيجاب أو السّلب بينما نجد المختارين يحرصون على ذلك.