فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
خير أمّة أخرجت للنّاس!!!
 النّهضة التي لم تتحقّق والحلم المجهض والثّورة المغدورة والتّقدّم الذي تأخّر وخطاب الأزمة المأزوم، كلّها عناوين للفشل. الفشل في أن ننتمي اختيارا إلى معادلة الحداثة- الهويّة التي لا وجود لها في الوقت الحاضر في العالم العربي إلاّ كفرضيّة في أجندة فكر بعض النّخب المثقّفة.
لدينا قناعة بأنّ أسباب هذا الفشل لا توجد فقط ناحية مخطّطات أعداء أمّتنا من ليبراليّة متوحّشة وصهيونيّة متغطرسة. وهب أنّ الأمر كذلك، فهل نحن أمّة من الكرتون حتّى يفعل الأعداء بنا ما يريدون؟!
إنّ عدوّنا الأكبر يسكن في أعماق تكويننا وبنية شخصيّتنا العربيّة-الإسلاميّة، التي هي حصيلة فعليّة لمحتدمات تاريخيّة لا مجرّد تعبير وفيّ عن روح النّص والتّجربة النّبويّة المؤسّسين لنواتها الأولى.
إنّ من دواعي العجب أن نقرّ بالحالة المأساويّة التي تعيشها أمّتنا، ومع ذلك نواصل زهونا المخدوع بكوننا « خير أمّة أخرجت للنّاس»، وكأنّ هذه الصّفة التي تضمنتها الآية الكريمة(1) صكّ على بياض منحنا اللّه إياه!
نحن الأمّة المهزومة، المهدورة كرامتها، المستباحة حرماتها، المتخلّفة عن ركب الحضارة، اللّهم إلاّ في استهلاك منتجاتها، نفخر بكوننا خير أمّة أخرجت للنّاس، والأمم الأخرى ما عدا أمّتنا هي في عرفنا أمم ضالّة وبائسة عليها أن تتّبع سبيلنا حتّى نعترف لها بالمشاركة في الوجود الشّرعي على هذا الكوكب!
« كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس» تحتوي على فعل كان في الماضي، ولكنّه ماض يدلّ على استمراريّة هي من جنس استمراريّة القاعدة العلميّة المعبّرة عن إحدى السّنن الكونيّة. ومعنى ذلك أنّ صفة الخيريّة مشروطة بالاستجابة لقوانين الوجود وقوانين التّاريخ الموضوعيّة. وإلاّ فإنّه ليس للّه شعوب مختارة لا يهود ولا عرب ولا غيرهم! إن هو إلاّ رب العالمين، بدون استثناء.
وحده العمل المستنير بنور العلم والفهم والمطابق لأخلاقيّة رفيعة هو الذي يمنح أمّتنا صفة كالتي نعت اللّه بها أتباع نبيّه الخاتم.
إنّ القرآن، الذي يتوهّم بعض الجهلة المساكين استلهام قيمه، يقول أنّ الأرض يرثها أصلح من فيها (2). فهل نحن اليوم أصلح من في الأرض؟ بالتّأكيد لا! لو كنّا كذلك لكُنّا أئمّة (قدوات ومنارات للبشريّة) ولكُنّا الوارثين، بينما نحن اليوم نخسر الأرض بعد الأرض، والكثير منّا ليسوا بالأسياد الفعليّين حتّى للأرض التي هم عليها!
لماذا لا نقدر على النّهضة الشّاملة؟ لماذا لم نبن حداثتنا بعد؟ لماذا ما زال شبابنا، بما في ذلك المتعلّمون منهم، أساتذة وأطباء ومهندسين، يصدّقون الخرافات والخزعبلات؟ (3)
هل فشلنا كمربّين في تحصين هؤلاء الشّباب من التّفكير الخرافي؟ وإن كان ذلك صحيحا فكيف يمكن تفسيره؟
إنّ جانبا كبيرا من تخلف الوعي ونقص الفهم في مجتمعاتنا العربيّة يعود إلى تغلغل أصناف من العوائق الثّقافيّة في عمق نواة التّصورات المحمولة عن العالم وفي عمق نواة الاعتقادات الإبستيميّة (الاعتقادات حول المعرفة من حيث طبيعتها: مطلقة أم نسبيّة، ومن حيث تركيبتها: بسيطة أم معقّدة، وأخيرا من حيث مصدرها: تأخذ من السّلطة المعرفيّة أم تبنى ذاتيا).
لا بدّ إذن لتوفير بعض أهمّ شروط نهضتنا وبناء حداثتنا، من تركيز الجهد على هذه العوائق الثّقافيّة وعلى هذه الاعتقادات الإبستيميّة السّاذجة.
هذه العوائق لا توجد فقط في نسيج الوعي العامّي بالعالم وبأشيائه، بل توجد كذلك حتّى في بنية المعرفة الدّينيّة المختصّة أو المتعالمة (التي تتوهّم كونها عالمة).
وعندما نتحدّث عن الثّقافة في مجتمعاتنا العربيّة فهي من دون شك في علاقة حميمة بتراثنا الدّيني الإسلامي. ومن هنا فإنّ مساعدة الأفراد على الوعي بالعوائق الثّقافيّة التي تحول بينهم وبين الوعي العلمي والفهم العقلاني للظّواهر الطّبيعيّة والإنسانيّة، يتمّ ضرورة عبر إصلاح العقل الدّيني الذي عوض أن يكون رافدا من روافد الفهم(4) أصبح مقاوما له وعائقا أمام تحقّقه.
ولكن علينا التّنويه هنا بأنّ مقاربتنا لهذه المسألة، على خلاف المقاربات الوضعيّة المتطرّفة، لا تغفل أهمّية الدّين والدّور الذي يلعبه في إضفاء معنى على وجود الإنسان في هذا العالم وفي مده بأنظمة تأويليّة ورمزيّة تحقّق لديه بعض الاستقرار النّفسي ونوعا من السّعادة الرّوحية. ولذا فإنّنا لن نتصدّى للصّيغ المعرفيّة للمعاني التي يبتنيها النّاس لأنفسهم، انطلاقا من التّراث الدّينيّ، إلاّ عندما تكون معيقة للفهم ومحطّة لرفعة المعاني السّامية والمقاصد البعيدة التي جاء بها الدّين. فما ميز الإنسان على الدّوام على غيره من عمّار الأرض، هو إنتاجه للمعنى وبحثه الذي لا ينتهي عن المعاني، في الدّين والأسطورة والأخلاق والفنّ ومقامات التّواصل الاجتماعي اليومي. (5)     
الهوامش
(1) آية ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾  (آل عمران: 110).
 
(2)  ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (الأنبياء: 105).
(3) لقد عاينت بنفسي حالات من السذاجة لدى مختلف هذه الأصناف المهنية لشدّ ما يعجب لها المرء. من ذلك الالتجاء إلى بعض وسائل الاتصال الحديثة لترويج بعض الأفكار هي أقرب ما تكون إلى الخرافات والأساطير منها إلى المعلومات الصحيحة. وهذا لعمري خير ما يجسّد مفارقة تطوّر التكنولوجيا وتخلّف الإيديولوجيا.
(4)  باعتبار أن القرآن الكريم يحثّ على طلب العلم و يعلي من شأن العلماء الذين اعتبرهم الحديث النبوي ورثة للأنبياء
(5) أذكر أني كنت مرّة قرب الأثر الرّوماني المشهور المعروف بالكوليزي بروما، عندما اقترب منّي زوجان من إرلندا وعبرا لي بكلّ بساطة وتلقائيّة عن محبتهما لي بصفة عبدا من عباد اللّه وأخا لهما في الإنسانيّة واستسمحاني في معانقتي، فكان لهما ذلك وتحادثنا قليلا والتقطنا صورا تذكاريّة ثمّ مضى كلّ منّا لسبيله وقد اغتنى بمعنى جديد للأخوّة الإنسانيّة ولإنسانية الإنسان.