القرآن والعلم

بقلم
نبيل غربال
كيف نصبت الجبال؟ الجزء 2
 البيئة العلمية والثقافية للوحي
بينّا في الجزء الأوّل من هذا المقال أنّ النّظر المطلوب في الآية 19 من الغاشية هو «دعوة للإقبال نحو الجبال بالبصر والبصيرة والتّفكير العميق في الكيفيّة التي نُصبت بها طلبا لإدراك شيء من حقيقتها وذلك من خلال الاستفهام عن أحوالها وصفاتها المتعلّقة برفعها الى أعلى، متماسكة على وضع دائم»(1)، فهل كانت البيئة الثّقافيّة عند نزول الآية قابلة لمثل هذا الأمر الإلهي ومهيّأة للاشتغال على موضوع الكيفيّة التي نُصبت بها الجبال؟ حتما لا. لقد نزل الوحي بشبه الجزيرة العربيّة في القرن السّابع الميلادي. وفي تلك المرحلة كان الفكر الأسطوري والخرافي والوثني هو السّائد. ولم يكن التّساؤل عن الكيفيّة التي تعمل بها الطّبيعة واردا. كان التّركيز على الغايات من وجود الأشياء والظّواهر وعلى القوى الغيبيّة التي وراءها هو السّمة الأساسيّة للعقليّة السّائدة، فجسّدوا تلك القوى بالأوثان وأرجعوا كلّ شيء الى إرادتها ومشيئتها. لذلك لا نتّفق، على الأقل في موضوع الآيات التي تشير الى النّظر في الظّواهر الطّبيعيّة، مع تيّار فكري حديث يقول بأنّ القرآن هو «كلام اللّه من حيث مصدره، وكلام البشر من حيث انتماؤه الى لغة بعينها، وصياغته في ألفاظ وتراكيب يقتضيها معجم تلك اللّغة ونحوها، وفي أطر فكريّة مستمدّة من ثقافة المتكلّم الشّخصيّة ومن الثّقافة المتاحة في الوسط الذي يعيش فيه»(2)، فلا الثّقافة المتاحة في الوسط الحضاري للرّسالة ولا ثقافة الرّسول الشّخصيّة تسمح له بالدّعوة للتدبّر العقلي في الكيفيّة التي نُصبت بها الجبال. وحتّى لو فرضنا جدلا أنّ موضوع الجبال كان يشغله، فكيف له أن يطلب أتباعه القيام بعمل خارج اهتماماتهم وبعيدا عن المعارف السّائدة والعقليّة التي تؤطّرها. ورغم ذلك السّياق المعرفي والعقائدي الذي كان سائدا لم يجد المؤمنون حرجا في التّفاعل مع الآيات التي تدعو الى ما لا يشغل بالهم ولا يسمح به مستواهم المعرفي مثل النّظر في الكيفيّة التي نُصبت بها الجبال. لقد حاول بعضهم حتما فهم معناها ليس من خلال أعمال النظر والتّساؤل والبحث ولكن من خلال ما توفّره الآيات من معنى، ولا نظنّ أن معاني الألفاظ المستعملة في الآية التي توصّلنا اليها من خلال الحفر في الأصل اللّغوي لها وهي «النظر» والـ «كيف» و«النّصب» قد غابت عنهم، وما يُروى عن تفاسير بعض الصّحابة شاهد على ذلك. 
الإجابة العلميّة
-1 بنية الأرض الدّاخليّة
رأينا في الجزء الثّاني من المقال الأول المخصّص لآية «الجبال أوتادا»(3) أنّ باطن الأرض بدأ يشغل الفكر العلمي في القرن 17م. وفصّلنا القول في الجزء الثّالث من نفس المقال(4) في الظّاهرة الزلزاليّة وما وفّرته منذ نهاية القرن التّاسع عشر الى يومنا هذا من أداة لا تعوّض لاستكشاف باطن الأرض الصّخري بنية وتركيبة.  تظهر البنية الدّاخلية للأرض، باعتماد معيار تغيّر سرعة الأمواج الزّلزاليّة مع العمق، طبقات صخريّة مختلفة السّمك وموحّدة المركز تغلف بعضها البعض. وللتّذكير نعرض مرّة ثانية هذه البنية التي يطلق عليها النّموذج الزّلزالي للأرض (أنظر الرّسم أسفله) حيث تمثّل الحروف اللاّتينية Aو Bو C على التّوالي: انقطاع «موهو» وانقطاع «غوتنبرغ» وانقطاع «لايمان» وهي انقطاعات حادّة في مقدار السّرعة التي تنتقل بها الموجات الزّلزاليّة. يمثل اللّون البنّي الخارجي (1) القشرة الأرضيّة في حين أن اللّون الأزرق (2) يشير الى الغلاف المائي. أمّا الأغلفة من (3) الى (6) فتشير على التّوالي الى: الوشاح العلوي، الوشاح السّفلي، النّواة الخارجيّة والنّواة الدّاخليّة.
لا يفي هذا النّموذج بالغرض عند تناول الجزء الخارجي للأرض، وتغيّره مع الزّمن وهو ما يهمّ مباشرة ظاهرة انتصاب الجبال كما سنرى. لذلك يعتمد المهتمّون بدراسة تغير وجه الأرض – والجبال أحد أهمّ معالمه-على نموذج ثان مبني على الخواص الميكانيكيّة للصّخور كالصّلادة والهشاشة والقساوة والمرونة واللّدونة والممطوطيه والتي ترتبط بحالتها الفيزيائيّة (صلبة، منصهرة، شبه منصهرة) والتي تتحدّد بدورها بالتّركيب المعدني للصّخور والحرارة والضّغط التي تخضع لها. يظهر هذا النّموذج (الصورة على اليمين) الغلاف الصّخري (ليثوسفير) ويليه غلاف الانسياب (أسثينوسفير) ثمّ يلتقي مع النّموذج الزّلزالي فيما يلي من التّركيبة الباطنيّة لكوكبنا. 
يتشكل الغلاف الصّخري من القشرة والجزء العلوي من الوشاح الخارجي ومتوسط سمكه 100كم. أما غلاف الانسياب فيتشكل من بقية الوشاح الخارجي. تتميز صخور الغلاف الصخري بالصلابة والهشاشة مقارنة بصخور غلاف الانسياب المرنة واللدنة.  فالأولى تستجيب بالتصدع عندما تتسلط عليها ضغوطات مرتفعة مثلما تتكسر قطعة طباشير الكتابة عندما نضغط عليها بقوة في حين تتشوه الثانية كمعجون الأسنان من دون أن تتكسر.
-2 نظرية «تكتونية الصّفائح»
كنا قد تناولنا نظريّة تكتونيّة الصّفائح في العددين 141 و108 من مجلة الإصلاح الالكترونيّة في إطار تدبّرنا لآيات مدّ الأرض وآية خلق السّماوات والأرض في ستّة أيام على التّوالي. ولضرورة يفرضها موضوع نصب الجبال نعود اليها لمزيد من التّفصيل المركّز على ما يهمّ مباشرة هذا الموضوع. إنّ نظريّة تكتونيّة الصّفائح «نظريّة جديدة لتفسير حركة أجزاء الأرض والعلاقة بينهما، وما ينشأ عن هذه الحركة من بناء جبال أو اتساع محيطات أو حتّى قفلها، وما يتبع ذلك من تكوين صخور جديدة بما يصاحبها من ثروات معدنيّة أو مصادر بتروليّة وخلافه»(5). تشتقّ الكلمة «تكتونيك» (Tectonique) من اللّفظ الاغريقي القديم «تاكتون» ويعني بنّاء ونجّار. لذلك نجد في بعض المعاجم ما يلي: «تكتونيّك: بنيويّة. جزء من علم الأرض يبحث في بنية القشرة الأرضيّة وما ينشأ فيها من تغيّرات بفعل القوى الباطنيّة»(6) 
تقول النّظريّة إذن، أنّ الغلاف الصّخري البارد والصّلب الذي أشرنا اليه في الأعلى يطفو فوق غلاف أكثر سخونة وشبه سائل (1000 درجة مئويّة) يسمّى نطاق الضّعف الأرضي أو غلاف الانسياب وهو مقسّم إلى مجموعة من القطع تسمّى الصّفائح أو الألواح التّكتونيّة، منها حوالي اثنتي عشرة صفيحة كبرى إضافة إلى عدد من الصّفائح الصّغرى. تتحرّك الصّفائح بشكل بطيء جدّا فوق الطّبقة اللّدنة لوشاح الأرض، ويصاحب تحرّكها أنشطة زلزاليّة وبركانيّة على طول حدودها، إضافة إلى تكوّن للتّضاريس مثل الجبال الشّاهقة والصّدوع والأخاديد والفوالق وغيرها، ويستغرق ذلك ملايين السّنين. فما هو محرّك الصّفائح؟
-3 باطن ديناميكي
توحي البنية المتطبّقة المنتظمة للأرض التي عرضناها سابقا «بأنّ باطن الأرض ستاتيكي (متوازن). ولكن الحقيقة عكس ذلك، فباطن الأرض ديناميكي تماما. إنّ الطّاقة الحراريّة المتخلّفة منذ نشأة الأرض(7)، المعزّزة بالطّاقة المنطلقة بطريق التّحلّل الإشعاعي لعناصر مثل اليورانيوم والثّوريوم، تخضّ (تمخّض) churns المواد داخل الأرض. وتنتشر الحرارة عبر الحدود الدّاخليّة للأرض وتولد حركة في تيارات حمل ضخمة تحمل أقاليم ساخنة إلى أعلى وأخرى باردة إلى أسفل. وتسبّب هذه العمليّات في النّهاية الكثير من الظّواهر الجيولوجيّة الواسعة على السّطح، شاملة بناء الجبال والتّبركن وتحرّكات القارّات»(8) فكيف تحرّك تيارات الحمل الحراري الصّفائح؟ .
-4 تيارات الحمل الحراري
تتكوّن تيارات صخريّة صاعدة مصحوبة بحرارة مرتفعة مقارنة بالصّخور التي حولها بفضل الحرارة المرتفعة بباطن الأرض. تغيّر تلك التّيارات اتجاهها مع اقترابها من السّطح ليصبح أفقيّا أي موازيا لظهر الأرض، فينتج عن تلك الحركة الأفقيّة تمزّق للغلاف الصّخري الى ألواح تتحرّك وفق ما يفرضه اتجاه التّيارات المتشكّلة من صخور الغلاف اللّدن. تتراوح الحركة الجانبيّة النّسبيّة للصّفائح عادة من صفر إلى 100 ملم سنويًّا. لقد كانت سرعة «محرك» الصّفائح أكبر ممّا هي عليه الآن في العهد الاركيوزويكي أي قبل 2.5 مليار سنة. ويحتمل أنّه كان هناك أثناء الدّهر الاركيوزوي أكثر من 100 صفيحة منفصلة وذلك مقارنة بالعدد المحدود من الصّفائح الموجودة حاليّا. ويرجع سبب ذلك الى الحرارة المرتفعة التي كانت سائدة في ذلك الزّمن الموغل في القدم قياسا بحرارة الأرض الباطنيّة الحاليّة.
-5 حدود الصفائح
للصّفائح التّكتونية حدود مختلفة وتحدّد الحركة النّسبيّة بينها نوع كلّ واحد منها. رصد العلماء ثلاثة حدود: تباعديّة بنّاءة أو تقاربيّة هدّامة أو متحوّلة(9). تتكوّن الزّلازل والبراكين والخنادق المحيطية والجبال على حدود تلك الصّفائح، فكيف يفسر العلم في إطار نظريّة تكتونيّة الصّفائح تشكّل الجبال وهو موضوع دراستنا؟ وهل يستوعب لفظ «نصب» المستعمل في القرآن ذلك التّفسير؟
الهوامش
 (1) أنظر العدد 170 من مجلة الإصلاح الالكترونية.
   (2) عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت, 2001. 
   (3) مجلة الإصلاح الالكترونية -العدد 166
   (4) مجلة الإصلاح الالكترونية –العدد 167
   (5) عالم الفكر. العدد 2-سنة 2000
   (6) معجم المنهل-د. جبور عبد النور و د. سهيل ادريس. دار العلم للملايين-دار الآداب. بيروت 1983.
   (7) مجلة الإصلاح الالكترونية – العدد 108.
   (8) وشاح الأرض تحت المحيطات، مارس Scientific American, 1994
   (9) مجلة الإصلاح الالكترونية – العدد 141.