بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الإعجاز القرآني: المفهوم والإشكالات (الحلقة الرابعة: المجاز في القرآن الكريم)
 عُدّ المجاز في الفضاء البلاغي، أداة لغويّة معنيّة بتقويم جمال الخطاب وفنّياته، تعبيرا وتصويرا وتأثيرا، حتّى إذا أثبت المُفسّر، من خلاله، القصد من الخطاب، كما بدا له في مستوى الأذهان، يصبح المعنى المراد وكأنّه متحقّق يُرى بالعيان. والمتكلّم يحقّق تأثيره بواسطة هذه الأساليب وهذا الفعل يُسمّى بالسّحر الحلال(1) . ولئن مثّل المجاز مسألة خلافيّة بين علماء المسلمين باعتبار أنّ المجاز لا يلجأ إليه إلاّ المضطرّ إذا ضاقت العبارة المتّصلة بالحقيقة عنه وبه، واللّه أبعد ما يكون عن ذلك(2)، فإنّ حضوره في النّصّ القرآنيّ حضور مكثّف، ومصداق ذلك الآية 80 من سورة يوسف(3)، والآية 188 من سورة البقرة(4). 
وقد أشار ابن جنّيّ إلى هذه الظّاهرة بوضوح في قوله: «اعلم أنّ أكثر اللّغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة»(5).
لقد مثّلت الحقيقة اللّغويّة ما اصطُلِح عليه لدى المفسّرين بالظّاهر ومثّل المعنى المجازيّ ما ذهبوا إلى تسميته بالباطن، وإن لم يشمل الباطن كلّ ضروب المجاز. ويظلّ مقصد صاحب النّصّ، في كلّ الأحوال، هو الباطن الّذي لا يتجلّى إلاّ من خلال السّياق العامّ للآيات. وإذا كانت الحقيقة هي الأصل والمجاز هو الفرع، فإنّه لا يُعدل عن الأصل إلى الفرع إلاّ لفائدة(6). وهذه الفائدة موظّفة في أغلب الأحيان لخدمة الإعجاز، باعتبار أنّ المجاز هو الإطار العامّ الّذي يتنزّل فيه الإعجاز أداة تعمّق الفرادة القرآنيّة في مستوى  التّراكيب الجارية فيه، ما يجعل منها معيارا يلتمس المتكلّم وفقه صحّة لسانه ويجعل إعجازها مستمرّا عبر تقدّم الأزمنة. فكلّ أمر مُسنَد إلى اللّه بالنّسبة إلى المعتزلة إنّما هو يفوق قدرة الإنسان ويتخطّى دائرة مسؤوليّته. أمّا ما يتعارض مع ذلك فهو بالنّسبة إليهم مجاز ومتشابه. فكلّ ما يبدو متعارضا مع فكرة التّنزيه لا يعتبرونه على الحقيقة أبداً، ومن ذلك تأويلهم لفعل «زُيِّنَ» المُسنَد إلى نائب الفاعل أنّه فعل من الشّيطان. وفي هذا المجال يورد الرّمّانيّ قوله: «وإنّما زيّن اللّه تعالى الإيمان عند المؤمنين، وزيّن الغواةُ من الشّياطين وغيرهم الكفرَ عند الكافرين»(7). 
والمهمّ في المجاز أنّه يفتح أبواب التّأويل أمام الخطاب بما يتضمّنه من حرّيّة في اختيار الوجهة المرضيّة، في إنتاج المعنى، عبر الفهم وإعادة الفهم. ويضحى المعوَّل في كلّ قراءة اعتماد الحجّة المقنعة بصحّة الرّأي ووجاهته. واسمع إلى حجّة الرّمّاني في تفسيره لقوله تعالى: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ»(8). كيف يذهب إلى أنّ معنى الاستحياء ليس جاريا في ضرب المثل بالحقير وهو البعوضة، وإنّما القصد هو أنّه لا يحلّ ضرب المثل بالبعوضة محلّ ما يُستَحيى منه، فجاء القول من اللّه تعالى على أنّه لا يستحيي أن يضرب مثلا مّا بعوضة فما فوقها (9) . 
ليس خافيا على الدّارس أنّ المعتزلة قد اتّخذت قضيّة المجاز معبرا للوصول إلى المبادئ العقديّة المتعلّقة بالعدل والتّوحيد. وعندئذ، انقسمت الآراء حول الإعجاز القرآنيّ فمنهم من حصره في إخبار القرآن بالغيب. ومنهم من عده في نظمه. ومنهم من جعله في الصّرفة(10). وقد تمحّض الإعجاز منذ إبراهيم النّظّام (ت 221ه) لإفادة الجوانب البلاغيّة في النّصّ القرآنيّ بمعزل عن مضامينه(11). وإذا حصر النّظّام الإعجاز في القول بالصّرفة، فإنّ الجاحظ عمد إلى تعميم الإعجاز في جريانه على كلّ ما بدا غير معقول من الأعمال والصّفات في القرآن، وهو بذلك يقرّ بالعوامل الإلهيّة الخارقة للعادة ولمجالات العقل لإثبات المحنة، فإذا سقطت المحنة انتفت الطّاعة، وكذلك عظيم الطّاعة مقترن بعظيم الثّواب(12).
والقرآن عند المفّسرين يتميّز بأمريْن: البيان الباعث على التّفهيم، أوّلاً، والإعجاز، ثانياً. والإعجاز هو الحجّة الرّئيسيّة إذ يشارك القرآن العرب في الفصاحة والبيان ويطالبهم بمباراته، إن استطاعوا. وفرادة القرآن أنّه ورد منسجماً مع قواعد اللّسان العربيّ وخارجاً عنها في آن. وهذه الفرادة في الصّياغة جعلت القرآن يتجاوز الحدود القبَليّة والعرقيّة والقوميّة اللّصيقة بالعربيّة والعروبة إلى معانقة الفطرة الآدميّة انسجاماً مع الدّيانات الإبراهيميّة وقداسة البيت العتيق ذي الأبعاد التّاريخيّة والإنسانيّة.
ولا تفوت الدّارس، في هذا المقام، الإشارة إلى الآراء النّقديّة العليقة بمقولة الصّرفة. ولعلّ من أهمّها ما ذكره السّيوطيّ من أنّ القول بالصّرفة يزول بزوال زمان التّحدّي(13). وما اتّخذه الجرجانيّ من موقف يتمثّل في  أنّ هذا القول يُرجع الإعجاز إلى أمر يندّ عن حدود النّصّ، وهي القدرة الرّبّانيّة الصّارفة عن الإتيان بالمثل. وبالإضافة إلى هذا، فإنّ القول بالصّرفة يثير مأزقا يتمثّل في أنّ النّاس في حدّ ذاتهم قادرون على أن يأتوا بمثل ما قاله اللّه تعالى، لولا سلطة الصّرفة. زِد على ذلك أنّ واقع البلاغة العربيّة لم يشْكُ من عجز أو قصور تحت تأثير الصّرفة. ولا أوضح، حسب رأي الجرجاني، من الوقوع في التّناقض لو أنّ القرآن قد جمع بين التّحدّي والصّرفة(14). فمأزق القول بالصّرفة أنّ القدرة على الإتيان بغيره ممكن، ولكن الإعجاز ماثل في صرف المتحدّين، وهذا لا يُعتدّ به. 
وإذ ألحّ أبو عبيْدة، كغالبيّة المفسّرين، في كتابه «مجاز القرآن» أنّ القرآن عربيّ وأنّ اللّه أرسل محمّداً بلسان قوْمه(15)، فإنّ الّذي فاته هو أنّ من معاني مادّة «عرب» هو الاكتمال والصّفاء والنّقاء والحُسن، بناءً على المعنى الّذي يفيد به القرآن بما اجترحه لنفسه من معجم خاصّ به، واسمع إلى الآية: «عُرُبًا أَتْرَابًا»(16)، الّتي انتبه الزّمخشريّ في شرحها إلى أنّ مادّة عرب تعني الحسن والاكتمال ولا علاقة لها بجنس العرب(17). 
وقد تركّز الاهتمام بالإعجاز القرآنيّ على مقولة المجاز، وأوّل كتاب يحمل هذا العنوان هو «مجاز القرآن» لأبي عبيدة. وفي هذا الإطار، ظهرت ثنائيّة الظّاهر والباطن، المُشار إليها سلفا، ما دعا إلى تأويل الآيات على النّحو التّالي: إذا تعارض المعنى الظاهر مع المعنى المعقول تمّ الالتجاء إلى التّأويل، ومثال ذلك تأويل كلّ آية يُشتمّ منها معنى له علاقة بتحيّز الوجود الإلهيّ. وهذا المنزع الوظيفيّ في فهم القرآن يجعل البلاغة تصنّف في إطار العلوم الوسائل الموصلة إلى فهم المُصحف، وهو المقصد الأسنى الّذي منه تستمدّ شرفها. يقول أبو هلال العسكري في هذا الصّدد: «إنّ أحقّ العلوم بالتّعلّم وأولاها بالتّحفّظ بعد المعرفة باللّه جلّ ثناؤه علم البلاغة ومعرفة الفصاحة الّذي به يُعرف إعجاز المُصحف تعالى النّاطق بالحقّ الهادي إلى سبيل الرّشد المدلول به على صدق الرّسالة وصحّة النّبوءة»(18) . 
إنّ الجدير بالذّكر، هو أنّ الصّيرورة في علم اللّغة قد آل بالبلاغة إلى أن تكون لا مجرّد علم من العلوم الوسائل فحسب، بل أضحت مجال الدّلالة نفسها. إذ أصبح المعنى ملاصقا للمبنى إلى حدّ التّماهي. وتبعا لذلك، أضحى كلّما تغيّر المبنى تغيّر المعنى. لقد كان الوعي باللّغة مشدوداً، في بداياته إلى مشغل أساسي هو ثنائيّة اللّفظ والمعنى. أمّا وقد اتّحد الدّال بالمدلول فقد تجاوز الفكر اللّغوي العلاقة الطّبيعيّة بين طرفيْ العلامة. وعليه فقد تحوّلت اللّغة من أن تكون مجرّد علم وسيلة إلى أن تصبح غاية في حدّ ذاتها ومعبرا لا بديل عنه لفهم كتاب اللّه، إذ هي المتضمّنة لمقاصده ومعانيه. 
إنّ أهمّ وظيفة اضطلعت بها البلاغة التّقليديّة، إنّما هي وصف الطّرق الخاصّة باستعمال اللّغة وتصنيف الأساليب بحسب تمكّن مستعملها من التّعبير عن الغرض تعبيرا يتجاوز الإبلاغ إلى التّأثير والإقناع بالقول(19)، وحينئذ أصبحت البلاغة ضمان البلوغ إلى المقاصد بأيسر الطّرق وأقصرها. وقد دأب الاهتمام اللّغويّ على البحث عن الخصائص المشتركة والكلّيّة الجامعة بين الشّعر والقرآن، ما أفضى إلى إلحاق المبحث الخاصّ بالمعاني بمجال البلاغة وإبعاده عن فضاء النّحو، وهو أمر يدعو إلى التّساؤل عن جدوى هذا الإجراء. ولابدّ أنّ الإجابة كامنة في الرّغبة المتزايدة في الإمساك بكلّيّات المعاني المضمّنة في الرّسالة الدّينيّة الجديدة. 
ولقد تمّ الإقرار بإعجاز القرآن من جميع علماء المسلمين، ومنهم الرّمّاني القائل: «إنّ حكم القرآن هو في أعلى طبقات البلاغة، وأعلى الطّبقات معجز لجميع العباد»(20) . ومن ثمّ توزّعت الآراء إزاء ظاهرة الإعجاز في اتّجاهات عديدة: منها ما حصرته في البيان ومنها ما جعلته في معانيه. والاتّجاه الغالب، هو الّذي قال بالإعجاز الجامع بين الأسلوب والمعنى. والّذي لا مراء فيه أنّ عبد القاهر الجرجانيّ قد دعّم هذا الاتّجاه بجهوده العلميّة البادية في كتبه المتنوّعة. واسمع قوله: «إنّ التّحدّي كان إلى أن يجيئوا في أيّ معنى شاؤوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه. يدلّ على ذلك قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ»(21)، أي مثله في النّظم، وليكن المعنى مفترى لما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم ولكن إلى النّظم»(22). لقد كان الهاجس الأكبر عند الرّماني، في تفسيره، هو أن يبرز المناحي المعجميّة والنّحويّة والبلاغيّة البادية في القيل القرآنيّ. والمطالع لهذا التّفسير يلفي أنّ البيان والفصاحة هما المؤدّيان إلى الإعجاز الكامن في القرآن. ومن ثمّ يبدو عجز كلّ امرئ عن تجميع ما جُمع في الخطاب القرآنيّ. إنّ قيمة الاستعمالات اللّغويّة تنبع من جمعها لضروب الفصاحة والبيان والمعاني والإخبار بالغيب بأسلوب ذي خصائص مميّزة جعلت له نظما متفرّدا.
الهوامش
(1)  انظر ابن الأثير، المثل السّائر، ج1، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، دار النّهضة،  مصر،  ط1، د ت، ص110 وما بعدها.
(2) ذكر جلال الدّين السّيوطي في «الاتقان» أنّ المجاز موضوع خلافيّ بين علماء المسلمين وإذ أقره الجمهور فإنّ جماعة من الظاهرية والمالكيّة والشافعية قد أنكرته والشبهة في ذلك أنّ المجاز أخ الكذب والقرآن منزه عنه. انظر السّيوطي، الإتقان، ج2، النوع الثاني والخمسون: في حقيقته ومجازه، م س، ص47.
(3) «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا  وَإِنَّا لَصَادِقُونَ»
(4) «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».
(5)  ذكره السّيوطيّ، في المزهر في علوم اللّغة، ج1، م س، ص ص 357،358.
(6)  انظر ابن الأثير، المثل السّائر، ج1، م س،  ص89.
(7) الرّماني، التّفسير، سورة الأنعام 6 ، الآية 122، م س، ص92.
(8)  سورة البقرة 2، الآية 26.
(9)  الرّمّاني، التّفسير، م س، ص21.
(10)  يتعلّق القول بالصّرفة بإبراهيم النّظام أوّل القائلين بها ومعناها :«أنّ العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، ما كان عجزهم لأمر ذاتيّ من ألفاظه ومعانيه، ونسجه  ولفظه، بل كان لأنّ الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله». انظر الجاحظ، الحيوان ، ج2، م س، ص 230. وقد أورد أبو الحسن الأشعري عن النّظّام ما يلي: «والآية الأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، أمّا التّأليف والنّظم فقد يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم». انظر أبا الحسن الأشعريّ، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، ج1، تحقيق محمد محي الدّين عبد الحميد، مكتبة النّهضة المصريّة، القاهرة، 1969، ص296.  
(11)  V. G.E, Von Grunebaum, I’DJAZ, thome3, encyclopédie de l’islam, nouvelle édition, 1990 , pp 1044,1046.                            
(12) الجاحظ، الحيوان، ج6، م ن،  ص270.
(13)  السّيوطيّ، الإتقان في علوم القرآن،  ج 2، م س، ص151.
(14)  انظر الجرجاني، الرسالة الشّافية، م س، ص152.
(15)  يقول أبو عبيدة « نزل القرآن بلسان عربيّ مبين، فمن زعم أنّ «طه» بالنّبطيّة فقد أكبر  وقد يوافق اللّفظ ويقاربه ومعناهما واحد وأحدهما بالعربيّة والآخر بالفارسيّة أو غيرهما». أبو عبيدة، مجاز القرآن، ج1، م س، ص17.
(16)  سورة الواقعة 56، الآية 37   .
(17)  الزّمخشري، الكشّاف، ج 4، م س، سورة الواقعة 56، الآية 37، ص332.
(18)  أبو هلال العسكريّ، كتاب الصّناعتين الكتابة والشّعر،  م س،  ص7.
(19)  انظر حمّادي صمّود، التّفكير البلاغي عند العرب، م س، ص47. 
(20)  الرّمّاني، التّفسير، م س، ص222. والجدير بالإشارة هو أنّ الرّمّاني يعتبر أنّ دلائل القرآن  تكون على وجهيْن: دلالة بيان، ودلالة برهان. فدلالة البيان: إظهار المعنى للنّفس. ودلالة البرهان: تصحيح المعنى في النّفس مجيبا بذلك عن سؤال: ما وجوه دلائل القرآن؟ انظر الرّمّاني، التّفسير، م  ن، ص ن.
(21)  سورة هود 11، الآية 13.
(22) عبد القاهر الجرجاني، الرّسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل  في إعجاز القرآن، م س، ص141.