نقاط على الحروف

بقلم
عمر الموريف
الدّين والسّلطة في فكر عبد الرحمن الكواكبي ومقارنته بالفكر المعاصر (1-2)
 تمهيد:
لقد احتل فكر عبد الرحمن الكواكبي حيّزا هامّا داخل الفكر الفلسفي والسّياسي على حدّ سواء، سيما في كتابه: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»(1) الذي حلّل فيه آليّات وتجليّات الاستبداد خاصّة في شقّه السّياسي والسّلطوي.
ونحن إذ نرغب في التّطرق إلى جدليّة الدّيني والسّياسي من منظور الكواكبي، فإنّنا اخترنا تناوله من خلال الاعتماد على الدّين كآليّة، إن لم نقل أنّها أهمّ الآليّات على الإطلاق، في ممارسة الاستبداد السّياسي، ذلك أنّ الفاعل السّياسي المستبد الذي يختار الرّكون إلى الدّين لتكريس الهيمنة والقوّة والتّسلّط، إنّما يعتمده من وجوه عدّة ومتنوّعة، فمن استمداد الشّرعيّة منه، إلى توظيف نصوص منه تدعو إلى الطّاعة والاستسلام. هذا التّوظيف الذي يرى الكواكبي أنّه لا يتمّ بواسطة الفاعل السّياسي الحاكم لوحده، وإنّما يحتاج في ذلك إلى بطانة تسهل له هذه المأموريّة، وهم «فقهاء الاستبداد» كما نعتهم الكواكبي. وإذا ما تعمّقنا في تحليلات صاحب طبائع الاستبداد، سنلفي أنّ لنوعيّة الرّعيّة أو العوام دورا في تكريس أنماط التّسلّط المختلفة.
وقد لا حظنا أنّ الكواكبي وهو يربط بين الاستبدادين الدّيني والسّياسي يميّز بين الدّين بما يعنيه من مقدّس مصدره اللّه تعالى وما يتضمّنه بالتّالي من تعاليم ومبادئ العدل والإنصاف والمساواة والحرّية... ونبذه، في المقابل، لكلّ مظاهر الظّلم والاستبداد والقهر، وبين ممارسة هذا الدّين وفق فهم وتصوّر بشريين قائمين على المصالح الذّاتيّة، وكأنّه هنا يقيم تمايزا بين الدّين والتّديّن كما يذهب إلى ذلك الفكر المعاصر وهو بصدد حديثه عن الظّاهرة الدّينيّة بصفة عامّة.
وما دام أنّ الفكر الفلسفي السّياسي لا يهتم بالماضي وحسب، وإنّما يحلّل الحاضر ويستشرف المستقبل، فإنّني قد وجدت أنّه من الأفيد، ونحن نتطرق إلى فكر الكواكبي بشأن الاستبداد السّياسي وعلاقته بالدّين، أن نورد توجّهات فكريّة معاصرة تطرّقت إلى الموضوع ذاته، وذلك لنقف على مدى تأثّر فكرنا المعاصر بنظريّة الكواكبي وتوجّهاته الفكريّة في ذات المضمار، لنفتح تساؤلا ضمنيّا حول مدى إمكانيّة استمرار توظيف الدّين في ميدان السّياسة لغاية التّسلّط والاستبداد؟
وعليه، وقبل أن نخوض في هذا الموضوع الذي ننقّب فيه عن نظرة الدّين للسّلطة والحكم بصفة عامّة، قبل أن نفكّك التّوظيف البشري للدّين في سبيل تكريس الهيمنة والاستبداد، ارتأيت التّمهيد بالتّطرّق لمفهومي الدّين والاستبداد حتّى نستبين سبيل التّحليل الذي نصبوا إليه.
أولا: مفهومي الدّين والاستبداد
سنتناول في هذه النّقطة تبيان هذين المفهومين بشكل مختصر كما يلي.
1- مفهوم الدين
ننطلق في تبيان مفهوم الدّين بالبدء بالمعنى اللّغوي، والذي يتكوّن من الحروف التّالية (د،ي،ن) وهذا الفعل له أصل واحد ترجع إليه الفروع كلّها – حسب معجم مقاييس اللّغة- وهو جنس من الانقياد والذلّ: فالدّين الطّاعة، يقال دان له يدين دينا، إذ أصحب وانقاد وطاع، وقوم دين، أي مطيعون منقادون، قال الشّاعر: وكان النّاس إلاّ نحن دينا، والمدينة كأنّها مفعلة، سمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعة ذوي الأمر، ومن هنا نفهم قوله تعالى ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ﴾(2) أي في طاعته(3).
ويمكن تعريف الدّين بصيغة اصطلاحيّة عامّة بكونه: مجموعة من المعتقدات والأفكار لدى الشّخص، وهو الإيمان بمجموعة من السّلوكيّات والفرائض والقبول بها في الحياة. وإتباع دين معيّن والإخلاص له يعتبر تديُّناً. ويؤمن الإنسان أنّ اللّه هو صاحب الأديان السّماوية كلّها، وأنّ كلّ دين هدفه التّقرّب من هذا الإله(4).
ويميّز المفكر عبد الجواد ياسين بين الدّين باعتباره الوحي المنزل من عند اللّه سبحانه وتعالى، وهو الفكرة المطلقة والكلّية والمتعالية، غير القابلة للتّغيير بفعل الاجتماع، وبين التّديّن بما هو ممارسات الأفراد للدّين داخل سياقات فكريّة وزمكانيّة محدّدين(5).
2- مفهوم الاستبداد
نأخذ تعريفنا للاستبداد من خلال ما قدّمه عبد الرّحمن الكواكبي نفسه في الكتاب سالف الذّكر، إذ قدّمه من النّاحية اللّغوية على أنّه: غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة. ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصّة لأنّها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. أمّا الاستبداد في اصطلاح السّياسيّين فهو تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة. وتستعمل كلمات أخرى للدّلالة على هذا المصطلح كاستعباد، اعتساف، تسلّط، وتحكّم. ليأخذ المستبد صفات مماثلة كالطّاغية والجبّار والحاكم بأمره(6).
ويعتبر الكواكبي أنّ أشد مراتب الاستبداد التي يتعوّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينيّة(7).
ثانيا: السّلطة السّياسيّة من رحابة الدّين إلى الاستبداد البشري  
ينطلق الكواكبي عند تناوله للسّلطة السّياسيّة من الأفق الواسع والإيجابي الذي منحه إياه الدّين، الإسلامي خصوصا، وذلك قبل أن نقف على تمثّلات الاستبداد السّياسي الذي يتبناه الفرد أو الجماعة في حقّ الأمّة استنادا على الدّين كآليّة لتسويغ هذا التّسلّط والاستبداد. 
1- الحكم من منظور الدّين
الحقيقة أنّ الكواكبي وهو بصدد الحديث عن ثنائيّة الدّين والاستبداد قد بدأ باستغلال الدّين لتكريس الاستبداد في السّلطة السّياسيّة، وذلك قبل أن يختم بموقف الدّين (الإسلامي) من الاستبداد، ونحن في هذا العرض سنقوم بالعكس، إذ سنبدأ بتصوّر الدّين لمسألة الاستبداد كما حلّلها الكوكبي، باعتبار أن هذا هو الأصل، بينما يأتي الفعل الاستبدادي كممارسة بشريّة يفترض فيها أن تكون هي الاستثناء.
فالكواكبي يرى أنّ الإسلام جاء مؤسّسا على الحكمة والعزم، هادما للتّشريك بالكلّية، ومحكما لقواعد الحرّية السّياسيّة المتوسّطة بين الدّيمقراطيّة والأرستقراطيّة، فأسس التّوحيد، ونزع كلّ سلطة دينيّة أو تغلبيّة تتحكّم في النّفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجماليّة صالحة لكلّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدينة فطريّة سامية(8). فهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه، ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تبّع تخاطب أشراف قومها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ . قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾(9)، فهذه القصّة تعلم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ: أي أشراف الرّعية، وأن لا يقطعوا أمرا إلاّ برأيهم(10).
وبعد أن سرد الكواكبي لمجموعة من الشّواهد المعزّزة لطرحه، يخلص(11) إلى أنّ الدّيانة الإسلاميّة بريئة ممّا رميت به من تأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات الآيات البيّنات التي منها قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(12). فهي إذن مؤسّسة على أصول الحرّية برفعها كلّ سيطرة وتحكم بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإيخاء، وبحضّها على الإحسان والتّحابب، وقد جعلت أصول حكومتها الشّورى الارستقراطيّة، أي شورى أهل الحلّ والعقد في الأمّة بعقولهم لا بسيوفهم، وجهل أصول إرادة الأمّة التّشريع الدّيمقراطي، أي: الإشتراكي.. فلا يوجد في الدّيانة الإسلاميّة نفوذ ديني مطلقا في غير إقامة شعائر الدّين، ومنها القواعد العامّة التّشريعيّة التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم(13).
نستخلص من هذا التّحليل الذي يقدّمه لنا الكواكبي على أنّ الدّين باعتباره الأصل المؤطّر والمتميّز بإطلاقيّته لا يخدم الاستبداد بالمرّة، وما نلمسه من النّاحية العمليّة لا يعدو تطبيقات بشريّة قائمة على الفهم الخاصّ للنّصّ، أو باستغلاله لخدمة المصالح الشّخصيّة الضّيقة، وهنا نجد تماثلا بين ما خلص إليه عبد الرحمن الكواكبي، وما قال به الرّاحل محمد عابد الجابري بأنّ «الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان» أمر مُسَلَّمٌ به، لأنّ هذا ما يؤمن به كلّ مسلم، ولن يبقى المسلم مسلما إذا شكّ لحظة في هذه المسلّمة الدّينيّة. ولكنّ المسألة المطروحة، والتي يجب طرحها دائما، هي مسألة ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم، أن يدشّنوا سيرة جديدة تكمل سيرة السّلف القديمة، وتجعل منها واقعا حيّا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصّة(14). فهل هذا ما نلمسه فعلا ونحن نطبق المبادئ الدّينيّة على المجال السّياسي من وجهة نظر الكواكبي؟
هذا ما سنتطرّق إليه في المقال القادم إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مكتبة النافذة للنشر، الجيزة مصر، س 2012.
(2)  سورة يوسف ، الآية 76
(3)  محمد شحرور، الدّين والسّلطة: قراءة معاصرة للحاكميّة، دار السّاقي بيروت لبنان، ط 4، س 2018، ص 234.
(4) أنظر: https://mawdoo3.com
(5) يراجع كتابه: الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، المركز الثقافي العربي، ط 2، س 2014.
(6) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 11.
(7) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 12.
(8) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 24.
(9) سورة النمل، الآية 32-34.
(10) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 25.
(11) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 26.
(12) سورة آل عمران، الآية 159.
(13) الكواكبي، المرجع نفسه، ص 29-30.
(14) محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، س 1996، ص 143.