بحوث ودراسات

بقلم
محمد علواش
مناهج تحليل الخطاب القرآني في الفكر العربي المعاصر ( ملخص رسالة دكتوراه الدكتور محمد علواش، جامعة ال
 عند النّظر في ما كتبه أغلب علماء المسلمين في مجال التّراث الإسلامي، وما ارتبط بالنّصّ القرآني وعلومه خاصّة، يتبيّن أنّه بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة وتمحيص، وهذا من الأوامر الشّرعيّة الواضحة التي تدعو إلى ضرورة تقديم النّظر في كلّ ما وردت به الشّريعة، وعدم الرّكون إلى الماضي والاكتفاء به، وتوظيف المنهج القرآني القائم على التّعليل والاستدلال، وهذا من الخصائص الأساسيّة التي تفرد بها عن غيره من الكتب السّابقة.
ومن المؤكّد أن الخطاب القرآني قد حذّر في غير ما آية، عند تناوله لقضايا مختلفة من السّقوط في التّقليد الأعمى، ودعا بمختلف الصّيغ إلى إعمال العقل وتقديم البرهان، وهذا كان له أثر كبير على مفكّري الإسلام وعلمائه في القرون الأولى، ممّا جعلهم يصبحون روّادا في مختلف العلوم التي تدور حول النّص القرآني، ممّا يفسر ازدهار الحضارة الإسلاميّة حينها، ولذا فليس ممكنا أن نتصوّر عالما مسلما ينتمي إلى حضارة الإسلام، أو باحثا في هذا المجال إلاّ وهو يبدي عناية برصد كلّ ما تعلّق بتاريخ الأفكار والفلسفات عموما، كما نجد من يدعو إلى تجديد النّظر في مجالات تفسير النّصّ القرآني ومواكبة قضايا المجتمع وتغيراته، وما تفرزه من أسئلة وإشكالات تحتاج إلى إجابات تصدر عن مشكاة الوحي.
ومن هذا المنطلق، فإنّني أعتقد أنّ علماء الإسلام المعاصرين قد صاروا على وعي بما يجري في السّاحة العربيّة منذ أواخر القرن العشرين، خاصّة الدّور الذي تقوم به المفاهيم الحضاريّة والنّظريّات الفلسفيّة، وما تحتله مشكلة القيم الأخلاقيّة والدّينيّة من أهمّية، وما عادت تؤدّيه هذه القيم من أدوار إيجابيّة أو سلبيّة، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، كلّ ذلك يجعل علماء الإسلام أفرادا أو مؤسّسات أمام تحمّل مسؤوليتهم في المتابعة العلميّة لكلّ ما يروّج  له في السّاحة الفكريّة من نظريّات ومفاهيم وتأويلات ومواقف فكريّة تمسّ من قريب أو بعيد التّراث الإسلامي.
وفي هذا الإطار العام، صار اهتمامي بهذا المجال، أي ضرورة العناية بالنّقد والتّقويم لهذا الصّخب الذي يروج له الحداثيّون في السّاحة العربيّة، والعمل على تمييز الجانب العلمي من الإيديولوجي فيما تلقيه الإنتاجات الفكريّة من مفاهيم وتيّارات ومناهج تفكير. من أجل ذلك، كان لا بدّ من إعادة النّظر في هذا النّوع من الفكر الذي أرخى ظلاله على المجتمع العربي والإسلامي، إذ في الوقت الذي يتطلّع فيه المسلمون إلى أن يتحرّر الفكر الغربي المعاصر من أحكامه الإسقاطيّة السّابقة الموروثة عن القرون الوسطى بشأن الإسلام، تأتي أعمال هؤلاء الحداثيّين لترسّخ تلك الأحكام الإستشراقيّة عن الإسلام. 
وهذه هي الوظيفة الأولى التي تولى الحداثي العربي القيام بها، بعد أن احتضنته مراكز البحوث الغربيّة، ولعلّ هذا الهدف الإيديولوجي الصّريح أو المضمر في كتابات أركون- مثلا- وغيره من الحداثيّين هو الذي جعل مشاريعهم النّقديّة تظلّ محدودة من النّاحية العلميّة، ولا تخرج عن الدّعوى المتكرّرة لتفكيك كلّ الموروث الثّقافي وخلخلته وهدمه، وهي دعاوى لا تعتبر في ذاتها دليلا على البناء وامتلاك الحقيقة البديلة، لهذا نظنّ أنّ أعمال هؤلاء لم تستطع التّخلّص من اجترار كلّ المقولات الاستشراقيّة، بل إنّهم أضافوا إليها في بعض الأحيان أسلوبا استفزازيّا مغلّفا بالطّعن والتّجريح للمخالفين لهم، وهذا يكشف عن العجز في تقديم البديل، مع الرّكون إلى التّبشير بالعلوم الإنسانيّة، بعيدا عن ضوابط القراءة السّليمة، مع الغفلة عن الخصوصيّات الفكريّة والتّاريخيّة، وهذا ما يجعل أعمال هؤلاء مثالا للفكر الإسقاطي البعيد عن الضّوابط المنهجيّة المرتبطة بالعلوم الإنسانيّة عامّة، خاصّة إذا أدركنا حضور النّزعة المعياريّة لديهم والتي تصدر عن الرّؤية العلمانيّة.  
وما نقدمه في هذه الرسالة يضعنا أمام هذه المشكلات التي برزت إلى الصّدارة منذ أواخر القرن العشرين، وأصبحت تضاهي القضايا السّياسيّة والاقتصاديّة. إنّها المشكلات الحضاريّة التي يشكّل الدّين والهويّة والقيم أهمّ تجلياتها، حتّى صارت العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبداية هذه السّنوات من الألفيّة الثالثة تعبّر عن صراع القيم والمفاهيم الأخلاقيّة والسّياسيّة، ما يتطلّب ضرورة التّسلّح برؤية منهجيّة نقديّة قادرة على التّمييز بين العلمي والإيديولوجي، فيما تعجّ به السّاحة الثّقافيّة والإعلاميّة من خطابات ومشاريع  فكريّة. غير أنّي أودّ أن أشير إلى ضرورة الالتزام بالأسلوب الاستدلالي والرّؤية المنهجيّة الواضحة التي ستكون معيار المراجعة لجملة من المفاهيم والتّصورات والأحكام التي لها ارتباط بصلب الموضوع، موظّفا أسلوب الحوار المنهجي مع المخالف باعتباره من القواعد التي أرسى دعائمها القرآن المجيد. 
أما تناولي للموضوع فقد جمع بين أمرين، إذ لم أكتفِ ببيان طبيعة العلاقة بين المناهج المعاصرة وإيديولوجيّة الحداثة، بل عرضت تطبيقات وإسقاطات هذه المدارس على نصوص الوحي وبيان نتائجها ومآلاتها، ثمّ ختمت بالجانب البنائي، وذلك ببيان ضوابط القراءة السّليمة للقرآن المجيد، ملزمين أنفسنا منهجا يجمع بين الوصف والتّحليل والنّقد والبناء، ولم أقصد في هذا البحث السّجال في الفروع أو الجدال في بعض القضايا الهامشيّة، وإنّما كان الغرض هو الوقوف عند المنطلقات والتّصوّر العام الذي انتظمت فيه هذه المناهج التي يبني عليها الخطاب الحداثي أطروحاته عندما يتعامل مع القرآن العظيم، ولذا فالبحث يقع  بعد التقديم والخاتمة في بابين، كلّ باب يضمّ فصلين على الأقل مع مباحث متعدّدة، أمّا الخطوط العريضة للبحث فقد جاءت كما يلي: 
في الفصل التّمهيدي ذكرت أنّ حال هؤلاء الحداثيين العرب كحال الغراب، فهم مصابون بانفصام الشّخصيّة، فتجدهم تبريرا لدعوى الانقطاع عن تراثهم، يمجّدون تراث غيرهم، وفرارا من مواجهة حاضرهم أو ماضيهم تراهم ينتقدونه جملة أو تفصيلا، لتبرير اتباع  حاضر غيرهم، فالحداثة تعني عندهم انقطاعا عن الماضي، إذا كان المقصود به ماضي الذّات العربيّة، أمّا إذا كان ماضي الغرب فهي اتصال واستمرار في غير انقطاع، وهما آفتان خطيرتان أصبحتا « شعارا» للمفكّر الحداثي العربي في الظّرف المعاصر، أمّا طرح أسئلة حقيقيّة حول إمكانيّة التّحديث من داخل الذّات، بناء على أسس مرجعيّة، تحافظ على خصوصيّة الأمّة ووجودها الحضاري، فهذا خيار لا محلّ له من الإعراب.
أمّا الباب الأول فقد خصّصته لدراسة إشكاليّة العلاقة بين المناهج المعاصرة والنّصّ القرآني، من خلال فصلين: في الأول، وقفت عند مناهج تحليل النّصوص ومدى ارتباطها بإيديولوجيّا الحداثة، فتناولت في مباحث متنوّعة، منها القراءة المعاصرة بين طريقين، ثمّ وقفت عند المناهج المعاصرة ومدى إسقاط الحداثيّين لها على القرآن المجيد. وفي الثاني، بينت الانحرافات المنهجيّة في تعامل هؤلاء مع النّصّ القرآني، وذلك بذكر الأسس المنهجيّة التي اعتمدتها القراءة الحداثية، ثمّ مآلاتها، ومظاهر القصور المنهجي التي تعاني منها.  
أمّا الباب الثّاني، فقد جعلته كتعقيب على ما سبق بيانه، فناقشت فيه أهمّية التّسلح بالضوابط المنهجيّة عند النّظر في النّصوص الشّرعيّة، وجعلته يتكوّن من ثلاثة فصول: الأول يعالج مسألة المنهج وعلاقتها بفهم النّص الشّرعي، وخصّصت الثاني للحديث عن آليّات الفهم السّليم للنّصوص، وختمت بثالث حول مدى إمكانيّة تجديد الخطاب التّفسيري ليلائم متطلّبات المرحلة المعاصرة.
المغزى الأسمى ممّا سبق هو محاولة العودة إلى تفعيل الخطاب القرآني وسط المجتمع المسلم ليقود مسيرة الحياة الإنسانيّة، والسّماح له في بناء حضارتها، ولا يكون ذلك إلاّ في ظلّ الاستجابة لنسقه والنّظام المعرفي الذي يؤطّره.
إنّ رسالة هذا البحث لا تعني رفض الخطاب التّفسيري لكلّ ما أفرزه العقل الحديث من مناهج ألسنيّة وتأويليّة في حدّ ذاتها، بقدر ما ترفض التّبعيّة والذيليّة في إسقاط هذه المناهج بمرجعيّاتها وآلياتها على النّصّ القرآني، إذ إنّنا بحاجة فعلا إلى المساهمة الحقيقيّة وتوظيف كلّ الجهود قصد تحريك عجلة التّنمية الحقيقيّة المنبثقة من ثقافة الأمّة وعمقها الحضاري من دون إحداث قطيعة مع تراثها، ولا إلغاء لخصوصيّة ذاتها، ومن دون ارتماء في أحضان الآخر إلى درجة الذّوبان كما حصل للمفكّرين الحداثيين المعاصرين. وإذا كان المجهود الذي قمت به في هذا البحث لا يغطّي كلّ تفاصيل الخطاب العربي المعاصر، فقد اكتفيت بالوقوف عند إشكاليّة المنهج باعتبارها العمود الفقري الذي تقوم عليه كلّ التّصوّرات والمشاريع، وهذه الدّراسة صالحة لأن تشكّل أرضيّة للبحث في قضايا أخرى أسفر عنها هذا المجهود المتواضع، ومن أبرزها:
-العمل على البحث في مجال الدّراسات الأدبيّة وربطها بالنّصوص القرآنيّة والأحاديث النّبويّة، فعدم الجمع بين الجانبين بتوظيف مناهج علميّة رصينة، والاستفادة من المناهج الأدبيّة في خدمة النّصّ الإسلامي عموما يعتبر من الأسباب والمداخل الرّئيسيّة لتسلّل مختلف الكتابات المعاصرة ذات المنحى التّغريبي وإسقاط مناهجها على هذا التّراث، مستغلّة هذا الفراغ، رافعة شعارات التّجديد والتّطوير مع أنّها لا صلة نسب أو قرابة تربط بينهما .
-إنّ المسألة التي اشتغلت عليها في هذه الأطروحة تكشف أنّ قضيّة توظيف المناهج في الفكر العربي ليست بريئة، ولا يمكن لها أن تكون كذلك، فهي لا يمكن فهمها بمعزل عن الخلفيّة النّاظمة والموجّهة لإدارة التّفاعل مع الواقع الاجتماعي، وبعيدا عن حركة الصّراع وتوازن القوى بين الأنماط المجتمعيّة التّاريخيّة المختلفة.