قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة الخامسة : من مظاهر كرامته
 أحاول هنا التّمييز بين خصائصه ﷺ التي أُفرد لها محورا خاصّا بها بإذنه سبحانه وبين بعض مظاهر تكريمه من لدن ربّه سبحانه. وقد تتداخل المساحتان ولا ضير إن شاء اللّه تعالى. من مظاهر كرامته عند ربّه سبحانه أنّه وصفه سبحانه بأنّه على ملّة إبراهيم حنيفا ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1). وهذا يعني أنّه الأولى ـ وأمّته من بعده ـ والأحقّ بإبراهيم الذي تتنافس فيه ملل ونحل منها اليهوديّة والنّصرانية. بل إنّ المشركين أنفسهم ينسبون أنفسهم إليه. كما قال سبحانه ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواَ﴾(2). وذلك بعد أن نفى صلة الآخرين به ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(3). بل إنّه ﷺ كرّمه اللّه سبحانه إذ جعله إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السّلام إذ قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾(4) ومن ذا فإنّ نسبته إلى إبراهيم أبي الأنبياء وشيخهم تكريم له ﷺ وحجّة على النّاس أن يتّبعوا النّبيّ الذي صحّت نسبته العقدية إلى إبراهيم عليه السّلام.
مظاهر أخرى من التّكريم
من ذلك أنّ اللّه سبحانه دعا النّاس إلى توقيره ﷺ إذ قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾(5) . وجعل ذلك فاتحة لسورة مدنية من المفصّل هي سورة الحجرات. وإختلف المفسّرون في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(6). هل أنّ التّوقير هنا والتّعزير ـ وهو الإنتصار ـ عائد إلى الله سبحانه عود التّسبيح له وحده سبحانه أم هو عائد إليه هو ﷺ. وهو خلاف شكليّ يحتمل الأمرين معا بسبب أنّ توقيره ﷺ مطلوب كما ورد في آيات الحجرات آنفة الذّكر. كما دعا سبحانه النّاس إلى توقيره سيما عند شهود العدوّ والخصم ليكون ذلك أدعى إلى إنزجارهم ولذلك قال سبحانه: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾(7). وهناك من حمل ذلك على الدّعاء ضراعة وليس على الدّعاء نداء. ولكنّ حمله على النّداء أولى. فلا ينادى بإسمه المجرّد ـ محمّد ـ وهذا معلّل بعدم تجرئة الخصم عليه وعلى المسلمين سيما في المشاهد المعروفة التي تحتمل ذلك.
ومن تلك المظاهر كذلك أنّه يدعوه بالأنسب بحسب السّياق. فهو يسمّيه عبده عندما ينسبه إليه سبحانه كما في قوله سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْده..﴾(8) وفي قوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدهِ الْكِتَابَ ...﴾(9) وفي قوله سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدهِ...﴾(10) وغير ذلك من المواضع. ولا شكّ أنّ مقام العبودية هو أرفع مقام يمكن أن يغدق به اللّه سبحانه على عبد من عباده. أمّا عندما يكون السّياق تشريعيّا فإنّه يدعوه بصفته الرّساليّة في مثل قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾(11) وفي ندائه إيّاه كذلك بصفته النّبوية تكريم عدا أنّ السّياقين يختلفان. وقد نعود إلى ذلك لاحقا بإذن اللّه سبحانه.
ولعلّ أعلى تكريم هو قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾(12). ولم يرد هذا عدا له هو وحده ﷺ. وأيّ تكريم أغدق من صلاة اللّه وملائكته ـ الذين لا يعلم عددهم إلاّ اللّه ـ عليه والنّاس من بعد ذلك؟ الصّلاة عليه هي الدّعاء له صيغة، وهي القضاء له من ربّه سبحانه بكلّ معاني الصّلاة رحمة ورضى وغير ذلك ممّا لا يعلمه الإنسان. هذا مظهر من مظاهر رفع ذكره الموعود به في قوله سبحانه: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾(13). ذلك أنّ ذكره مقرون بذكر اللّه نفسه سبحانه في شهادة التّوحيد وفي الأذان للصّلاة وإقامتها وفي مواطن أخرى كثيرة. ومهما ضعفت أمّة الإسلام فلا تخلو الأرض يوما واحدا من مواطن لا تحصى يذكر فيها اللّه توحيدا ويذكر فيها نبيّه محمّد ﷺ صلاة وسلاما. 
ومن ذلك أيضا ما ورد في بعض السّور القصيرة التي تكاد تتمحّض له هو وحده ﷺ من مثل سورة الكوثر التي حملت أكبر عطاء له ﷺ : ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر﴾(14). ومهما إختلف المفسّرون في معنى الكوثر فإنّه يظلّ يحتفظ بصيغته التّركيبية العليا مبالغة (على وزن فوعل) لتعني الأكثر من كلّ خير وفضل وعطاء. أمّا قصرها على نهر فلا ينسجم مع هذا التّكريم الإلهيّ لنبيّه محمّد ﷺ. 
ومن ذلك سورة الضّحى التي تكفّلت بتسليته وتعزيته وترضيته والتي تنفي عنه قلي ربّه له ـ أي جفوه بحجب الوحي عنه ـ ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾(15). وكما أنّه سبحانه أطلق الكوثر آنفا ليكون الأكثر من كلّ خير وفضل أطلق العطاء هنا ليكون عطاء يرضيه ﷺ. إنّ هذا النّبيّ الذي ظلّ يأسى على النّاس أنّهم يزجّون بأنفسهم في النّار حتى إنّه ليبخع نفسه ويهلكها حسرة عليهم لجدير بالكوثر ولقمين بالعطاء ترضّيا. إنّ هذا النّبيّ الذي ظلّ يطوي جوعا وظمأ وخوفا لحقيق بكلّ ذلك. 
ومن تلك المظاهر أنّ اللّه سبحانه سمّاه ﴿سِرَاجًا مُّنِيرًا﴾(16) أي أنّه قرين الشّمس التي سمّاها كذلك ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾(17). هما صنوان : الشّمس تينع نورا وضوءا وشعاعا ومحمّد ﷺ يينع مثلها هدى وخلقا عظيما. كيف لا وقد بوّأه ربّه سبحانه أنّه ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(18). ولقد ترجم الصّحابة ذلك إذ كانوا يفدونه بأنفسهم قبل أموالهم. وهو خلق لم يذهب معهم. إنّما ندعى إليه نحن حتّى يوم القيامة أن يظلّ محمّدا ـ بما يرمز إليه من دين وقيم وخلق ـ مفديّ ممّن يؤمن بالله حقّا وصدقا وعدلا. بل إنّه أكرمه بأنّ أيّ إمرأة تزوّجها لا يتزوّجها غيره ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(19). وهي أمومة إعتبارية معنوية تكريمية له ولهنّ جميعا. ومن مظاهر ذلك التّكريم كذلك أنّ من يناجيه في تلك الأيّام يقدّم صدقة ليس له هو ﷺ ولا لآل بيته. إذ هم لا يأكلون الصّدقة. إنّما للمحتاجين. وما ذلك سوى لينزجر المنافقون ومن في حكمهم هذيانا فارغا فلا يضيّعون على قائد البشرية جمعاء قاطبة وقتا ثمينا يصرف فيما هو أولى. حتّى القبلة التي لا يرضاها ﷺ يبدّلها الله سبحانه إرضاء له﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾(20). كان يستقبل بادئ الأمر المسجد الأقصى ولكن لم يكن مبتهجا بذلك ربّما لشغب الإسرائيليين. ولفرط خلقه العظيم مع ربّه أدبا جمّا كان يقلّب بصره في السّماء ولكن لا ينبس ببنت شفة واحدة أنّه يريد قبلة أخرى. 
ويوم فتح الحديبية أنعم اللّه على رسوله ﷺ بكرامات أربع متتاليات: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾(21). لك أن تنظر كلمة (لك) التي تواترت هنا. كأنّ الفتح له هو وحده والصّراط مثل ذلك والنّصر. أمّا عن غفران ذنبه سالفا وآتيا فلا تسأل. أن يغفر اللّه سبحانه ذنبا سالفا فهذا معروف وهو أهل المغفرة. ولكن أن يشمل ذلك القابلات كذلك فلا يعدّ هذا عدا تكريما ما بعده تكريم. وأيّ ذنب له عليه السّلام؟ لا ذنب له. ولكن توقيرا للّه سبحانه وحتّى لا يعبد محمّد ﷺ كما عبد عيسى عليه السّلام، فإنّ السّياق لا يحتمل عدا ذلك. 
كما أقسم الله سبحانه بعمره ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(22). كلّ ذلك أو جلّه ـ ممّا لا يحاط به ـ في الدّنيا. أمّا في الآخرة فبعد الرّضى والكوثر فهو مكرّم بقوله سبحانه: ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾(23). وهو مقام الشّفاعة العظمى التي لا تكون إلاّ لواحد فحسب. ولذلك رجا ﷺ أن يكون هو صاحب ذلك المقام المحمود. وقال في الحديث : سلوا لي اللّه الوسيلة والفضيلة. هي كلمات كثيرة تعني مقاما واحدا هو المقام المحمود. ومن ذلك أنّه سيّد أولي العزم من الرّسل الذين ذكرهم سبحانه في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم﴾(24). الأصل أنّه يذكره بحسب هذا التّرتيب أخيرا. ولكنّه قدّمه وهو مؤخّر في بعثته ليخبرنا بفضله الأعظم وكرامته العليا عنده سبحانه. وليعلّمنا أنّ ميثاقه الذي جاء به مهيمنا على ما سلف هيمنة كتابه على ما سلف. 
ومن مظاهر ذلك التّكريم أنّ اللّه سبحانه قرن نعمته على عبده (زيد) بنعمة نبيّه عليهﷺ: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾(25). ومن ذلك أيضا تشريع حرمة بيته أن يظلّ متّكأ للفارغين البطّالين سيما من الأعراب الذين لا يسأمون من الكلام الفارغ. إذ يحول حياؤه ﷺ دون البدار بأيّ حركة جسد توحي بأنّه يريد الإختلاء بنفسه أو بأهل بيته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾(26). هذا أدب إسلاميّ عامّ ليس خاصّا ببيته هو ﷺ. ولكن جاء ذلك إمعانا في تكريمه بتحريم بيته وخصوصياته البشرية سيما أنّه قائد معلّم يبيّن الدّين ويصرّف الدّنيا فيستكثر على نفسه كلّ ساعة تمضي دون تدبير أو إصلاح. ومن ذلك أيضا أنّه ﷺ يصنع خلقا ورسالة على أعين الله سبحانه لقوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾(27). كما كان أخوه موسى عليه السّلام : ولتصنع على عيني.
الهوامش
(1)   سورة النحل - الآية 123.
(2)   سورة آل عمران -  الآية 68.
(3)   سورة آل عمران -  الآية 67.
(4)   سورة البقرة - الآية 129.
(5)   سورة الحجرات - الآية 2.
(6)   سورة الفتح - الآيتان 8 و9.
(7)   سورة النور - الآية 63.
(8)   سورة الإسراء - الآية 1.
(9)   سورة الكهف - الآية 1.
(10)   سورة الفرقان - الآية 1.
(11)   سورة المائدة - الآية 67.
(12)   سورة الأحزاب - الآية 56.
(13)   سورة الشرح - الآية 4.
(14)   سورة الكوثر 
(15)   سورة الضحى -  الآية 5.
(16)   سورة الأحزاب - الآية 46.
(17)   سورة النبأ - الآية 13.
(18) و (19)  سورة الأحزاب - الآية 6.
(20)   سورة البقرة - الآية 144.
(21)   سورة الفتح - الآية 1-3
(22)   سورة الحجر - الآية 72.
(23)   سورة الإسراء - الآية 79.
(24)   سورة الأحزاب -  الآية 7.
(25)   سورة الأحزاب -  الآية 37.
(26)   سورة الأحزاب -  الآية 53.
(27)   سورة الطور -  الآية 48.