وبعد

بقلم
محمد أمين هبيري
البيئة والتّغيّر المناخي أو في دلالة «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْ
 يتميّز القرن العشرون بكونه قرن الأزمات الكبرى؛ وذلك على مستويات مختلفة أهمّها العسكري متمثّلة في الحربين العالميتين وما نتج عنهما من كوارث إنسانيّة (قتل ما يقارب ثمانين مليون نسمة) وكوارث بيئيّة (عبر ضرب هيروشيما ونكازاكي بالقنبلة النّوويّة)، أمّا على المستوى الاقتصادي، فقد  كانت من نتائج الثّورة الصّناعيّة ارتفاع نسبة انبعاث ثاني أكسيد الكربون«CO2» من المصانع في الجوّ ممّا أدّى إلى ارتفاع نسبة التّلوّث العالمي ومنه إلى ظهور أزمات أكثر خطورة، ذلك أنّ خطورتها لا تقتصر على منطقة جغرافيّة محدّدة بل تتجاوزها لتشمل كافة أرجاء الكوكب، وبالتالي الإنسانية جمعاء.
هناك شبه إجماع لدى النّخبة الفكريّة والعلميّة على أنّ الفعل الإنساني هو سبب كلّ الأزمات وخصوصا الأزمة البيئيّة، فلقد فرض السّلوك الإنساني، في تعامله مع البيئة، العبثيّة وعدم الانصياع لنظام يتحكّم بإفرازات المصانع ما نتج عنه التّغيّر المناخي، والذي يمكن تعريفه بكونه اضطراب في مناخ الأرض مع ارتفاع في درجة حرارة الكوكب، وتغيّر كبير في طبيعة الظّواهر الطبيعيّة مع نزعة إلى العنف، وتدهور مستمر للغطاء النّباتي وللتّنوع البيئي.
تجد ظاهرة الاضطراب المناخي تفسيرها لدى عدد من العلماء في ارتفاع حرارة المحيطات والغلاف الجوّي على المستوى العالمي وعلى مدى سنوات مديدة. وترجع أغلب الدّراسات المنجزة في هذا المقام ظاهرة التّغيّرات المناخيّة إلى جملة من العوامل أبرزها النّشاط الصّناعي وما يخلفه من غازات سامّة تتكدّس في الغلاف الجوي، مؤثّرة بشكل حادّ على انتظام حرارة الأرض وتعاقب الظواهر المناخيّة وتوازنها(1). 
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة الأسباب العلميّة التي أدّت إلى التّغيّرات المناخيّة وما رافقها من انعكاسات خطيرة يمكن أن تعصف بالنّظام البيئي بأكمله (الجزء الأول) دون السّهو عن محاولة إيجاد علاج للأزمة الحاليّة عبر تغيير الفلسفة التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي (الجزء الثّاني)
الجزء الأول: التّغيير المناخي؛ الخطر القادم
قام علماء الأرصاد الجويّة بإطلاق صيحة فزع نهاية سنة 2020 معتبرين إيّاها أسخن سنة مرّت على كوكب الأرض، ما ينبّئ بخطر محدق على الكوكب عامّة، وعلى المخلوقات الحيوانيّة خاصّة. لهذه الظّاهرة أسباب عديدة (العنصر الأول) كما لها انعكاسات وخيمة (العنصر الثّاني) 
العنصر الأول: الأسباب المترتّبة عن التّغيير المناخي
إن ارتفاع درجة حرارة الأرض وتبدّل مناخها ظاهرة طبيعيّة في أصلها، فقد عرفت الأمم عبر التّاريخ أزمات مناخيّة مثل نوبات الجفاف الحادّة والفيضانات العارمة والأمطار الطّوفانيّة، إلاّ أنّ تفاقم تقلّبات المناخ وفجائيتها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين يعود في جوهره إلى النّشاط الاقتصادي المرتبط أساسا بالصّناعات الطّاقيّة. وذلك من خلال مركزيّة دور الغازات الدّفيئة في المسّ بانتظام الدّورة الطّبيعيّة لمناخ الأرض مع ما يترتّب على ذلك من اضطرابات مختلفة مثل اضطراب فترات تساقط الأمطار، وتفاوت معدّلاتها بين شمال الأرض وجنوبها بشكل حادّ.
وفي هذا الصدد تُشير العديد من الدّراسات إلى أنّ تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون «CO2» في الغلاف الجوي بلغ 350 جزيئا في اللّتر بنهاية القرن العشرين، في حين ظلّت خلال مائة ألف سنة من تاريخ الأرض تتراوح بين 200 و280 جزيئا في اللّتر، كما أنّ تركيز غازات أخرى مثل الميتان «CH4» تضاعف هو الآخر حين قياسه في الفترة نفسها (2) .ومع ذلك فلا بدّ من إبراز حقيقة أنّ الاحتباس الحراري ظاهرة طبيعيّة في أصلها وضروريّة لحفظ توازن حرارة الأرض بما يُمكن من استمرار الحياة عليها، غير أنّ النشاط الصناعي يحفز هذه الظّاهرة بشكل زائد. 
العنصر الثاني:
الانعكاسات المنتظرة من التّغيير المناخي
لا يختلف إثنان في الأثر المدمّر للتّغيّرات المناخيّة، فقد شهدت الأرض خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الـ21 ظواهر مناخيّة لم تشهدها من قبل في عنفها وتدميرها. ومكمن الخطر أنّ هذه الظّواهر (براكين وفيضانات وأمطار غزيرة وأعاصير..) تقضي لدى مرورها على آلاف الأنواع من النّباتات والحيوانات الدّقيقة، وهو ما يؤدّي إلى إختلال في التّوازن البيئي. وقد حذّرت دراسات عدّة من أنّ نصف الأنواع النّباتيّة والفراشات الموجودة على الأرض ستكون مهدّدة بالانقراض في 2080 م إذا استمرت تغيّرات المناخ على الوتيرة ذاتها (3) .
وللتّغيرات المناخيّة تأثير مدمّر على البيئة البحريّة، فالمدّ البحري (تسونامي) يُدمّر البيئة البحريّة بشكل شامل، ومعروفة هي هشاشة البيئة البحريّة والمدّة الطّويلة التي تحتاجها للتّجدّد، كما أنّ تغيّر حرارة كوكب الأرض يُؤثّر بشكلٍ حادّ على الغلاف الجوّي على مستوى المحيطات كما اليابسة، وقد أشارت دراسات إلى أنّ ما بين 20 % و40 % من الشّعب المرجانيّة في العالم مهدّدة بعوامل عدّة أبرزها التّغيّرات المناخيّة (4). 
كما يمثل ارتفاع حرارة الأرض واحدا من أوضح وأخطر انعكاسات التّغيّرات المناخيّة. فبعض أرجاء الكوكب لن تكون صالحة للسّكن في العقود القادمة بسبب ارتفاع معدّل حرارة الأرض. نجد انعكاسات التّغيّر المناخي في تلوّث الهواء، وفي الأزمات الغذائيّة النّاتجة عن عدم انتظام المحاصيل وتأثّر الزّراعة بالظّواهر المناخيّة الفجائيّة، كما نجدها على المستوى الدّيمغرافي، فقساوة الطّبيعة تُهجر الملايين عبر العالم وتتسبّب في أزمات صحيّة متواترة.
الجزء الثاني: التّغيير المناخي؛ العلاج المنتظر
يبدو أنّ الإنسان العالمي قد أضحى يعلم خطورة المستقبل وهو ما جعل قادة العالم يشرعون في المصادقة على اتّفاق باريس للمناخ الذي يمثّل بداية تحوّل نحو عالم منخفض الكربون - ولا زال هناك الكثير ممّا يتعيّن القيام به. يعد تنفيذ الاتفاق أمراً ضروريّاً لتحقيق أهداف التّنمية المستدامة (العنصر الأول) لأنّه يوفّر خارطة طريق للإجراءات المناخيّة التي من شأنها تقليل الانبعاثات وهو ما يعكس تصوّرا جديدا يقوم على المركزيّة الحيويّة (العنصر الثّاني)
العنصر الأول:التّنمية المستدامة؛
روح الفلسفة الاقتصادية الإسلامية
تهدف التّنمية المستدامة إلى تطوير موارد الكوكب البشريّة والطّبيعيّة، وتجويد التّعاطي الاجتماعي والاقتصادي، مع احترام حقوق الأجيال القادمة في الموارد الطّبيعيّة، وتعدّ من الفرص المميّزة التي تتيح إمكانيّة إقامة الأسواق، وفتح مجال العمل، ودمج المهمّشين في المجال المجتمعي، ومنح كلّ فرد الحرّية والقدرة على اختيار طريق مستقبله ومساره، وهي تعتبر ترجمة للفلسفة الإسلاميّة القائمة على استعمار الأرض بقيم الاستخلاف. ولها ثلاثة أبعاد رئيسية وهي؛
البعد البيئي: يسعى إلى ترشيد استخدام الموارد القابلة للنّضوب، بهدف ترك بيئة ملائمة ومماثلة للأجيال القادمة، نظراً لعدم وجود بدائل أخرى لتلك الموارد، ولمراعاة القدرة المحدودة للبيئة على استيعاب النّفايات، مع تحديد الكمّية المراد استخدامها بشكلٍ دقيق، الأمر الذي يدعو إلى الحدّ من التّلوّث البيئي.
البعد الاقتصادي: يسعى إلى إجراء العديد من التخفيضات في مستويات استهلاك الموارد الطبيعيّة والطّاقيّة، فمثلاً يقدّر استهلاك الطّاقة النّاتجة من الغاز، والفحم، والنّفط في الولايات المتّحدة بنسبة أعلى من الهند بـ 33 مرّة. كما أنّ الاقتصاد الأخضر يمثّل إحدى البدائل المتوفّرة للحدّ من النّشاط الصّناعي.
البعد الاجتماعي: يتضمّن التّنمية البشريّة التي تهدف إلى تحسين مستوى التّعليم والرّعاية الصّحيّة، فضلاً عن مشاركة المجتمعات في صنع القرارات التّنمويّة، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك نوعين من الإنصاف، وهما: إنصاف الأجيال المقبلة، وإنصاف النّاس الذين يعيشون اليوم، ولا يجدون فرصاً متساوية مع غيرهم في الحصول على الخدمات الاجتماعيّة والموارد الطّبيعيّة.
العنصر الثّاني: المركزيّة الحيويّة في مقابل المركزيّة الإنسانيّة (5) 
المركزيّة الحيويّة هي نموذج أخلاقي في كيفيّة التّعامل مع البيئة ويمكن إجمالها في المعتقدات التّالية:
- الاعتقاد بأنّ البشر يتقاسمون مع بقيّة الكائنات الحيّة العضويّة في المجتمع الأرضي.
- يتحدّد بقاء كلّ كائن حيّ بالشّروط المادّية للبيئة وبالعلاقة مع الكائنات الحيّة الأخرى.
- الاعتقاد بأنّ الكائنات الحيّة هي مراكز غائيّة للحياة بحيث أنّ كلّ كائن له غاية من وجوده.
- الاعتقاد بأنّ البشر ليسوا أسمى من الكائنات الحيّة الأخرى.
من خلال هذه المعتقدات يمكن للإنسان أن يتعامل مع البيئة لا بمنطق نفعي مادي بل يتجاوزه إلى المنطق الإيتيقي المعنوي القائم على قيم الاستخلاف الكونية شرط الحفاظ على أمانة استخلاف اللّه بالمنطق القرآني. 
الهوامش
(1) نقلا عن: الجزيرة، ركن مفاهيم ومصطلحات، التّغيّر المناخي.
(2) المنظمة العالميّة للأرصـاد الجويّـة، نشرة «غازات الاحتباس الحـراري»، حالـة غازات الاحتباس الحـراري في الغلاف الجـوي استنادا إلى الرّصدات العالميّة المنفّذة خلال عام 2018 
(3) مركز «هيلموت - تسنتروم» لأبحاث البيئة والرّابطة الألمانيّة لحماية الطّبيعة «إن.أيه.بي.يو، أطلس مخاطر تغيّرات المناخ على الفراشات الأوروبيّة»، 
(4) كاري مانفرينو، هل بإمكاننا إنقاذ الشّعاب المرجانيّة، على موقع الأمم المتحدة على الرابط التالي: https://www.un.org/ar/chronicle/article/20024
 
(5) Paul W. Taylor, Respect for Nature : A Theory of Envirommental Ethics, Princeton, Princeton University Press,
 2011, p 99- 100.