تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
ماذا فعلت الإنترنيت بالدين؟
 بين أوّل دراسة علميّة جادّة حول المعبد الإلكتروني (1998)، أنجزتها اللاّهوتية الأمريكيّة «جينيفر كوب»، وما نعيشه اليوم من تطوّرات في مجال العالم الافتراضيّ الدّينيّ، جَرت مياهٌ كثيرةٌ في النّهر. فعلى غرار الاقتصاد والسّياسة والثّقافة ومجالات حيويّة أخرى، بات الدّين أيضًا عُرضة للتّأثّر بوسائل التّواصل الاجتماعيّ، والتّفاعل مع الشّبكة العنكبوتيّة، بما تمليه من أوضاع مستجدّة على البشر، وبالمثل ما تُتِيحهُ من إمكانيّات. فلا شكَّ أنّ علاقةَ الحداثة بالأديان، قَبل ظهور الشّبكة العنكبوتيّة، كانت إشكاليّةً، لكن بُعيْد اكتساح وسائل التّواصل الاجتماعيّ المجال الحياتيّ، حَدثت مراجَعات في علاقة الدّين بأدوات الحداثة، جاءت في معظمها هادئة وصامتة. وقد زادت جائحةُ كورونا الأديانَ تمعّنًا في توظيف العنصر الافتراضي في التّواصل الدّيني، وفي تيْسير أداء الفعل الطّقسي، وهو ما يكشف عن قدرة للدّين على التّأقلم مع الطّوارئ والمستجدّات، بخلاف ما يُرمى به أحيانا من نعوت الجمود والتكلّس.
لقد أمْست كلمة «دين» من الكلمات المفتاحيّة في محرّكات البحث، وبمجرّد إدراج الكلمة في محرك البحث «غوغل» والضّغط على مفتاح الانطلاق، ينفتح أمام المبحِر ما يزيد عن اثنين وعشرين مليون رابط. ولو ولجنا، على سبيل المثال، إلى موسوعة «ويكيبيديا»، التي باتت الأكثر رواجًا بين المبحِرين، وتابعنا القراءة بشأن كلمة دين ندرك حجم النّوافذ المشرَّعة على أكثر من مئة رابط فرعي، يحيل كلّ منها على تفرّعات هائلة لكُتب مقدَّسة وأديان ورُسُل ومفاهيم وكتّاب وشخصيات وهَلُمَّ جَرًّا.
فقد اقتحمَ العالمُ الافتراضي المجــالَ الدينــي اقتحامًا، وغدَت صفحات الفايسبـوك، والمدوَّنات، وشبكــات التّواصـــل الاجتماعــي، والمنتديات، والدّردشــة، والبريد الإلكترونــي، والمواقـع ذات الطّابع الدّيني جزءًا من حياة المؤمنين. جعلت تلك المستجدّاتُ الجغرافيـا الدّينيّة عرضة لتحويـرات هائلة، وهو ما فرضَ إعادة بنـــاء علاقة المؤمن بفضائه الإيماني بشكل جذري. فهل ستواصِلُ الإنترنيت تعزيز روح التجدّد في الأديان ودعم التّعامل بانسياب مع ما يشهده العالم من مستجدّات؟ صحيح شكّلت وسائلُ الإعلام السّابقة، مثل الصّحافة والإذاعة والتّلفزيون والسّينما، ومختلف أدوات الفنون وسائلَ مهمّةً في التّواصل مع جمهور المؤمنين؛ ولكنّ أثرَها ما كان بالكثافة والتّدفّق والحينيّة، كما هو الآن، مع الشّبكة العنكبوتيّة.
كل ذلك يجعلنا نتساءل: هل نحن إزاء تحوّل في وعي الدّين من شأنه أن يخلّف أزمة جرّاء انفراط السّلطة الواقعيّة ومنافَسة ليبراليّة العالم الافتراضي المشطّة؟ لقد بِتنا أمام واقع استهلاك مغاير، يصف ملامحه منظِّرو السّوق الدّينيّة باستقلال بناء التّصوّر، وهو بمنأى عن المونوبول التّقليدي في احتكار تأويل الرّأسمال الرّمزي، بحسب عبارة عالم الاجتماع الفرنسي «بيار بورديو». حيث وَضعت الإنترنيت المؤمنَ أمام فائض للمعنى محكوم بالتّنافس الحرّ، بما يتضمّنه من عروض خَلاصٍ متنوّعة، واكتظاظ للفاعلين الدّينيين. تغيّرت علاقة الدّين بالمكان بشكل عاصف مع وسائل التّواصل الجديدة، ولم تعد الرّسالة الدّينيّة الواردة عبر الخطبة والموعظة والقدّاس والفتوى محصورة بمكان الإلقاء وحيْز المخاطَبين، بل صادرة عن كنائس إلكترونيّة، وتروّجها مواقع إلكترونيّة ووكالات إلكترونيّة، يصنعها فاعلون دينيّون، مؤهَّلون وغير مؤهَّلين، وجائلة في الفضاء الكوني الرّحب، وما لذلك من تداعيات جمّة.
ففي الأوساط الغربيّة شهد تعويلُ الكنائس الواقعيّة على العالم الافتراضي تطوّرًا ملحوظًا، في ظلّ تضاؤُل روّاد الكنائس، واكتظاظ السّاحات الافتراضيّة. خلال العام 1988 كانت 11 كنيسة من مجموع مئة في الولايات المتّحدة حاضرةً في الشّبكة العنكبوتيّة، وفي الوقت الحالي تبلغ نسبة الحضور 97 %. لكنّ الظاهرةَ لم تقف عند ذلك الحدّ، حيث يتحدّث الباحث الإيطالي إنزو باتشي في بحث حول الأديان والإنترنيت عن تدشين تسع كنائس وسبعة أدْيِرة جديدة، منذ العام 2000 وإلى غاية العام 2010، ولكنّ جميعها على الويب. لا ينتمي فيها الأتباع إلى الجغرافيا التقليديّة للكنائس، ولكن إلى عالم الويب الرّحب. ربّما جائحة كورونا جعلتنا نلمس عن قرب هذه الظّواهر المستجدّة، تحت دفع الحاجة الملحّة إلى إتمام الشّعائر وإقفال دُور العبادة. فمع موفّى شهر مارس الفارط، ومع اشتداد ضغط جائحة كورونا على إيطاليا تابَعَ قدّاس البابا فرنسيس، من ساحة القدّيس بطرس الخالية من المصلّين وعن بعد، ما يقرب عن 17 مليونا ونصف المليون مشاهد. فمع تعذّر ذهاب المؤمن إلى المصلّى، بات المصلّى يأتي إليه. وفي تناغم مع هذه المستجدّات، سبق للباحثيْن «دانيال دايان» و«إليهو كاتز» أن دَرَسا ظاهرة «الحجّ الافتراضي» للمرء وهو جالس على أريكته في مؤلّفهما «طقوس الميديا الكبرى» (1995)، وهي مؤشّرات على تحولات عميقة في حقل الأداء الديني.
وبموجب أنّ الإنترنيت عالَمٌ رحبٌ، فهي تُلغي الطابع الفعلي للانتماء، وتخلق جماعات افتراضية صِلاتها التّضامنيّة مهزوزة وغير متينة؛ لكنّها من جانب آخر تسمح بتأويلات أكثر حريّة، تضع السّلطة الدّينيّة محلّ نقاش. وربّما من المخاطر النّاشئة مع الإنترنيت، أن يتحوّل الدّين إلى ظاهرة تعيش في الشّبكة. فالسّوق الافتراضيّة تعجّ بالبضاعة الدّينيّة الرّمزيّة، وتكتظّ بالمعاني والدّلالات والتّأويلات للخطاب الدّيني، وهو ما يتغاير مع الخطاب الواحدي. فوفق معهد «بيو فوروم» الأمريكي المختصّ بمستقبل الدّين، يستقي ثُلثا الأمريكان معلوماتهم الدّينيّة من الشّبكة العنكبوتيّة، ولم تعد الكلمةُ المدوَّنة، أو المنطوقة، وحدَها المصدر الملهِم للرّسالة الدّينيّة، بل باتت الصّورة المشهديّة مع الإنترنيت قوّة منافسة أيضا للرّسالة الدّينيّة في التّعبير عن عمقها الرّمزي، وما في ذلك من مَخاطر جمّة.
يحدّثنا الخبير الفرنسي سيبستيان فات، المختصّ بالحركات الإنجيليّة الجديدة، عن تطور ظاهرة الكنائس العملاقة -megachurches-، وهي فضاءات تشبه «المولات»، تضمّ في جنباتها مركّبات اجتماعيّة ورياضيّة وتربويّة متنوّعة، وتسندها ميزانيّات ضخمة، وقد تجاوزت اليوم أكثر من ألف وخمسمئة كنيسة في الولايات المتّحدة وحدها. لو أضفنا إلى ذلك التّحوّلَ في العالم الافتراضي، وتطوّر ظواهر الأديان اللاّمرئيّة، أو أديان «الأون لاين»، كما تُسمّى، ندرك أنّنا مُقبِلون على تغيّرات هائلة في المجال الدّيني.