في ظلال آية

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
برّ الوالدين
 يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(1)
يقول الفخر الرّازي: «يعني أنّ خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة اللّه»(2) وخدمة الوالدين هي صورة من العبادة، يقول الرّازي تعليقا على «وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ»: « فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء، وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة، فإنّ الخدمةلها صورة العبادة»(3). 
وكي لا يلتبس على البعض من تأخير أو تقاعس تجاه الأب يقول العلامة ابن عاشور: «فلمّا ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البرّ بالأم من الحِمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرَّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلّة في كليهما قوّة وضعفا. ولا يقدح في القياس التّفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوّة الوصف الموجب للإلحاق. وقد نبّه على هذا القياس تشريكهما في التّحكّم عقب ذلك بقوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ وقوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾»(4). 
 وأفاض العلاّمة ابن عاشور في مسألة التّفضيل بين الوالدين مدقّقا في أقوال بعض شرّاح الحديث النبوي الذي يستدلّ به البعض في تجزئة البرّ بين الأب والأم أثلاثا أو أرباعا(5)، يقول رحمه اللّه «ولا يخفى أنّ مساق الحديث لتأكيد البرّ بالأمّ إذ قد يقع التّفريط في الوفاء بالواجب للأمّ من الابن اعتمادا على ما يلاقيه من اللّين منها، بخلاف جانب الأب فإنّه قويّ ولأبنائه تَوَقٍّ من شدّته عليهم، فهذا هو مساق الحديث. ولا معنى بأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البرّ بين الأم والأب أثلاثا أو أرباعا»(6) وقد أورد تفاصيلَ أوسع في كتابه «النّظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح». 
وللصّورة التّجزيئيّة التي لصقت ببعض الأذهان حول برّ الوالدين، وإهمال الحديث عن البرّ بالأب، صنّف الدّكتور عبدالسلام البسيوني حفظه اللّه كتابا بعنوان ( الأب رؤية قرآنيّة ونبويّة وقراءة معاصرة)يقول في مقدمته: «وقد لاحظت أنّ عناية الدّعاة والواعظين بالأمّ أعلى، حتّى إننا لنجد بعض الغمط لحقّ الأب وفضله، في زمن يتساهل فيه الأبناء مع آبائهم، وتفشو فيهم أدبيّات غير رشيدة من السّخرية بالأب في السّينماوالمسرح، واعتبار بره نوعا من إساءة التّربية في التّنظير التّربوي، وتحويله في بعض الأحيان إلى جهاز صرّاف آلي، مهمّته الإنفاق لا أكثر» (7). 
ونقف عند لطيفة من لطائف العلامة ابن عاشور، أظنّها يجب أن تكون نبراسا لأبنائنا في المهاجر خاصّة عند اختلاف دين الأمّ عن الأب. فهو يعرّف المعروف بأنّه « الشّيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشّيء الحسن، أي صاحب والديك صحبة حسنة» (8)
ثم يذكر ما قصدناه «وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منك منكرا للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأنّ شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرا في الدّينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه»(8) فهذه حكمة الدّين ولِين جانبه تجاه الوالدين، وربّما يجد فيه البعض ما يغضبه ويرفع صوته في وجوه أهل العلم. فالمقام مقام حديث عن المعاملة الحسنة، كيف هي وإلى أي مدى يمكن أن تبلغه مع الوالدين.
الهوامش
(1) سورة لقمان - الآيتان 14 و15.
(2)   الفخر الرازي، مفاتيح الغيب تفسير الآية 15 ، سورة لقمان ،  15/https://tafsir.app/alrazi/31. 
(3) نفسه
(4) محمد الطاهر بن عاشور تفسير «التحرير والتنوير»، تفسير الآيتين 14 و15، سورة لقمان، https://tafsir.app/ibn-aashoor
(5) أشْبَهَ ذَلِكَ حديث أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: «جاء رجل إلى رسُولِ ﷺ فقال: «يا رسول اللّه، من أحقّ النّاس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي، قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أبوك».. أخرجه البخارى
(6) محمد الطاهر بن عاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة لقمان،   15/31/https://tafsir.app/ibn-aashoor
(7) الدّكتور عبدالسلام البسيوني، الأب رؤية قرآنيّة ونبويّة وقراءة معاصرة
(8) محمد الطاهر بن عاشور ، المرجع السابق