وجهة نظر

بقلم
سامي الشعري
عن الحريّة بما هي «الماهية التّاريخانيّة» للرّوح
 إنّنا نسوق العنوان لا حذلقة ولا تفاخرا بقدرة على التّحرّك بين اللّغات، لكن لنقل مع ذلك «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(1). إنّنا لن نعود قادرين على تطرّق للتّفكير، على «معراج إليه» إلاّ بما هو عبور بين الألسنة، إلّا بما هو ترجمة افتراضيّة دائمة، إلاّ بما هو «تموضع-عبر» (Ubersezung)، ولا يكون ذلك دائما إلاّ «نحو» ضفة أخرى، حيث لا يسعنا أن نكون منادًى منكفئا على نفسه. إنّه الإرتحال بين «ضفاف المعنى»، حتّى لا تموت الرّوح عبر اختزال في حيازة استعمال واحد ليس له –مع الإستعمال اليومي المتداول-إلاّ أن تجفّف روحه ويصير إلى مومياء محنطة. إنّها آنذاك تصير إمّا لغة المتفيقهين، ممّن يستثمرون «رأس مال رمزي»  من أمثال بعض رجال الدّين أو «اللاّعبين السّياسيين» بالمعنى الهزيل للفظ، ممّن يشترون به ثمنا قليلا في سوق المغالبة من أجل الإستمالة أو الإستحمار، أو تعبيرا مشوّها في شكل رطانة «فايسبوكي» لا تدري لها أرضا مكينا، ليس لها من رهان إلا حبّ الإطلاع (das Neugier)، أي البحث الأهوج عن «الجديد» دون تحمّل الرّوية والبحث المتأنّي الرّصين الذي يصبر ويتأنّى، وقد يضطرّ في بعض الأحيان إلى التوقّف من أجل المراجعة كلحظة ضروريّة للنّقد الذّاتي. تصير الرّوح إذا –في هذا السّجل- مدافعة دائمة لدواعي الرّداءة التي تدفع بنا إلى مهاوي التّسطيح العام، حيث يدفع كلّ شبح إلى التّسوية دون تحمّل أي «نتوء» يشي بأنّ هناك أمرا ما مختلفا يدفع إلى الخروج عن الحشود، عن القطيع، وإنّما يراد للجميع أن يبقى منهمكا في «غُمر» لا تشده إلّا «مطامح» دودة الأرض حيث لا علو ولا سنام الجبال التي يتعشقّها النّسور بتعبير نيتشه. العبور للرّوح عبر الرّوح إنّما هو مصاحبة دائمة لهمّة عالية تتباعد بها دائما عن صغائر الأمور نحو «الكبائر»، لا بدلالتها الفقهيّة، بل بما هي نمط الفعل الذي لا يسطاعه المتوسّط من القوم –ممّن اختزل في نفسه السّائد والعادي، بما يتطلّب قوّة شكيمة ورباطة جأش ما هي صفة «العوام»، بل صفة «الصّفوة» أولئك «الذين صبروا»، حيث يهرع غيرهم إلى «عرض قريب أو سفر قاصد»، ولا تبعد عنهم الشُّقة، حيث قد يُستوحش طريق الحقّ لقلّة سالكيه، ولكنّهم يتجشّمونه بصبر ولكن بوعي تخرج عن صاحبه أن يكون مجرد دغمائي منغلق (tétu) يداري ضيق أفقه بتمترس أعمى في «موقفه» دون تبيّن أسسه ورهاناته. هؤلاء وحدهم، ورغم –بل بفضل-معاناتهم، يكونون «ذوي حظّ عظيم» حتّى ولو كانوا في مقاييس «الرّأي السّائد»: «زوالي مزمّر». 
الرّوحي خطاب إلى المناطق القصوى للإعتبار، ولكنّه انشداد (يصير من زاوية أخرى نشدان) لأشدّ الجهات قربا، العيان/ الحدثية، حيث الفعل ومعاييره، ومن هنا يصير من المشروع ضبط الفعل بالقيم/ الأخلاق. إنّها مناداة للأولى، أو هو بالأحرى نداء من الأولى ومناجاة للثّانية. الرّوحي هي جهة القرار بأن نتعالى عن مشروطيّة الفعل، عن ذلك الذي يخضع الفعل إلى عقل أداتي حسابي، تجر فيه المقاصد إلى غائية/ تيليولوجيا مرتّبة سلفا لا تكاد ترى من وجاهة للفعل إلاّ بما تغنمه. الرّوحي هو «قوّة» اندفاع ذاتي بما يتناءى طُرّا عن «الإخلاد إلى الأرض»، عن الإنحطاط إلى التّسوية والتّسطيح واللاّمبالاة، حيث الغمر وقيل وقال والتّلوين الواحد الذي يقضي على الفروقات. الرّوح هي اقتدار الفعل، وهي الأجدر بأن تردّ «الفهم» من وضع التلقّي إلى «القصد نحو» بما هو انهمام وعناية. إنّه يعني أن يُقذف، أن يُحمل، أن يُنقل خارج نفسه مثل شعلة ما. إنّ الروح هو ما يلتهب، وبما هو كذلك فقط فهو «نفثة»، نفخة، رَوح، ريح...إنّ خاصة الرّوح هي هذه التّلقائية الانفعاليّة- بنفسها تشعل أو تشتعل، تمرّ اكستاطيقيا خارج نفسها، وبمفردها، تهب الكينونة لنفسها خارج نفسها، في «المنشط والمكره». إنّ الروح المشتعل هو قذف للالتهاب، وهو الذي يرسم الطّريق، فعُلُو همّته، والقدرة على تحمّل الألم، هما من يجعلان من شعلة/ لهيب الرّوح لا «الحريق الملتهم»، وإنّما عنفوان للإلهام المجمع. إنّه القلق، المعاناة، أي الاضطراب الشّديد والقلق العميق الذي يقضّ المضجع ويُذهب كلّ ضرب من الدّعة والسّكون. ربما –وعبر شعلة الرّوح- ينفتح المجال من جديد لكلّ هذا الموصود سلفا، نار تنبعث من جديد –بعدما كانت «نار موصدة»-، هي نفس تائقة إلى الأمام للالتقاء بالرّوح، وهج واشتعال تتهيّأ بهِمّة عالية دائمة لما عظُم في أعين البعض، أو هان إلى حدّ اللاّمبالاة لدى البعض الآخر. إنّه التّضادّ بما أمر هو جُواني يصير إلى نار يستحثّ دائما على الرّفض وعدم الرّكون. إنّه المعين الذي لا ينضب لاقتدار إنساني بأن يقول لا، لا في دلالتها المتداولة من حيث رد فعل فردي مزاجي لأمر لن يرُق لنا، بل ما يقابل «نعم» حيث تكون «نعم» –في دلالتها المتداولة التي ضُمخت بها- هي الإستسلام والرّضوخ ومقابلة الأمر بسيانيّة الشّيئية. الرّوحي متلازم مع الإنساني، حيث لا تنجدنا حتّى الشّيئية نفسها، طالما أنّه –في المنطوق القرآني نفسه- «...وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ....»(2). إنّه نمط كينونة ينفذ/ ينفث المعنى في كلّ الأنحاء، حتّى لا تصير إلى أمر غُفل لا تكاد تمسك فيه بالفروقات بما هو مجال عمل الفهم البشري، فنصير إلى « ليل كلّ البقر تبدو فيه سوداء».
إنّه روح يفارق الجسد، لا بما هو إشارة فقط إلى الحدث الأخروي، وإنّما إحالة إلى «جسد» –بالدّلالة القرآنيّة التي وردت في الآية «...وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا..» (3): ما عهدناه قبل ذلك أنّ الجسد يطلق على الجهاز العضوي محمل الحياة وسنده ومسكنه، فهو إذا متحدّد بكائن فردي خاصّ ومتعيّن. لكن هذا المعنى تتمّ «مباينته»، من حيث أنّه «يُنتسخ» (لا بمعنى التّقويض أو الإعدام، وإنّما الإحتفاظ والمجاوزة في الآن نفسه) نحو دلالة أخرى، إنّه قد يكون إشارة إلى «شخص» متعين تتحقّق فيه بعض من مكونات التّحديد الأول، ولكنّ الموقع الذي يشغله هذا «الجسد» (الوظيفة السّياسي) هي التي تجعلنا نلتفت إلى الدّلالة الجديدة، التي هي بالضّرورة «سياسيّة»، طالما أنّها كانت متعالقة بهذا الوضع السّياسي.
 إنّ «الجسد» تصير إذا توصيفا، أي وسما لهذا الكائن السّياسي الجديد، أو بالأحرى نمط تدبّره للشّأن السّياسي. إنّ الجسد في التّعريف المتداول في السّياق الدّيني هو ذلك الذي يقابل «الرّوح»، وعند ذلك وجب أن نفهم أن هناك اقتران ضمني بين الإنساني-السّياسي والرّوح، فيه دلالة المراجعة والحركة والنّقد والتوثّب والتّعالي والإرادة الحرّة والمساءلة والإستباق .... إنّ فقدان هذه في «الجسد» (دون روح) يعني فقدانها في «التّدبير السّياسي» الموسوم بالجسد، أي نظام سياسي بدون روح: دون قدرة على المراجعة، على النّقد، على الإختيار، على التّنقل والعزم والهم به، التّوثّب نحو جهة أخرى، الحركة، الذي لا رهانات له سوى «استدامة البقاء» بما هي الصّفة الدّنيا لكلّ جسد طبيعي...
إنّ هذا اللّفظ يصف «مفهوما» نقرأ به مسلك كلّ نظام سياسي كلياني، من حيث أنّه يخنق الأنفاس ويحبسها، من حيث أنّه ذاك الذي يختزل الإمكانات في الإمكان الواقع الرّاهن السّائد أي في «اللاّإمكان»، من حيث أنّه لا تنبض مؤسّساته بالحياة، ولا تترك لأيّ «عضو» (من المجتمع الأهلي) الأمل بالحياة، وتصير تحديد «القيام» هو البقاء متغذّيا دون قدرة تعقّل، بما هو تبين وتعليل وبحث عن الضّمنيّات والرّهانات. إنّه المسلك الذي لا يراهن فقط إلاّ على استدامة «الكرسي»، على استدامة لانهائيّة للإلقاء الذي وصل به (دون مشروعيّة) إلى السّلطة، وذلك كان قياما دون «معنى» يشير إلى مضمون ورسالة وقيمة. إنّه آلة طاحنة لكلّ قوى التّفكير والعدالة والإنصاف والتّضامن، وإنّما يختزل تحديده فقط في التصاقه الشّديد والدّائم بـ «مركز النفوذ والسّلطة» (الكرسي). 
إنّ الإلقاء هنا، وإن كان يشير إلى التّدبير الرّباني (والذي يجب دائما أن يفهم ضمن أفق تاريخاني-إنساني)، فهو كذلك إلى عرضيّة الفعل، من حيث أنّه حصل بـ «الإتفاق» (أي بالصّدفة) لا بتدبير واع ومتدرّج جماعي، أي «بالتّوافق» بين مكونات الفاعلين السّياسيين. لذلك، فإنّ هذا الإتفاق وإن قدر له أن يحصل اتفاقا، فهو لا يحمل في رحمه شروط تواصله، وإنّما هو لقاء عرضي يكفي أن يلتقي، يواجه جهة أخرى أكثر سطوة لينسحب من المشهد، وقد يكون القادم «جسدا» آخر، أو تدبير راشد تتعيّن فيه شروط المسلك السّياسي بما هو مسلك إنساني-روحي.         
إنّ الروح «رَوْح» ينأى بنفسه دائما أن ينصهر في «مادة-مادة»...إنّه الذي نفرّ إليه دائما حتّى لا نموت في أشكال التّشيئة والعطالة، أشكال الاغتراب التي تعدم هذا «الرّجاء» أو «الأمل» لتسويه بمطالب «أصدقاء الأرض» كما يقول أفلاطون. إنّه الذي يُؤوي القيمة ويحضنها حيث تلاحقها «حتفا وعصفا» المصلحة والمنفعة والمردوديّة والنّجاعة، أي الذي ينازع في كلّ مرّة هذا «الميل الطّبيعي» لهذا الاختزال، لهذا «التّهاوي» نحو اللاّمعنى. إنّه اذا «موطن» المعنى الذي يقاوم محاولات قتله حتّى من طرف أقربائه، من هؤلاء «الممتهنون للتّفكير» («ممتهنوا الفلسفة» كما يقول نيتشه)، الذين يكونون لا «أحباء الحكمة»، أحباء الرّوح، وإنّما «عرض هذا الأدنى». قد نبقى نتأبى نظريّا على أن نؤسّس ذلك ضرورة على جوهر مفارق يسكن البدن، ولكن ورود هذه المعاني يوشك دائما أن يندفع من نفسه إلى الإنشداد إلى المطلق الذي يبحث عن الأساس والأول واليقيني...، إلى الجمع والإلتقاء إلى منطقة تكون شرطا كافيا وضروريا للتعالي دائما نحو مقام آخر يتحرّر من عوامل سجنه المادّي المباشر. 
في عامل التّحرير الدّائم هذا يكون مقام الرّوحي. الرّوح هو مداد لا ينفذ للنّقد، عوض أن يكون مهربا نلجأ إليه حيث عزّ الحلّ. إنّه «رَوحٌ» بدلالة رفع دائم لليأس، وعندها ربّما تكون الاستعادة بما هي –في الآن نفسه- دعوة للرّوح هي من صنو الدّعوة: « ليكن لديك روح !» (Get Geist). إنّها تصير انبساطا بل وتحقّقا لظهور جديد من شان الرّوح، يكون بمقتضاه دعوة إلى أن يُقال حرية «Get freedom». 
إنّ الرّوح يكون هنا –في عين الآن- حاملا ومحمولا، قولا من ضرب «تحصيل الحاصل»، «ينحمل على نفسه (auto-prédicatif)، جوهرا وتصيّرا، حيث لا ينفي هذا ذاك بل يبسطه ويحقّقه. إنّها ماهية أخرى من شأن الرّوح، تكون فيها إنيته علاقة بعين الذّات وفي الذّات، الذي يصير ما يكونه أو ما يجدر به أن يكونه. ينقل هيدغر عن شلينغ قوله: «قريبا ستنجلي في وضح النّهار عدم صحّة ما نطق به نابليون أمام غوته: القدر هو السّياسة». إطلاقا، بل الرّوح هو القدر، والقدر هو الروح، ولكن ماهية الرّوح هي الحرّية. الرّوح بما هو «الذي يقول دائما لا»، وبدءً إلى نفسه. إنّ التّدبّر السّالب للرّوح- وهو الذي يكون مصدر حرّيته- يقابل الرّوح بالحياة، ويجعل من الوعي «روحا من شان الروح». 
إنّ الوعي بالذّات –الذي يكون منفرجا بنفسه عبر آنات لكلّ ما هو كائن- يمكن أن يصنع فُرُجات حتّى في شخصه. بهذا يقدر الإنسان أن يلاحظ نفسه، ينقدها ويغالبها. إنّه ما «يتخارج-نحو» ويعرض نفسه بما هو كذلك. إنّ الإنسان يكون روحا، من حيث أنّه لا يُحشر- مثل الحيوان- ضمن المنفتح، وإنّما يشترع الإضاءة ويتعالى عليها. لدى الإنسان، تكون الإنية من حيث هي كذلك روح، لأنّ منزع الأوب-إلى-النّفس فيه يجعله يتعالى على ما هو طبيعي، ومن ثمّة تكون الإنّية حرّة. إنّ ماهية الرّوح هي الحرّية، وهذه الحرّية هي ما يُمكن الإنسان من أن يتبدّى في وحدة إرادة الماهية أو اللاّماهية المركوزة فيه، وهذه الإرادة هي روح، ومن حيث هي كذلك تكون تاريخا، أي حدوثا تاريخانيّا يرسم «قرارات أساسيّة» نقوم بـ «تأريخها» لاحقا في متوننا النّظرية بما هي «منعطفات التّاريخ البشري». نحسب أن ما تنحته أيادي وصواريخ المقاومة في أرض الرّباط هو من ضروب هذا الأمر...
لعل ما جر إليه القلم بعض من الفتوحات التي تجلّي بعض من أسرار «أمر ربّي»، حيث يصير المقصد من اختصاص اللّه بأمر الرّوح «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(4) لا زجرا عن التّقدّم إليها من أجل الإنكفاء إلى وضع الجهل بل استحثاثا للإقتحام تكون من صنوّ همّة تتعلّق بما وراء العرش تتعشّق فتحا لبعض مغاليقها، وعروجا نحو أسرار ليست –في رأينا –أصلا تجاريّا يختص به الإله من أجل إبانة سطوته- جلّ وعلا عن ذلك-، وإنّما دعوة دائمة بأن «يكون لنا روح» متوثّبة من أجل التّنائي عن الرّديء والتّافه والوضيع الذي يجرّنا إلى مرتع إبليسي من أجل بقاء أجوف لا روح فيه. .إنّه –في رأينا- بعض من مقتضيات الإستخلاف، وهو شرط إمكان لأن نقوم بمقام «العهد» و«الميثاق» لا النّكوص عنه، حتّى ولو كان ذلك بعناوين دينيّة. إذاك، قد نفهم بعضا من مقاصد الفعل الرّباني «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي»(5)، حيث يصير فهمنا إلى طور نظري يقدر على تبين مسطح حركته (لا التّهويم في ماهية للرّوح هي من طور غير طورنا)، وعملي يهفو دائما إلى التّعالي على عوامل الإحباط والهزيمة...
الهوامش
(1) سورة فصّلت، الآية 35
(2) سورة البقرة، الآية 74
(3) سورة ص، الآية 34
(4) سورة الإسراء، الآية 85
(5) سورة الحجر، الآية 29