بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الإعجاز القرآني: المفهوم والإشكالات (الحلقة الثالثة : الإعجاز ومستتبعاته)
 عرّف الرّمّاني الإعجاز بكونه: «عملا محالا على البشر ومتعذّرا مع توفّر الدّواعي وشدّة الحاجة إليه وقيام التّحدّي»(1) . علما بأنّ ظاهرة الإعجاز تتفشّى ثني مكوّنات البلاغة. وقد ركّز الرّمّاني، في معالجته لقضايا المجاز، على مسألة الإطناب والاختزال والجدل القائم بينهما في مستوى إنجاز الأعمال اللّغويّة. فالمعاني، حسب رأيه، تنوس بين التّصريح والتّضمين، والإشارة والعبارة، فالدّلالة تتأرجح بين الطّرفيْن: الشّكل والمضمون. الشّكل الّذي قد يتمطّط وقد يتقلّص، في حين أنّ المضمون واحد. إنّ المعوَّل، حسب الرّمّاني، إنّما يكون على الإيجاز وهو البيان عن المعنى بأقلّ ما يمكن من الألفاظ. ومقياس الإيجاز والإطناب، لديه،  إنّما يكون في المعنى الواحد(2).
ولقد خصّص جلال الدّين السّيوطيّ في إتقانه، وبالتّحديد، في النّوع الرّابع والسّتين لمسألة الإعجاز، ورسم فيه خطّ التّطوّر الّذي مرّت به هذه الظّاهرة. فذهب إلى أنّ موضوع الإعجاز قد تناوله العديد من العلماء وكتبوا فيه، ومنهم الخطابيّ والرّمانيّ والزّملكانيّ والإمام الرّازي وابن سراقة والباقلاّني. والمعجز هو الخارق للعادة. ولئن كانت المعجزات المتقادمة في الرّسالات الأولى مادّيّة لبدائية العقول، فإنّ رسالة محمد الرّسول الخاتم ﷺ معنويّة مستمرّة إلى يوم القيامة. والمعجزات المادّية تنقضي بانقضاء عصرها، أمّا المعجزة الكتابيّة فهي مستمرّة إلى يوم القيامة.
وإعجاز القرآن، حسب السّيوطيّ، يكمن في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيّبات وما مرّ عصر إلاّ ويظهر فيه شيء يدلّ على صحّة دعواه(3) . 
وإذا كانت المعجزات المادّيّة تدرك بالبصر، فإنّ  معجزة القرآن تدرك بالبصيرة. ولعلّ ذلك ما حدا بالقاضي عبد الجبّار إلى اعتبار أنّ الإعجاز عن طريق المعجزات المادّيّة وهي محدودة بحدودها غير محدثة ولا متجدّدة من حال إلى حال، ومن ثمّ بانت أفضليّة المعجزة الكامنة في القرآن. ولمّا تجاوز القرآن نهاية الرّتبة من الفصاحة الجارية والمعمول بها عند العرب، بان من ذلك اختراقه للعادة. والفصاحة عند العرب تكمن في جزالة اللّفظ وحسن المعنى(4)، ولاسيّما أنّ القرآن قد جعل المُعجزة اللّغويّة جزءا من الرّسالة الّتي جاء بها، على عكس الكُتب من قبله، إذْ كانت مفصولة عن الإعجاز. 
والمهمّ أنّ القرآن قد تحدّى معارضيه بطريقة متدرّجة ولم يُفلح أحد في الإتيان بمثله. وبالرّغم من الإمهال وتقلّص حجم التّحدّي من عشر سور إلى سورة واحدة إلى بعض آيات، باعتبار أقصر سورة، فإنّ النّتيجة قد كانت واحدة. لقد بدأ القرآن باقتراح على المعاندين يتمثّل في أن يأتوا بمثله كاملاً بصورة مجملة، وفي خطوة ثانية أن يأتوا بعشر سور مفتريات مبتدعات، وفي مرحلة ثالثة أن يأتوا بسورة واحدة. علما بأنّ الرّسول ﷺ، لمّا طالب العرب بأن يتركوا أديانهم وأن يحطّوا من زعامتهم ورئاستهم وأن يعدلوا عن علاقاتهم ومصالحهم وأموالهم، كلّفهم ذلك حرجا ومشقّة. وهذه المشاقّ تستقيم وحدها داعياً كافياً أن يستجيبوا لتحدّيه، ولو فعلوا لكان ذلك سببا كافيا لإبطال دعوة الرّسول ﷺ ولكنّهم لم يفعلوا(5).  ولقد أرجع البعض إعجاز القرآن إلى ما فيه من أخبار الغيب. إلاّ أنّ هذا المعطى لا يتوفّر في كلّ سورة. ولعلّ ذلك يقدح في هذا الرّأي، لأنّه يتحدّى بالإتيان بسورة مثل سوره وإنْ قصُرت. 
ومن ذلك اتّضح أنّ في القرآن ضربا من الكلام لا يمكن تحدّيه والإتيان بمثله. وهو يظلّ ماثلا في النّفس حتّى وإن خفي عن النّظر(6)، فهو كلام لا يشبه الكلام، وتعجز الأقوال عن معارضته، وتنقطع الأطماع عن ذلك، فهو لا يخضع لمقاييس الكلام البشريّ العادي، فالسّبب كامن فيه وإعجازه منه، ومذموم الكلام لا يوجد فيه البتّة، وإنّما فاقت أوصافه أوصاف اللّغة المستعملة على ألسنة النّاس، وإنّما هي لغة مليئة بالألطاف الإلهيّة، المحيطة بكلّ حوامل اللّغة صفات وأسماء وأفعال، وهي في القرآن على أشرف مراتبها، فكانت المعاني واضحة في ظاهر الألفاظ، وإعجازه كامن في أوضحها وأحسن نظم التّأليف وأصحّ المعاني(7).
والجدير بالملاحظة، هو أنّ التّحدّي الّذي أقامه القرآن لمعارضيه إنّما هو يعود إلى ثلاثة ضروب: الضّرب الأوّل، أن يأتي المعاندون بسورة من شخص منهم  شبيه بالرّسول محمّد ﷺ وهذا المعنى مستفاد من عودة الضمير في الجملة على آخر اسم وارد فيها طبقا للآية: «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(8)، بناء على أنّ الطّعن قد صُوّب نحو شخص الرّسول ﷺ، باعتباره شاعرا أو ساحرا أو كاهنا أو مجنونا. والضّرب الثّاني يتمثّل في الإتيان بسورة واحدة شبيهة بسور القرآن في المضامين والصّناعة. فالنّاظر فيما أتى به أدعياء النّبوءة مثل مسيلمة وسجاح والأسود العنسي، إنّما هو قول صادق في المحتوى ولكنّه قول يعدم آليات الصّناعة البلاغيّة والنّظم. وإن تضمّن هذا القول الكذب من قائليه، فالكذب عليق بنسبته إلى كونه وحيا من اللّه باعتبار أنّ اللّه مصدر الوحي، أمّا مضامين القول في حدّ ذاتها فهي أخبار صادقة لأنّها مطابقة للواقع. لأنّ الطّاحنات تطحن فعلا والعاجنات كذلك تعجن. وإنّ حقيقة الفيل تتجلّى في ذنبه القصير وخرطومه الطّويل. وعليه فزيف هذا الادّعاء باد في عدم الحاجة إلى برهان يثبت هذه الأخبار المشاهدة. 
وأمّا الضّرب الثّالث من الإعجاز فهو المطالبة بالإتيان بعشر سور مفتريات. والافتراء يتطلّب الإتيان بشكل يماثل ما جاء به القرآن وهي الصّياغة البديعة المبدعة بما احتوت عليه من جمالية المجاز والتّشابيه والاستعارات. الأمر الّذي يجعلها تهب الدّلالة وغيرها بحسب اختلاف المقاربات ووجهات النظر(9). وفي المقابل اكتفى المعارضون بنعته بالسّحر، تارة، وبالشّعر، تارة أخرى. 
فالقرآن، حسب السّيوطي، قطع الحجّة ورفع العذر وكشف النّقص. وقد ذهب النّاس، في تحديد موطن إعجازه، مذاهب شتّى: اعتبره البعض صفة قديمة، وآخرون رأوه في نظمه، وقال البعض بالصّرفة، وانحصر عند البعض في الإخبار بالغيب. وقال أبو بكر الباقلّاني: «إنّ الإعجاز كان في النّظم والتّرصيف، وأنّه مفارق لكلام العرب ولشعرهم وخطبهم وترسّلهم»(10). وارتأى فخر الدّين الرّازي أنّ إعجازه في سلامته من العيوب، لأنّه من اللّه العالم بكلّ شيء. والنّتيجة أنّ قدرة العرب كانت دون الإتيان بمثله، فما بالك بغير العرب أو من لا يتمتّعون بالقدرة البلاغيّة. ولمّا كان لفظ القرآن هو لفظ العرب وكانت معانيه معانيهم، فإنّ الإعجاز، حينئذ، سيكون حاصلا من غير سابق تعليم وتعلّم(11). فالرّتبة، الّتي احتلّها النّظم مرتبة غير مألوفة ولا مقدور عليها، ممّا يجعل الإعجاز من هيأة نظم لا يتعاطاه البشر ولا يقدر عليه. وأمّا بندار الفارسيّ فقد رأى أنّ الإعجاز صفة ملازمة لكلّ جزء من أجزاء القرآن ممّا حيّر الألباب وتوه العقول فيه والبصائر(12).ويخلص السّيوطيّ إلى أنّ الإعجاز ماثل في آثار كلام اللّه في النّفوس دون غيره من أنواع الخطاب. 
أمّا القاضي عياض فيرى أنّ إعجاز القرآن يتجلّى في أربع نقاط: الأولى حسن التّأليف والتئام الكلام وفصاحته وبلاغته. والثّانية صورة النّظم ومخالفة أسلوبه وفواصله. والثّالثة ما حواه من علم الغيب وما لم يكن وقد حقّقته الأيّام وأثبتت صدقه. والرّابعة ما احتوى عليه من أخبار الماضي ممّا لا يعلمه إلاّ أحبار أفذاذ(13). إنّ هذه النّقاط الأربع مجتمعة قد جعلت من الكلام الإلهي، حسب القاضي عياض، محرّكا للأفئدة. وجعلت منه آية متجدّدة لا يكلّ منها القارئ ولا يملّ، فهو كتاب قد يُسّر ببلاغة منفردة. 
واختلف علماء المسلمين هل الإعجاز كامن في مواطن محدودة ومحدّدة من القرآن أم هو منتشر على كلّ أجزائه؟ كما اختلفوا في إمكانيّة العلم بإعجازه استدلالا وكذلك في مستوياته. وفي هذا الإطار، رأى القشيري أنّ في القرآن ما هو فصيح وما هو أفصح. وانحصر الإعجاز عند البعض على الإنس دون الجنّ، لأنّهم ليسوا من أهل اللّسان العربيّ، وما ذِكر الجنّ في سياق التّحدّي إلاّ لإعلاء شأن القرآن. وقد افترض الرّماني أنّ قول القائلين بإمكانيّة معارضة قصار السّور هو قول قاصر، باعتبار أنّ ذلك غير جائز، لأنّ التّحدّي قد وقع بها ووقع العجز عنها في قوله: «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(14)، ولم يخصّ بذلك الطّوال ولا القِصار(15). 
ولمّا كانت معجزة القرآن الأساسيّة  قد حُصرت، حسب المفسّرين الأوائل، في المستوى البلاغي وكان للرّسول ﷺ تعلّق بالبيان واضح، فمن الطّبيعيّ أن يكون الاقتباس من القرآن وأقوال الرّسول ﷺ مبرّرا ومشروعا، معرفيا وذوقيّا، وبناء على ذلك اعتبرت، كلّ خطبة خلت من هذا الاقتباس شوهاء أو بتراء.
الهوامش
(1) ذكره السّيوطيّ في الإتقان في علوم القرآن، ج2، م س، وبالتّحديد النّوع الرّابع  والسّتّون في إعجاز القرآن، ص155.
(2) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،  م س، ص80.
(3) السّيوطيّ، الإتقان في علوم القرآن، ج2، م س، وبالتّحديد النّوع الرّابع والسّتون في إعجاز القرآن، ص149.
(4) القاضي عبد الجبّار، المغني، ج 16: إعجاز القرآن، م س، ص197.
(5) يحي بن حمزة العلويّ، الإيجاز لأسرار كتاب الطّراز في علوم حقائق الإعجاز من العلوم المعنويّة والأسرار القرآنيّة، تحقيق بن عيسى بالطاهر، دار المدار الإسلاميّ، ط1، 2007، ص ص 218،219.
(6) انظر الخطّابي،  بيان إعجاز القرآن، م س، ص24.
(7) انظر الخطّابي، بيان إعجاز القرآن ،  م س، ص27.
(8) سورة البقرة 2، الآية 23.
(9) يمكن العودة في هذا الإطار إلى محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، وبالتّحديد الباب الأوّل، الفصل الرابع الموسوم بإعجاز القرآن وتأويله، م س، ص ص 179،210.
(10) السّيوطيّ، الإتقان، ج 2، م س، ص151.
(11) السّيوطيّ، م ن، ج ن، ص152.
(12) السّيوطيّ، م ن، ج ن، ص153.
(13) السّيوطي، الإتقان ، ج 2، م س، ص156.
(14) سورة البقرة 2، الآية 23.
(15) السّيوطي، الإتقان، ج 2، م س، ص ص 159،160.