الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 169
 ليس من السّهل أن يشتغل أهل الفكر والثّقافة في وضع متوتّر كالذي تعيشه هذه الأيام أيقونة الثّورات العربيّة تونس. لكنّنا عازمون على مواصلة طريقنا من أجل تنوير العقول والبحث عن الحلول الكفيلة لإرساء ثقافة تساهم في عمليّة الإصلاح التي تبدو صعبة ولكنّها ليست مستحيلة. 
ما حدث يوم 25 جويليّة حدث جلل ستكون له انعكاسات كبيرة وخطيرة على مستقبل التّجربة الدّيمقراطيّة التّونسيّة التي تعاني بطبيعتها ومنذ نشأتها من معوقات وصعوبات شتّى. لقد حذّرنا مرارا وتكرارا من الوصول إلى نقطة اللاّعودة، ونبّهنا النّخبة بجميع أطيافها إلى ضرورة تبنّي مبدأ الحوار لأنّه المسلك الوحيد لإنقاذ سفينة الحرّية التونسيّة من الغرق والبلسم الذي ربّما يشفى البلاد من عللها التي كانت تعاني منها طيلة عقود نتيجة تحالف الفساد والاستبداد، وأخرى أصابتها بعد الثّورة نتيجة سوء تقدير للوضع من النّخب الحاكمة ومعارضيها على حدّ سواء، فانشغلوا بصراعهم عن مشاغل الشّعب الحقيقيّة ومطالبه التي من أجلها قدّم الشّهداء وأنجز الثّورة.  
 ولم يعد خافيا على أحد صعوبة المرحلة الحاليّة التي تعيشها بلادنا تونس. ولم يعد خافيا أيضا أنّ شوكة الفساد مازالت كما عهدناها في العهد البائد وإن اختلف لبوسها، بل إنّ البعض يرى أنّها تقوّت وأصبحت أكثر صلابة، حيث تؤكّد المؤشّرات والوقائع والملاحظات الميدانيّة أنّ الفساد انتشر كما ينتشر السّرطان في جسمٍ مريضٍ. ويُرجع بعض العارفين لخفايا الأمور تغلغله وانتشاره إلى تعامل حكومات ما بعد الثّورة مع ملفّه، حيث لم تتّسم مواقفها بالجرأة والحزم، ممّا ترك المجال فسيحا أمام المفسدين ليتدبّروا أمورهم ويعودوا إلى السّاحة أقوى من ذي قبل.
إن تفكيك شبكة الفساد ومن ثمّ مقاومته يجب أن يكون من أولويّات جميع القوى وخاصّة من تفكّر في الحكم، لأنّ وجود الفساد يحدّ من قدرات الدّولة وهيبتها، ويعيق عمليّات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. ولا يمكن تفكيك شبكاته بتعطيل مؤسّسات الدّولة بل باشتغالها في تناغم وتوافق حقيقي مع  ربط جسور الثّقة مع المواطنين عبر مصارحتهم بحقائق الأمور وعدم التستّر على الفاسدين أو العفو عنهم، لأنّ الذين تستّرت عليهم حكومات ما بعد الثّورة، أصبحت لديهم قوّة جبّارة وأموال طائلة، وباستطاعتهم شراء كلّ شيء بما في ذلك الأحزاب والإعلام والقضاء.
 علينا أن نعي أنّ المعركة مع الفساد ليست بالهيّنة وأنّ عمليّة إصلاح ما أفسده المخرّبون طيلة 50 سنة أو أكثر يتطلّب التّحلّي بالصّبر وكثير من التّعقّل والتّعاون بين مكوّنات السّلطة السّياسيّة والقضائيّة وامتلاكها للإرادة اللاّزمة لتطبيق القوانين مع تطويرها في اتجاه تشديد العقوبات ضدّ الفاسدين وحماية المبلّغين عن الفساد. 
لا يختلف إثنان على أنّ الطريق الذي سلكته النّخب الحاكمة خلال العشريّة الفارطة، يتطلّب تعديلا في الاتجاه وفي سرعة الحركة. وليس هناك اتجاهات عديدة، بل هو اتجاه واحد يتمثّل في الانحياز التّام إلى الفئات الفقيرة المهمّشة والعمل على تغيير النّمط الاقتصادي اللّيبرالي السّائد من ناحية ومن ناحية أخرى إيلاء المسألة الثّقافيّة أهمّيتها، لأنّ التّغيير لا يمكن أن يحدث في ظلّ تصحّر ثقافي، وساحة ثقافيّة غدت مرتعا لقوى فكريّة سلفيّة متطرّفة بشقّيها الدّيني والعلماني المتغرّب، فاحتلت المشهد الثّقافي والفكري وحوّلته إلى ميدان صراع وعراك. 
إنّ غياب الحوار من المجتمع يعني غياب الحرّية، وحقّ التّعبير عن الأفكار والآراء، وهو دليل على هيمنة ثقافة الاستبداد ومصادرة حرّية الفكر والثّقافة، كما أنّ غياب الحوار دليل على طغيان «الفرديّة» ونبذ الآخر وإقصائه. وعندما يشوه الحوار أو تتمّ مصادرته، فإنّ قدرة المجتمع على البناء والإصلاح تغدو هشّة لا رجاء منها.
نحن الآن في حاجة إلى حوار بناء يعترف فيه المخطِئُ ويتواضع من خلاله المصيب، الغاية منه ترتيب فوضى الأفكار والبحث عن حلول للمشكلات . إنّه يتطلّب صدرا رحبا و انفتاحا مستمرّا وعقلا متفتّحا وخروجا دائما عن الذّات للإنغماس في رحاب موضوع الحوار قصد التّعرف على خباياه واكتشاف رموزه والوصول إلى إجابات للتّساؤلات العميقة المتعلّقة به والتي لا يمكن أن تكون إلاّ ثمرة جهد المتحاورين جميعا. 
ليس الحوار أن نفضح بعضنا البعض وأن نجتهد للقضاء على الخصم. وليس الحوار أن أثبت أنّك مخطئ وأنّني على حقّ، بل دفاع عن رأي مع الاقتناع بامكانيّة خطئه ونقد رأي آخر مع الاقتناع بامكانيّة صحّته. ولا يتمّ الحوار  بين طرفين متّفقين، بل بين متخاصمين مختلفين في المصالح والرؤى. الهدف منه تقريب وجهات النظر والبحث عن المشترك وإن كان قليلا للبناء عليه ووضع خارطة طريق لتجاوز الأزمة. 
الحوار ثقافة مفقودة في وطننا نتيجة سنوات طويلة من الكبت والاستبداد والإقصاء، ولا خيار لدى من يحلم بمستقبل أفضل ووطن يحترم فيه النّاس بعضهم بعضا، سوى أن يجتهد في وضع أسس هذه الثّقافة والقطع مع ثقافة الصّراع والعراك لأنّ البناء لا يتمّ بالمعاول، فالمعاول مجعولة للهدم لا للبناء. 
إن الشّعب ليس في حاجة إلى الحماسة والصّراخ ورفع الشّعارات الرّنانة، وهو ليس في حاجة إلى أن ينهش أبناؤه بعضهم بعضا، وإنّما هو في حاجة ملحّة إلى حكماء وعقلاء يجيدون فنون إدارة الإختلاف من أجل خلق توافق واتّفاق يصبّ في مصلحة الجماهير ويحقّق لها آمالها وأحلامها في عيش كريم وحرّية لا غشّ فيها ومستقبل أفضل من الحاضر. إنّ الشّعب في حاجة إلى «رجال» يعرفون كيف يتحاورون ...