وجهة نظر

بقلم
عبدالرحمان بنويس
استصحاب التّجربة التّاريخيّة في إصلاح المناهج التّعليمية في المستجدّات الطّارئة
 في مستهل هذا المحور، نتحدث عن أهمّية صلاحيّة المرجعيّة الإسلاميّة للمناهج التّربويّة تنظيرا وتنزيلا، لأنّ منطلقها النّص، ومن خصائص النّص الشّرعي الشّموليّة والموسوعيّة والاستيعاب، ولا شكّ أنّ الدّين بجوانبه الكبرى (الشّريعة والعقيدة) ارتكز باب منها على التّربية والأخلاق والمبادئ العليا، والتي شكّلت منهاجا للإصلاح ورؤية عمليّة للتّطبيق.
والقرآن والسّنة بما هما وحي منزّل ومقدّس استبطنا العديد من النّظريات الإصلاحيّة، والتي تلمس جوانب المناهج التّعليميّة (المعلّم، والمتعلّم، والمادّة المعلّمة) وسياقاتها المنهجيّة، وتبرز ملامح إصلاحيّة من خلال القصص النّبوي والعمل الصّالح لرجال أفنوا أعمارهم في الاستخلاف في الأرض، فاستعمروا بالصّلاح والفلاح، وذلك بالتّركيز على كلّ ما يلمس العلم والارتقاء به.
وباستصحاب القصص القرآني وما حدث للأمم الغابرة من أخذ بالسّنين والابتلاءات والجور السّياسي، وقد استطاع الأنبياء عليهم السّلام أن يتكيّفوا مع مختلف الظّروف الطّارئة والأزمات المعقّدة، فنوح استطاع في تدبير أزمة الطّوفان، أن يبتكر حلولا واقعيّة من خلال العمل على إنجاز مشروع إنقاذ البشريّة من الدّمار، واستطاع إبراهيم أن ينقذ المومنين بتفعيل آليّة المناظرة والحوار المثمـر، واستطاع موسى أن يوظّف المنهج القلبي الدّعـوي في تثبيت العقـل الإنسانـي على الحـقّ، وإعمال آليّـة الجـدل المنطقي والتّفـرّغ التّـام للقيـام بالأسبـاب الهادفـة، فاستطاع بذلك حماية النّفس من الهلاك وتربية قومـه على البذل والاجتهـاد، كمـا هيّـأ يوسـف نفسـه بمـا أتـاه اللّه من الحكمـة والعلـم لتدبير الأزمـة الاقتصاديّـة بالتّفكير المنهجي وطلب المسؤوليّـة التّطبيقيّـة لامتلاكـه القدرات والمؤهّلات العلميّة والقياديّــة، وكلّ ما ذكرنـاه تحلّى به سيّدنـا رسـول اللّه ﷺ مع أزمة منـع الدّعـوة ومحاربة قومه له بكلّ الأنواع والطّرق المشروعة وغير المشروعة، فانتهض في سبيل ذلك بغرس منهاج تعليمي يعلي من أولويّة العلم وأقطابه، ووصّى إلى حيثيّات ذلك بمنهجي التّرغيب والتّرهيب.
غير أنّ ما سلف ذكره قد تعترضه تقطّعات وتقزّمات، فتبقى رهانا محوريّا وصخرا صامدا في التّقدم بالإصلاح، وقد سجّل لنا الزّمن التّاريخي للمسلمين نماذج وصور لمنهج التّعامل مع الطّوارئ المشابهة، ويمكن قياسها على مختلف النّوازل والمستجدّات.
ملامح عن أسباب المحن الطّارئة وأساليب ضبطها
نعتقد بأنّ ما من أزمات وأوبئة خطيرة إلاّ بما كسبته أيدينا من الطّغيان والتّفريط؛ إمّا في حقّ اللّه أو في حقّ العباد بما فيها النّفس، ولا تُرفع إلّا بالطّاعات وإرجاع المظالم إلى أهلها، كما لا يمكن فكُّ تلك المحن إلاّ بالعلم، لأنّ الذي أنزل الدّاء جعل له دواء، ووسيلة إيجاد ذلك الدّواء بالنّبش والحفر في أساطين العلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»(1) ، لذا وجب طلب العلم مهما اختلفت نوعيّته إنسانيّا كان أو طبيعيّا، والعلوم على كلّ حال كلّها متكاملة في خدمة الإنسان. والحاجة اليوم إلى العلم ماسّة لرفع الأوبئة، ولعلّ أخطرها الغباء والجهل الذي يفتك بالنّاس ويؤدّي بهم إلى الوباء، وقد ذكر البخاري رحمه اللّه عن عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أنّه قَالَ: «تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ» يَعْنِي: الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ، قال الدكتور مصطفى البغا معلقا «أي قبل اندراس العلم والعلماء، وبقاء الذين لا يعلمون شيئا ويتكلّمون بمقتضى ظنونهم الفاسدة»(2)، فهذا الكلام يبرز مدى أهمّية تعلّم العلم في توجيه أيّ منهاج إصلاحي.
ولذلك يعتبر رفع العلم في الشّريعة الإسلاميّة من أشراط السّاعة، لما رُوي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺَ لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرِي: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَكْثُرَ الجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ»(3). فالحديث يشفّ عن حقائق انتشار الطوارئ، ولعل أهمها انتشار الجهل والفسق في جميع المجالات، وإذ نقصد بالجهل هنا الجهل المركب بالعلم وبالواقع وأسرارهما. فإذا كانت هذه منزلة وقدرة العلم على المستوى الدّيني والدّنيوي، فما الحوادث المترجمة لوقوفه في وجه الجوائح؟
نماذج وصور تاريخيّة من الطّوارئ المستجدّة ومنهج التّعامل معها
تحكي كتب التّاريخ الإسلامي أنّ الزّمن الأول عرف أزمات وجوائح لم يشهد التّاريخ لها مثيلا، فحوصر الجميـع وهلكـت البشريّـة وانقطـع العمـران وخرّبت البلـدان، وضعـف فيهم الطّالـب والمطلـوب، ومن ذلك مـا ذكـره ابن خلدون في مقدمته عن واحدة من هذه الأزمات التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب والمعروفة «بمجاعة عام الرّمادة وطاعون عمواس» قال فيه: «وأصاب النّاس سنة ثمان عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع النّاس، وحلف عمر لا يذوق السَّمن واللّبن حتّى يحيا النّاس، وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدّهم لأهل المدينة، فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطّعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطّعام من مصر فرخص السّعر، واستقى عمر بالنّاس فخطب النّاس وصلّى. ثمّ قام وأخذ بيد العبّاس وتوسّل به ثمّ بكى وجثا على ركبتيه يدعو إلى أن مطر النّاس.
وهلك بالطّاعون أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم. وتفانى النّاس بالشّام، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها، فدعا أبا موسى يرتاد له منزلا ومات قبل رحيله، وسار عمر بالنّـاس إلى الشّـام وانتهـى الى سرغ ولقيه أمراء الأجنـاد وأخبروه بشـدّة الوبـاء، واختلف النّـاس عليـه في قدومه فقبل إشارة العود ورجع، وأخبر عبد الرّحمن بن عوف بما سمع من رسول اللّه ﷺ في أمر الوباء فقال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه»(4). 
فهذا النصّ الذي ذكره البخاري يبيّن أنّ التّاريخ الإسلامي حدثت فيه أوبئة وأزمات شبيهة بالتي نحن بصدد التّأقلم معها، فتمّ منع انتشارها بعدم الخروج من المنطقة أو الدّخول إليها، في بيان تامّ لاستمرار الحياة الطبيعيّة اقتصادا ورواجا، والذي بيّن ذلك بالذّات هو متانة المنهاج التّعليمي الذي تشبّث به عمر ومن كان يعاونه في الإيالة والمساندة.
ويؤكّد ابن خلدون بالبيان أنّه «لمّا هلك يزيد ولّى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان وعلى الأرض شرحبيل بن حسنة، ولمّا فحش أثر الطّاعون بالشّام أجمع عمر على المسير إليه ليقسّم مواريث المسلمين ويتطوّف على الثّغور ففعل ذلك، ورجع واستقضى في سنة ثمان عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكنديّ، وعلى البصرة كعب بن سوار الأزديّ»(5)، والمستنبط استفادةً ممّا ذكره ابن خلدون تصريحا أو تضمينا من هذه الوقائع مجموعة من: 
التّوجيهات الفعليّة لتجاوز التّحديّات والمستجدّات
* أنّ الوعي بالفكر الجمعي جعل عمر ابن الخطاب يلقي الأوامر التي تحمي البلاد والعباد من شرّ الشرّين وتقليل الضّرين «المجاعة والطّاعون»، واستمرار القرار السّياسي والسّيادي رغم الأزمة.
* المجال الأمني يفرض على الحاكم أن يعيـش بعيـش قومـه وأن يستشعـر أحاسيسهم الدّاخليّـة في المأكل والمشرب، وأن يتضامن اجتماعيّا مع فقراء شعبه.
* تحريك الطّبقة الواعية بنشر التّعاليم الوقائيّة وتضمين ذلك كمنهاج رسمي للوقاية والحدّ من الأزمة، بالتّفاني في خدمة البلاد والعباد بدون احتكار أو جشع.
* الاستعانة بالآثار المسموعة عن سيدنا رسول اللّه ﷺ في حصر الأزمة، وهذا دليل أنّ المنهج التّعليمي عندهم لا ينفك عن مرجعيته وأصالته المؤيّدة بالوحي.
* موت الكثير من الصّحابة والتّابعين يعتبر أزمة في المنهاج التّوجيهي، لكن وجود الخلف ينسي تحقّق الأزمة، وهو ما حصل في زمن عمر بوجود رجال أكفّاء اقتراحا وإصلاحا، بدعوة النّاس إلى الالتزام بالضّوابط الشّرعيّة.
* الضّرورة السّياسيّة في زمن عمر تفرض أن يوضعَ الرّجل الصّالح في المكان الصّالح، كما في أزمة اقتسام الثروات ووضع قاض حازم عليها، وإنشاء هيئة الرقابة والحسبة على السوق والحد من رفع تسعير المواد.
* العهدة بالعدل في الصّغيرة والكبيرة تحقيقا لمقاصد العدل الإلهي، وتنويها بالمنهاج الاستخلافي الذي كلف به الإنسان في مسؤوليّته الأرضيّة، بتذكير الأمراء والقضاة بذلك.
إنّ هذا النّموذج على قِدَمِ تاريخه ينبئ النّاظر إلى وجود ترسانة معرفيّة سابقة نابعة من الواقع، ومن تجارب رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه من الإصلاح ومنفعة الأمّة، فتركوا إرثا توعويّا لمجابهة الأزمات والكوارث.
غير أنّ الواقع المعيش يتنكّر لهذه التّجارب، ويعتبرها تراثيّة لا تصلح للواقع إلاّ بقدر ما تصلح للمحاكاة والتّسلية، والواجب في نظرهم هو الانفتاح على التّجارب المعاصرة ممّا فعله الغرب من الحجر الصّحّي، وربط النّاس في منازلهم من دون توفّر الوسائل المادّيّة التي تعيّشهم في يومهم وليلهم، حتّى أضحى البعض من النّاس يلتزمون بالنّهار خوفا من سوط السّلطة، ويتحرّكون باللّيل بحثا عن قضاء أغراضهم ومسؤوليّاتهم ولو بوسائل تخالف ولي الأمر.
راهنيّات وحَدَبَات
إنّ آثار الحداثة والعولمة تحكّمت في عقول الكثير من المصلحين، فانتهى بهم الأمر إلى عدم الالتفات لكلّ ما هو تراثي، والسّعي الحثيث إلى محو الأصالة الإسلاميّة، وإبعاد النّاس عن الدّين الإسلامي بداعي الحرّية المفقودة في الهويّة الإسلاميّة.
إنّ كلّ ذلك جعل وضعنا يغلي بالكثير من التّناقضات الفكريّة والسّياسيّة، ونحسب أنّ منهاج التّعليم مبتعدٌ غاية البعد عن كلّ هذه القضايا الشّائكة، وقد تُرجِم ذلك أيّام الحجر الصّحّي، بظهور العنف المادّي والمعنوي داخل الأسر وبين الأطفال، وسعي الفاعل السياسي إلى تنزيل قوانين تكبيليّة، واستغلال الفرص حدّا من التّظاهرات ومن المطالب التي تهمّ مقاصد الشّرع والنّاس، في حين أنّ آخرين ظهروا بمظهر النّقد والتّصحيح وظنّوا أنّهم يحسنون صنعا، بينما نسجّل غيابا تامّا للمفكّرين والمثقّفين عن كلّ هذه الأمور، والسّبب في اعتقادنا أنّهم أدركوا حقيقة عدم اهتمام الفاعلين السّياسيّين بآرائهم واجتهاداتهم، فاشتغلوا بأنفسهم واستغلّوا الفرص لتحقيق أمالي علميّة جادّة، فما علاقة السّياسي بمحور اقتصاد المعرفة؟.
الهوامش
(1)   أخرجه البخاري في كتاب الطب باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء رقم الحديث 5678. 
(2)   الجامع الصحيح للإمام البخاري تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، تعليق الدكتور مصطفى البغاء، دار طوق النجاة الطبعة: الأولى، 1422هـ 8/148.
(3)   أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب بقل الرجال ويكثر النساء رقم 5231.
(4)   صحيح البخاري - كتاب الطب - باب ما يذكر في الطاعون - حديث 5728.
(5)   مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمان بن خلدون (المتوفى: 808هـ) تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت الطبعة: الثانية، 1408هـ 1988م 2/553-554.