نقاط على الحروف

بقلم
عمر الموريف
الدّين والعقلانيّة منظورات: النّص، الموروث، والفكر الحديث (2-2)
 ثانيا: العقلانيّة من الفكر الاعتزالي إلى  الفكر الحديث
قد نصادف قراءات وتوجّهات مخالفة لما يذهب إليه الفكر الدّيني التّقليدي، غير أنّه وجب الإشارة إلى أنّ هذه «الثّورة» على القواعد التّقليديّة لم تكن من نتاج الفكر الحديث، وإنّما بوادرها وإرهاصاتها، بل تطبيقاتها كانت منذ قرون خلت، وذلك مع الفكر الاعتزالي، باعتباره حركة فكريّة متميّزة عن التّيار السّائد وقتها، وفي وقتنا الرّاهن أيضا:
-1 التجربة الاعتزالية
نشأ الفكر الاعتزالي نتيجة ظروف تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة خاصّة ارتبطت ارتباطا وثيقا بأحداث الفتنة الواقعة بين علي ومعاوية رحمهما اللّه تعالى(1).
وما يهمّنا في هذا المقال البسيط، هو التّطرّق إلى التّجربة المعتزليّة باعتبارها تجربة فريدة اعتمدت العقلانيّة في تعاطيها مع المسألة الدّينيّة.
فالنّزعة العقليّة في تفكير المعتزلة روح تسري في جميع ما يكتبه شيوخهم، وهي سمة ظاهرة تغلب على آرائهم الدّينيّة والدّنيويّة، ورغم أنّك لن تجد أبوابا وكتبا تتحدّث عن هذا الموضوع وحده وتشرحه وتبيّنه مذهبا شاملا متكاملا يسيرون عليه وينتهجون نهجه، إلاّ أنّك عاثر حتما على هذا المذهب العقلي في ثنايا شرحهم للمشكلات الكلاميّة المختلفة، وتدليلهم على سلامة ما ذهبوا إليه. وأنت مصطدم به أثناء قراءتك للمسائل الكبرى التي شغلت الأذهان وشعّ من خلالها نور العقل المعتزلي الوهاج. فإذا قدّموا أدلّة وبراهين، فإنّهم يقدّمون أدلّة عقليّة صرفة في مسائل دقيقة من مثل إثبات اللّه موجودا، وإثبات حدود الأشياء والأفعال، وأنّه المحدث وأنّ الأعراض غير قديمة، ونلاحظ أنّ هذه الأدلّة العقليّة كانت سهلة بسيطة أوّل الأمر، ثمّ تعقّدت وتشعّبت  حتّى بات من الصّعب على غير المتخصّص فهمها إلاّ بعد معاناة ومعرفة بالاصطلاحات والمفهومات اللّغويّة الفلسفيّة الخاصّة(2).
فالمعتزلة إذن قد أعلوا من شأن العقل، واعتبروه الدّليل الأول على معرفة الصّراط المستقيم المشار إليه في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(3)، يقول القاضي عبد الجبار: « وهذا الصّراط المستقيم لا يعلم بالمجاهدة، فالواجب على المرء أن يتّبع الأدلّة وينظر فيها ليعلم، وأوّل هذه الأدلّة دلالة العقل، لأنّ به يميّز بين الحسن والقبيح، ولأنّ به يعرف أنّ الكتاب حجّة، وكذلك السّنّة والإجماع(4). وممّا عرف به المعتزلة في إعمالهم للعقل في رحاب الدّين اعتمادهم لمسألة «المجاز» في تفسير القرآن الكريم(5).
ويرى الرّاحل نصر حامد أبو زيد أنّ المعتزلة كان شغلهم -أيضا-، في نزعتهم العقليّة، مهمّة الدّفاع عن الإسلام ضدّ مهاجميه من أبناء الأديان الأخرى، وكان عليهم من ثمّ أن ينظّموا وسائلهم الاستدلاليّة لإقامة أفكارهم على أساس معرفي مكين، وكان الإعلاء من شأن العقل هو وسيلتهم لتحقيق الغايتين معا، إلى جانب ما يؤدّي إليه هذا الإعلاء من التّسوية بين البشر، وإلى عدم التّفرقة بينهم على أساس الجنس أو الثّروة، وإذا كان القرآن نفسه قد رفع من شأن العقل والفكر، فقد كان للمعتزلة الفضل الأكبر في الانطلاق من هذا الأساس إلى آفاق أرحب، حيث انتهوا إلى أنّ العقل هبة من اللّه وهبها جميع البشر دون تمييز(6)، وجعلوه أساسا للتّكليف ومقدّمة ضروريّة له.
وكغيره من الاتجاهات الفكريّة، فقد تعرّض الفكر الاعتزالي بدوره لنقد وانتقاد من لدن الاتجاهات الأخرى.
-2 العقلانية وتجاذبات الفكر الحديث
شكّل سؤال النّهضة ونفض غبار التّخلّف أهمّ إشكالات الفكر الحديث، هذا الإشكال الذي بات مرتبطا ارتباطا وثيقا بقضيّة العقلانيّة وعلاقتها المباشرة بالمسألة الدّينيّة، فاتجاه منه يرى ضرورة إعمال العقل في رحاب الدّين لتحقيق التّقدّم والرّقي المنشود، على اعتبار أنّ الرّعيل الأول ما تقدّم بالحضارة الإسلاميّة إلاّ من خلال اجتهاداته الكبرى في مجال الدّين، ليأتي عهد الجمود منكبّا على النّقل والشّروح وشروح الشّروح والاختصارات والتّلاخيص، جاعلا العقل مستقيلا من وظيفته كما أكّد على ذلك محمد عابد الجابري رحمة اللّه عليه(7)، والأخير عند اقتراحه لسبل النّهضة ركّز على النّموذج الرّشدي/ ابن رشد العقلاني، بينما خالفه طه عبد الرحمن في نوعيّة العقل الدّافع للنهضة والرّقي محدّدا إيّاه في «العقل المؤيّد»(8) متّخذا من توجّه الغزالي والخيار الصّوفي منهجا، لكن في نهاية المطاف يجتمعان على أنّ العقلانيّة تظلّ من بين الأسباب والدّوافع الكفيلة بإحداث التّغيير المنشود نحو الأفضل. وقد سار على نهج العقلانيّة مفكرون كثر، نحدد البعض ممّن اطلعنا على جانب من منتجاتهم الفكريّة في هذا الإطار كنصر حامد أبو زيد، عبد الإله بلقزيز، محمد أركون، وغيرهم.
وممّا أثارني في هذه التّجاذبات في الفكر الحديث حول موقع العقلانيّة في رحاب الدّين، بعض النّماذج أو القدوات التي يشار إليها بكونها رمزا للاتجاه العقلي في التّعامل مع المسألة الدّينيّة، وربما يعود هذا الاختلاف في الفهم الذي خصّه كل مفكر لهذا الرّمز، ومن بين هؤلاء ممّن عرف تناقضا في موقفه العقلي إزاء المسألة الدّينية نجد أبو محمد علي ابن حزم، فهل شكّل هذا العلامة فعلا رمزا للعقلانيّة في الحقل الدّيني الإسلامي أم العكس؟
اختلفت الشروح حول الرّجل بين اتجاهين أساسين: اتجاه احتفل به كمثال للعمل العقلي، وآخر اعتبره عكس ذلك تماما. فالمفكّر المصري عبد الجواد ياسين يعتبر ابن حزم من خلال منهجه المتمسّك بالقرآن الكريم والسّنّة النّبويّة باعتبار أنّ «الدّين ليس في سواهما أصلا»(9)، واتخاذه موقفا من حجّية الإجماع، وإعمال القياس، هو ما اعتبره المفكر عقلانيّة منضبطة بالنّصّ، أو أنّ نصيته ممتزجة بالعقل، إذ لم تعلن عن نفسها وحسب داخل ميدان الفقه والأصول، بل كانت منهجا كلّيا، يقف وراء الرّؤية الحزميّة الشّاملة برمّتها(10).
وفي المقابل يعتبر المفكّر السّوري الرّاحل جورج طرابيشي ابن حزم قد قام بتسييد العقل من جهة، لكنّه أقاله من الجهة الثّانية(11)، ذلك أنّ تكرار كلمة «العقل» عند ابن حزم، كما يذهب إلى ذلك طرابيشي، لا تعني سوى شيء واحد، وهو أنّ العقل محجور للنّص، وليس له بالتّالي أن يقرّر شيئا، إباحة أو حظرا، من ذاته، وهذا ليس فقط بعد ورود النّص، بل حتّى قبل وروده(12)، ولعلّ المفكر السّوري يذهب إلى وصف ابن حزم على كونه متعبّدا زاهدا في «وثنيّة النّص»(13)، ذلك أنّ تمسّكه الصّارم بالمعنى الظّاهر لمعنى النّص، حتّى ولو عارض الواقع والمنطق والعقل، هو ما يجعل ابن حزم، حسب طرابيشي، رمزا للاعقلانيّة الفكر الإسلامي.
وهكذا نجد أنّ الفكر الحديث وهو يحوم حول موقع العقلانيّة في مجال الدّين، يتأرجح بدوره بين الإعمال الكلّي على غرار المعتزلة، أو يميل إلى رموز من أعلام التّراث الإسلامي، أو يعتمد نهج الفكر الدّيني التّقليدي القائل بالاعتراف بمكانة وقدر العقل من جهة، وبمحدوديّة عمله في المسائل الدّينيّة من جهة ثانية.
تقاطع
حديثنا عن قضية العقلانيّة في القضايا الدّينيّة لا يخلو من تعقيدات، سيّما إن ربطناها بمجال خاصّ وحسّاس هو مجال الإلهيّات، أو ما يربطه جانب هام من الفلسفة بمسمّى «الميتافيزيقا».
لقد سعى الكثير من الفلاسفة والعلماء إلى امتحان العقل في قضيّة إثبات وجود خالق للكون، غير أنّ جانبا منهم لم يسلم بالقدرات العقليّة المحضة في هذا المجال، شأن فيلسوفنا الدّكتـور عبد الرحمن طه الـذي اعتبر أن « صحّة الدّليل المنطقي ليست شرطا ضروريّا للبرهنة على وجود اللّه، (...) فليس كلّ معقول مفعول، ولا كلّ مفعول معقول، وأنّ الشّعور بالتّفاوت بين المعقول والمفعول دفع للاعتقاد بضرورة قيام عقلي عملي يكون على شروط تغاير الشّروط التي عليها العقل النّظري»(14).
ولا غرابة أن نجد هذا التّوجه يتقاطع مع توجّه مماثل لأحد رموز الفلسفة الغربيّة الذي جعل من عمل العقل محدودا ووظيفته قاصرة عن إدراك ما هو أعلى منه، فها هو كانط يفنّد الأدلّة على وجود اللّه واحدا بعد الآخر، وينقدها نقدا عنيفا من النّاحية العقليّة الخالصة، ولكنّه يظلّ مع ذلك على إيمانه بوجود اللّه، ذلك لأنّه يرى أنّ العقل البشري لا يستطيع أن يعرف سوى الظّاهر وحده المرتبط بزمان معيّن ومكان محدّد، وأيّ خروج منه عن هذا الإطار فإنّه سوف يطوح نفسه في الظّلام والمتناقضات(15).
وهكذا نقف على أنّ التّوجه الغالب في علاقة الدّين بالعقل يخلص إلى الاعتراف بمنزلة الأخير الرّفيعة، لكن أيضا بمحدوديّته في بعض المسائل الأخرى، والمطّلع على دراسة أبي يعرب المرزوقي لفكر ابن خلدون للوقوف على نقد الفلسفة وتأسيس الموقف الدّيني، سيقف على الخلاصة القريبة من هذا الاستنتاج، حين أشار الكاتب إلى « بيان حدود العقل مع سلامة المعرفة العقليّة الاجتهاديّة التي لا تدّعي الإحاطة التي هي ليست ضروريّة»(16). 
 
الهوامش
(1) للتوسع، أنظر محمد سليم العوا،المدارس الفكرية الإسلامية: من الخوارج إلى الإخوان المسلمين، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، بيروت لبنـان، سنة 2016، صص: 193- - 245
(2) علي فهمي خشيم، النزعة العقلية في تفكير المعتزلة، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، ط2، س 1976، ص 103. 
(3) سورة الأنعام، الآية 153.
(4) محمد سليم العوا،  المرجع السابق،  ص 199.
(5)  أنظر: نصر حامد أبوزيد، الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، المكز الثقافي العربي، المغرب، ط 7، س 2011.
(6) مما نسب لديكارت قوله: «العقل اعدل الأشياء قسمة بين الناس» 
(7) تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 10، س 2009، ص 162 وما يليها
(8) راجع: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط5، س 2014.
(9) الإحكام في أول الأحكام، ج 4، ص 654.
(10) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، ج1 : العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط 4، س 2012، ص 192. 
(11) راجع مؤلفه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، المرجع السابق، ص 296
(12) نفسه، ص: 301.
(13) نفسه، صص: 295-388.
(14) العمل الديني وتجديد العقل، المرجع السابق، ص 29
(15) أنظر: إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى الميتافيزيقا، نهضة مصر للنشر والتوزيع،س 2005، ص 230-231.
(16) صونا للفلسفة والدّين، دار الفرقد، دمشق سوريا، ط 2، س 2013، ص 349.