بالمناسبة

بقلم
نجاة حكيمي
الفلسفة التربوية للمرأة في الإسلام: «رؤى ونماذج»
 وبعد، فإنّ اهتمام الإسلام بالإنسان لم يكن محض الصّدفة والحظّ، بل مقصودا لذاته، وغاية لغيره، لذا فالإنسان فى نظر الدّين الإسلامي محور التّنمية وهدفها الأساس.
وموازاة لاهتمامه بالإنسان، اهتم الإسلام بالعلم الذي يكون به الشّأن للأمّة، وبدونه تفقد مجدها، باعتباره فضائله وبركته التي جعلت القرآن الكريم لا يتقبل مجرّد المقارنة بين أهل العلم وفاقده، وهذا ما يؤكّده قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»(1). وبه يتقرّب العبد من ربّه، وبواسطته تُعلى منزلته ذكرا كان أو  أنثى.
ولقد كشف الرّسول ﷺ عن علاقة توافقيّة بين آلة العقل الإنساني وحكمة العلم، ولم يفضّل في ذلك جنسا على آخر، وترجم قوله: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»(2) ماهية تلك العلاقة، فالارتقاء الإنساني لا يكون إلاّ بالادراك الكلّي الشّمولي للعلم، كما أنّ العلم لا يقوم حقيقة إلّا بعقل إنسانيّ عميق مفكّر. والحديث يكشف أنّ طلب العلم ليس حكرا على فئة دون أخرى، إذ لم ينف الإسلام عن المرأة حقّها وواجبها في طلب للعلم، بل دعاها إلى أن تكون إلى جانب الرّجل، لتخرج للأمّة الإسلاميّة عالمات ورائدات محنكات بالعلم المتوّج بالدّين والثّقافة المحاطة بالأدب والتّهذيب ،لتعود بالنّفع على المجتمع الإسلامي عامّة، وتتمكّن من إدارة بيتها وتنشئة أولادها على الأخلاق الفاضلة على وجه الخصوص.
ولو نظرنا إلى تاريخ المرأة المسلمة في طلب العلم لوجدناه مماثلا لتاريخ الرّجل في جلّ الميادين والتّخصّصات، وتجسّد ذلك في عدد لا يمكن حصره من المسلماتّ، منهن من برعن في علم الفقه وعلم الأصول ورواية الحديث، ومنهن من أبدعن في الأدب فكنّ شاعرات وكاتبات، وقس على ذلك في الطّب وغيره من العلوم التي كان للنّساء المسلمات الرّيادة والفضل في نشرها. 
نذكر على رأسهن «زينب بنت علي رضي اللّه عنه»، عقيلة الهاشميّين، التي تغذّت بعصارة الدّين واقتبست المعرفة عن صاحب الرّسالة المقدّسة جدّها رسول اللّه ﷺ، ، وانتهلت العلم والفهم أيضا من أبيها علي رضي اللّه عنه سيد البلغاء وأمير  البيان، حيث ترعرعت بين صفوة الفقهاء طاهرة السّريرة، ذات عقيدة ثابثة مع علم وأدب، كبيرة العقل راجحة الإدراك، عالية الرّتبة كما تقول الدّكتورة بنت الشّاطىء: «لم تظفر صبيّة من لداتها فيما  نحسب بمثل ما ظفرت به في تلك البيئة الرّفيعة من تربية عالية»(3). كانت زينب شبيهة أبيها علما وفصاحة وبلاغة، تقيّة عالمة ذات مجلس حافل يقصده جماعة من النّساء اللّواتي كنّ يرغبن في التّفقه في الدّين.  
ومن بين النّساء المسلمات اللّواتي كان لهنّ حظّ وافر من العلم والمعرفة، «زينب طبيبة بني أود»  التي برعت في علاج أمراض العيون. كانت عليمة بالممارسة الطّبيّة وخبيرة بالعلاج، وكانت مشهورة بين العرب بذلك، حيث قال حمّاد بن اسحاق فيها: «أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان قد أصابني فكحلتني، ثمّ قالت اضطجع قليلا حتّى يدور الدّواء في عينيك، فاضطجعت ثمّ تمثلت قول الشّاعر: أمخيرمي ريب المنوية ولم أزر طبيب بني أود على النّأي زينبا. فضحكت ثمّ قالت أتدري فيمن قيل هذا الشّعر؟! قلت: لا فقالت: في واللّه قيل، أنا زينب التي عناها، وأنا  طبيبة بني أود......»(4).
اشتهرت زينب بين معاصريها في علاجاتها في ميدان الطّب، فكانت إحدى رائدات الحضارة العربيّة الإسلاميّة،  مع غيرها من الطّبيبات كسارة الحلبيّة، وخولة بنت الأزور...
أمّا السّيدة «فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس» إمام دار الهجرة ،وصاحب المذهب المالكي، وكتاب الموطأ المشهور، فقد كانت ضمن روّاة الموطأ، مجددّة مجتهدة، حافظة لعلم أبيها، وقد ذكرها القاضي عياض نقلا عن الزّبيري حيث قال: «كانت لمالكٍ ابنةٌ تحفظُ علمَهُ، يعني: «الموطَّأَ»، وكانت تَقفُ خَلْفَ البابِ، فإذا غَلطَ القَارِئُ نَقَرتِ البابَ، فيفطنُ مالكٌ فيردُّ عليه»(5)، فقد روت فاطمة الكثير من أحوال أبيها، واتقنت مساعدته لاكتساب عيشه، فعرفت بالفقه والصّلاح حيث كانت سبّاقة للعلم والمعرفة   ونحو ذلك، عكس إخواتها الذكور. 
أمّا «أمّ الحسن بنت أبي جعفر الطنجالي» فهي إحدى أَدِيبَات  الأندلس، كانت شاعرة وكانت تجوّد القرآن الكريم، وتشارك قومها في صناعة الطّب، يشهد لها بالنبوغ.حيث قال عنها لسان الدّين بن الخطيب أنّها: «ثالثة الشّاعرتين حمدونة وولاّدة، وفاضلة في الأدب والمحاورة، تقلّدت المحاسن من قبل ولاّدة»(6) .
و«فاطمة بنت أحمد ابنة المهدي لدين اللّه» كانت عالمة مشهورة لها من والدها مراجعات، و«كان  زوجها  الإمام  المطهر  يرجع إليها فيما يشكل عليه من مسائل وإذا ضايقه التلاميذ في بحث دخل إليها، فتقيّده  الصّواب،  فيخرج بذلك إليهم، فيقولون: ليس هذا منك هو من خلف الحجاب» (7).
ولنا في هذه الثّلة المباركة قدوة، وغيرهن كثيرات من العالمات اللّواتي تأثّرن بالبيئة العلميّة التي نشأن فيها، فتميّزن بالجدّ والعلم، فرفعهن اللّه درجات، وكنّ من أهل العلم الذين أوجب اللّه تعالى الرّجوع إليهم في أمور الدّين والدّنيا، رجالا أو نساء، وهم ورثة الأنبياء كما جاء في حديثه ﷺ: «... وإن العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر»(8).
وأخيرا، إن فلسفة التّربية عند المرأة المسلمة منصبّة على الارتقاء بالفرد، وعلى تنشئة الأجيال على منبع صاف في الفكر والعقيدة، بعيدا عن الانزواء وراء النّسوانيّات، فالمرأة مطالبة بالاهتمام بالفكر والعلم والمعرفة لتسخيرها في عمليّة التغيير والإصلاح وإفادة أبناء بيئتها، اقتداء بأهل العلم والمعرفة من العالمات المسلمات اللّواتي أنتجت قريحتهن المنهج والمعرفة، فنشأ على أيديهنّ رجال حملوا أثقال الأمّة وحافظوا على هويّتها.
الهوامش
(1) سورة الزمر  - الآية 9
(2)ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن أبي سعيد الخدري - الرقم: 5246
(3) بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن، السيّدة زينب عقيلة بني هاشم: ص32.
(4) كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء - زينب طبيبة بني أود - المكتبة الشاملة الحديثة ص181
(5) القاضي عياض في «ترتيب المدارك»: (1/48)، وابن فرحون في «الديباج المذهب»: (ص18).
(6) الطبيبات الشواعر ... تاريخ من الحكمة والنبوغ - صلاح حسن رشيد -https://darfikr.com
(7) البدر الطالع للشوكاني 2/24 - 25
(8) رواه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/196) (21763)