شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
ألفونس إيتان دينيه
 كان كاتباً ينفذ قلمه إلى أعماق النفس الإنسانية، وكان تشكيلياً يلتمس حياة الناس البسطاء، ويصور همومهم، فتجرد قلمه كما تجردت ريشته من ملونات الاستشراق السياحي التي كانت واضحةً في أعمال غيره من المستشرقين. إنه الفنان التشكيلي«ألفونس إيتان دينيه»، الذي أصبح اسمه بعد إسلامه «ناصر الدين دينيه». 
«دينيه»، من كبار الفنّانين والرّسامين العالميين، دُوّنت أعماله في معجم (لاروس)، وتزدان جدران المعارض الفنّية في فرنسا بلوحاته الثّمينة، وفيها لوحته الشّهيرة (غادة رمضان)، وقد أبدع في رسم الصّحراء. وُلد في باريس عام 1861م، من عائلة برجوازية، حيث كان والده قاضيًا فرنسيًا بارزًا.
درس المرحلة الثّانوية في باريس عام 1871م، نال بعدها شهادة البكالوريا، وكان خلالها يمتلك موهبة الرّسم حتّى نال أوّل جائزة في مسابقة الرّسم عام 1879م. التحق بمدرسة الفنون الجميلة في باريس عام 1881م، وفي عام 1882م سجل في أكاديمية جوليان، ونتيجة إبداعه، تحصّل على منحة دراسية إلى الجزائر، أين بقى فيها خمس سنوات كاملة، زار فيها كل من مدينتي ورغلة والأغواط، وقد تأثر بما شاهده في الصّحراء الجزائرية ممّا دفعه إلى العودة من جديد بعد بضع سنين ليستقرّ في مدينة بوسعادة أين تعرف أكثر على تقاليد المنطقة وعادات السّكان وأصبح يتكلّم العربيّة بطلاقة.
طرأ تحول كبير في حياة «دينيه» بداية من العام 1913م، حينما أعلن إسلامه وغيّر اسمه من إلى «نصر الدين دينيه»، وقد أحدث إسلامه ضجّة في أوساط المعمّرين الفرنسيّين وفي أوساط الطّبقة الفنّية في فرنسا فاتّهموه بالخيانة. لم يكن اعتناقه الإسلام نتيجة تجربة أو تأثّر بسيط، بل كان -كما يذكر- نتيجة بحث ودراسة تاريخيّة معمّقة لجميع الدّيانات. يتحدث عن الإسلام فيقول: ««لقد أكَّد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان؛ إذ هو دين الفطرة، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجة الحضارة». ويصف «دينيه» كيفية تعرُّفه على الإسلام قائلاً: «عرفت الإسلام، فأحسست بانجذاب نحوه، وميل إليه، فدرست القرآن، فوجدته هداية لعموم البشر، ووجدت فيه ما يكفل خير الإنسان روحيًّا وماديًّا، فاعتقدت أنّه أقوم الأديان لعبادة اللّه، واتخذته دينًا، وأعلنت ذلك رسميًّا على رؤوس الملأ».
لم يكن «دينيه» رساماً مشهوراً فقط، بل كان مفكّراً وكاتباً، سخّر قلمه لنصرة الإسلام والمسلمين؛ إذ نشر آراءه في كثير من الكتب التي يتحدّث فيها عن الإسلام، وعظمته، وسعة أفق علمائه، وأنّه لا يقيّد التّفكير بقدر ما هو يوسع المدارك، يردّ فيها على كثير من كُتّاب الغرب المرجفين المشكّكين في حقيقة الإسلام وأهله، من بين مؤلفاته: كتابه الفذُّ «أشعّة خاصّة بنور الإسلام»، وكتاب «ربيع القلوب» و«الشّرق كما يراه الغرب»و«محمد رسول اللّه». وكان لحج «دينيه» إلى بيت اللّه الحرام عام 1928م أثره في أن يؤلِّف كتاب «الحجّ إلى بيت الله الحرام» الذي امتدحه عليه الأمير «شكيب أرسلان» بقوله: «أسلم وحجَّ وألَّف كتابًا عن حِجَّته إلى البيت الحرام من أبدع ما كُتِب في هذا العصر».
وقد تصدَّى كتابه لرحلات المستشرقين الغربيين وما ألّفوه من كتب حول الجزيرة العربيّة،وقد كشف فيه الأغراض المبيتة لرحلات المستشرقين، وأنصف - في الوقت ذاته - المستشرقين الذين تحرَّوا الصّدق والدّقّة في كتاباتهم، كما عالج فيه علاقة المستشرقين بالقرآن الكريم، واللّغة العربيّة، والخطّ العربي والشّعر العربي. وقد أحدث هذا الكتاب دويًّا في دوائر المستشرقين.
كما دافع «دينيه» عن الكتابة بالحروف العربية، مصورًا خطيئة الذين أرادوا إبدال خطّ آخر بها قائلاً: «الكتابة العربيّة هي أرقى نوع فنّي عرفه الإنسان، وأجمل خطّ يستطيع المرء أن يقول فيه من غير مبالغة: إنّ له روحًا ملائمة للصّوت البشري، موافقة للألحان الموسيقيّة».
كما وصف الكتابة العربية بأنّها: «عبارة عن مفتاح يكشف عن ألغاز الحركات القلبيّة الدّقيقة، وكأنَّ حروفها خاضعة لقوّة روح سارية، فتراها تارة تلتف مع بعضها على أشكال هندسيّة بديعة مع محافظتها على جميع الأسرار المودعة فيها، وطورًا تراها تنطلق وتقف بغتة كأنّها معجبة بنفسها، وتارة تراها تنطلق جارية تتعانق، وتارة تتفرّق».
ويضيف: «كلَّما تأمّلت في أشكالها الجذابة أخذت أفكاري إلى أحلام بعيدة، ولا يلزمني أن أكون مستعربًا ولا ساحرًا لأتمتّع بجمالها السّاحر الفريد، بل كلّ إنسان توجد فيه روح الفنّ تأسر قلبه هذه الكتابة».
ويؤكّد أنّ الخطّ العربي يمتاز على سائر الخطوط بكتابته من اليمين إلى اليسار اتباعًا لحركة اليد الطّبيعيّة، فنجد الكتابة أسهل وأسرع من الكتابات التي تكتب من الشّمال إلى اليمين؛ ولهذا كان الفنان الكبير (ليوناردو دافينشي) يرسم ويكتب من اليمين إلى اليسار اتباعًا لقاعدة الخطّ العربي.
ترجم «دينيه» عدّة أعمال من الأدب العربي إلى اللّغة الفرنسيّة للتعريف بروائع هذا الأدب ويحبب الغربيين فيه، من بين أعماله ترجمة لقصيدة ملحمية لعنترة بن شداد سنة 1898.
وبما أن دينيه كان فنانًا موهوبًا، فقد لفت نظره الجانب الجمالي والذوق الرفيع للحياة النبوية، يقول: «لقد كان النبي يُعنَى بنفسه عناية تامة، وقد عُرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال».
«إنَّ حركات الصلاة منتظمة تفيد الجسم والروح معًا، وذات بساطة ولطافة وغير مسبوقة في صلاة غيرها».
في 24 ديسمبر 1929م تُوفِّي «ناصر الدين دينيه» بباريس، وصُلِّي عليه بمسجدها الكبير بحضور كبار الشّخصيات الإسلاميّة، ووزير المعارف بالنّيابة عن الحكومة الفرنسيّة، ثم نُقِلَ جثمانه إلى الجزائر، حيث دُفِنَ في المقبرة التي بناها لنفسه ببلدة (بوسعادة) تنفيذًا لوصيته.